إن قراء المنار بعد الانقلاب العثماني يعلمون أن الجرائد الإسلامية الهندية أول من رمى الاتحاديين بالكفر والإلحاد، وأن المنار كان أول الصحف الإسلامية دفاعًا عنهم، ولما كثر الخلاف في أمرهم رحلنا إلى الأستانة بعد تمهيد مع جمعية الاتحاد والترقي المركزية للقيام بمشروع الدعوة والإرشاد في الأستانة وللسعي في التوفيق بين الترك والعرب، وكانت نواجم الخلاف والتخاصم قد نجمت، وامتدت من العاصمة إلى الولايات. وقد أقمت في الأستانة سنةً كاملة، اختبرت فيها الاتحاديين اختبارًا تامًّا لا أزال أرى في كل سنة من الآيات ما يؤيده، وتقنعني بأنني قد سبقت إلى إدراك ما لم يدركه كله العثمانيون ولا الأجانب. ولو كنت ممن يبيع دينه وقومه بالمال والجاه كالشيخ عبد العزيز جاويش لأمكنني أن أنال في الأستانة من الاتحاديين أنفسهم ما لا مطمع لعربي في نيل مثله، فقد منّاني الاتحاديون أعظم الأماني؛ لأنهم كانوا يظنون أنني ما دافعت عنهم ورددت على من سبق إلى رميهم بالكفر والإلحاد وإفساد هذه الدولة إلا لأن إسلامي سياسي يدور مع المنفعة الشخصية أنَّى دارت. ويعلم قراء المنار أني قد حملت على الاتحاديين بعد عودتي من الأستانة حملات منكرة لم يحمل عليهم أحد بمثلها في الشدة، كما يعلمون أنني لم أكتب شيئًا ينافي مصلحة الدولة العثمانية نفسها، ولا شيئًا ينافي الإخاء الديني بين العرب والترك، فأنا لم أعادِ الدولة ولا التُّرك ببيان فضائح الاتحاديين. بل أعتقد أن كل ما كتبته كان خدمة للإسلام وللدولة، وأن الموافقين لي عليه من علماء الترك وجمهور المتدينين فيهم أضعاف الموافقين لي عليه من العرب؛ لأن الذين كانوا يعرفون مقاصد الاتحاديين الإلحادية من العرب قليلين جدًّا، ولعلهم لم يكثروا إلا بعد أن رأى من رأى خواص العرب في سورية مصلوبين في أعظم مدنها عُمرانًا، وسمع من سمع بأخبارهم ثم بما كان من أمرهم مع الشريف الأكبر أمير مكة المكرمة. وقد كتب بعض العرب العثمانيين من أسرى الحرب وغيرهم مقالاتٍ في مقاصد الاتحاديين وعداوتهم للعرب وللإسلام نشروها في المقطم والأهرام، ظن كثير من المصريين أنها مقالات مصنوعة افتحرها كُتَّاب الجريدتين حتى إن منهم من لم يصدق ما نقل عن كتاب (قوم جديد) وكتاب (اتحاد إسلام) وإنما لم يصدق هؤلاء هذه الأخبار؛ لأنهم لا يريدون أن يصدقوا ما لا يلذ لهم تصديقه، ولو كانوا ذوي غَيْرَة على الدولة والدين وحرص على بقائهما كحرصهم على لذتهم وراحة بَالِهم لتحرّوا وبحثوا عن أصل كل ما يقال في هذا الموضوع؛ ليكونوا على بصيرة من أمر أعظم الأشياء موقعًا من أنفسهم وأهمها لديهم. كان مقصد الاتحاديين خفيًّا ثم عُرف رويدًا رويدًا، ثم اشتُهر وتواترت أخباره في جميع الأمم. وإننا ننقل من ذلك عن جريدة الأهرام ما يأتي: *** الإسلام والجامعة الطورانية كيف يسعى الاتحاديون لملاشاة الحضارة الإسلامية؟ [ *] كتب مراسل شركة (سنترال نيوز) الخاص يقول: في خلال بضع السنوات الأخيرة بدت في بلاد تركيا طلائع حركة جديدة تعرف بنهضة (بني طوران) أو (الطورانية الحديثة) ، وغرضها هدم المدنية الإسلامية وإحياء العصبية التركية على أنقاضها والجمع بين العناصر التركية التترية والشعوب المنتمية إليها، ومنها الأمة البلغارية. أما القائمون بهذا الحركة فهم قوم مشهورون بعدائهم للإسلام وتعصبهم عليه، وكثيرًا ما يجاهرون بأقوالهم وكتاباتهم بذلك الكُره، بحجة أن الإسلام يسعى لقتل العصبية القومية ويحول دون نشوء المدنية التركية؛ ولذلك فهم يسعون لجعل الجنسية التركية مستقلة عن الإسلام كل الاستقلال. ومما يقولونه: إن الإسلام لا محل له في المدنية ولا يمكن أن يعيش طويلاً إلا إذا أدخلت عليه تنقيحات عديدة تلائم المذاهب التركية القومية. ولهذه النهضة وجهتان إحداهما أدبية والأخرى سياسية، فغاية الوجهة الأولى تمجيد الشعوب الطورانية، ونشر تاريخها المجيد، وغاية الوجهة الثانية القضاء على العصبية العربية. فجنكيز خان هو في نظرهم نموذج الملوك ورجال السياسة فكل مملكة ينشئونها يجب أن تقوم على المثال الذي رسمه، وأما العرب في نظرهم فهم مصيبة على الأتراك؛ ولذلك يجب القضاء عليهم أو إدماجهم في العنصر التركي حتى ينسى العالم تاريخهم وتقاليدهم. أما لغتهم فلا بد من محوها وإحلال اللغة التركية محلها في كل صقع وناد. والغريب أن كُتاب الأتراك الحاليين الذين يدّعون بأنهم وطنيون بكل معنى الكلمة ينشرون اليوم المقالات الضافية ويحثون أبناء قومهم على الطواف بجميع أنحاء السلطنة للمناداة بهذه البدعة الجديدة، ومن أغرب ما يُروى من هذا القبيل أن أحد الأتراك طاف حديثًا بسوريا وهو ينادي بهذه الضلالة. والحكومة الاتحادية تؤيد الآن جمعية (بني طوران) وتعززها بالإعانات المالية العديدة، وتسمي تلك الإعانات (بإعانات المالية التركية) وجميع كبار الاتحاديين أعضاء فيها، وهم بعيدون عن الإسلام بُعد الأرض عن السماء، والمسلمون ينكرونهم لما يرون منهم من الاعتداء على حدود الشريعة الغراء. ولا يخفى أن الألمان هم الذين يؤيدون الاتحاديين في هذه السياسة الخرقاء، فقد ثبت لهم الآن أنهم لا يستطيعون إخضاع الإسلام لسياستهم ولا هم نجحوا في إثارة المسلمين الخاضعين لفرنسا وإنكلترا على هاتين الحكومتين. فانقلب زعمهم العطف على الإسلام إلى كره شديد له، وأخذوا يسعون ضده مستعينين على ذلك بالجامعة الطورانية الجديدة. وقد علم العالم أجمع ما كان من أمر المنشورات الألمانية التي اكتشفها الجنرال (سمطس) في موشي والتي كان غرضها سحق الإسلام في المستعمرات الألمانية، ولذلك فألمانيا هي أكبر خطر على الإسلام مع أنها تتظاهر بالغيرة على المسلمين. ليس من ينكر فضل الإسلام على العالم، وما كان لمدنيته من الآثار المجيدة أما الشعوب الطورانية فليس في التاريخ ما يدل على أنها عملت عملاً واحدًا أفاد الإنسانية، بل بالعكس كانت جميع أعمالها تدميرًا وتخريبًا، فالطورانيون لم يستنبطوا شيئًا للمنفعة، بل كانوا حيثما حلوا أخربوا معالم المدنية ومحوا آثارها، واستعبدوا الشعوب التي يقهرونها بأساليب هي في غاية الهمجية. أما ادعاء دعاة الجامعة الطورانية بأن الإسلام قد حال دون نشوء المدنية التركية فغير صحيح، ولا يخفى أن المدنية العثمانية هي خليط من آثار المدنيات العربية والفارسية والبيزنطية، والشعوب الطورانية التي لم تدخل في الإسلام لا مدنية لها على الإطلاق، وإنما هي استعارت شيئًا من الحضارة الصينية، ولو أن السلطة العثمانية قد اعتمدت على المدنية التركية لكانت قد أصبحت في خبر كان منذ أجيال عديدة؛ لأن المدنية التركية كما قلنا، هي تخريبية لا تعميرية، والشيء الوحيد الذي يفوق به الطوراني غيره هو الظلم والجور واضطهاد جميع العناصر التي لا تسبح بحمد الطورانية وتُحَمْدل. وسبب ذلك اعتقاده بأن جميع تلك العناصر وقفت حائلاً بينه وبين تركمان آذربيجان، والقوقاز. هذه رسالة شركة سنترال نيوز، وقد نشرت الصحف الإنكليزية كلها هذه الرسالة وبسطت فيها الكلام بسطًا ضافيًا. ((يتبع بمقال تالٍ))