للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


جزيرة العرب والوحدة العربية
وسعينا لعقد الاتفاق بين الإمامين، وفقهما الله تعالى

قد اضطررنا في السنة الماضية أن نصرح ببعض ما كنا نخفيه تارة، ونشير
إليه تارة، أو نجمجم به آونة بعد آونة، من أنباء سعينا إلى وحدة الأمة العربية
وجعل جزيرتها مركز القوة وأساس الدولة، وما يليها من الأرض المقدسة والمباركة
موطن الحضارة ومورد الثروة، وهو ما بدأت بوضع النظام له، وتأسيس جمعية
(الجامعة العربية) التي كانت خاصة بالأمراء والزعماء، وكنت المتولي لجميع
الأعمال فيها، ومكاتبة أمراء الجزيرة وزعماء الأمصار في سورية والعراق بإمضاء
(الناموس) ، ويرى المطلعون على مذكرات جمال باشا سفاح الترك كتابًا منها وجده
في أوراق أحد شهداء الظلم بسيفه محمد المحمصاني (رحمه الله تعالى) . وأما إمام
اليمن وملك العربية السعودية فهما أعلم الناس بهذه الجمعية وناموسها منذ ٢٣ سنة
كاملة، وقد نشرنا يمينها في ترجمة الملك فيصل - رحمه الله - في المجلد ٣٣ من
المنار.
كان أساس النظام الأول لهذه الجامعة عقد معاهدة حلفية بين أمراء الجزيرة
كما بيناه في العام الماضي، وقد انحصر هذا الحلف بعد استيلاء ابن السعود على
الحجاز في جلالته وجلالة إمام اليمن المستقلين، وأخرنا ضم سلطنة مسقط،
وعمان إليهما، لما كان بين سلطانها وبين إمام الإباضية هنالك من الخلاف، الذي
سعيت إلى تلافيه، واستقلال البلاد بما عرضته على السلطان فيصل بن تركي رحمه
الله في مسقط عند زيارتي له فيها أثناء منصرفي من الهند سنة ١٣٣٠ هـ
(الموافق سنة ١٩١٢ م) فتعذر عليه تنفيذه، ثم وقع بعد ذلك بسنة واحدة من الحرب
الأهلية ما توقعته بالفكر والفراسة، وأنذرت ذلك السلطان وقوعه، كما يعلم ذلك
شقيقه السيد نادر وبطانته في ذلك الوقت.
وكان الملك فيصل الهاشمي رحمه الله آخر من بلغته إياه وأقنعته بتوقفه على
الاتفاق مع ابن السعود صاحب نجد، فوافقني على ذلك كما تقدم في ترجمته، وستأتي
تتمتها.
ولقد كان الإمام يحيى أول من كاتبته وعرضت عليه مشروع الجامعة العربية
وكان ذلك قبل تأسيس جمعيتها التي أشرت إليها بالفعل، ثم تكررت الكتابة إليه
بعدها، ومن بعده كتبت إلى السيد محمد الإدريسي في عسير وإلى الأمير فالسلطان
عبد العزيز السعودي إمام نجد بالأمس، وملك العربية اليوم، وقد كان الإمام يحيى
أول من أجابني مستحسنًا ما اقترحت معتذرًا عن تنفيذه بالشكوى من السيد الادريسي
الذي عبر عنه بالجار بالجنب، ولمزه بالغدر ونقض العهد، ورفض دعوة الود،
وبأنه (حالف أعداء الله الطاليان) - بهذا اللفظ - ولكنه هو عاد بعده فحالفهم محالفة
رسمية مكتوبة، والإدريسي لم يفعل هذا، فأدع الكلام في التاريخ الماضي في مسألة
الجزيرة والوحدة العربية بالحلف وغيره، وأقول كلمة في سعيي للاتفاق بين إماميها
المستقلين بعد استيلاء ابن السعود على الحجاز.
سعينا الجديد للاتفاق بين الإمامين:
لما تم للإمام عبد العزيز الاستيلاء على الحجاز أظهر رغبته في عقد مؤتمر
إسلامي في مكة المكرمة في أثناء موسم الحج، وأرسل إليّ مكتوباته إلى ملوك
المسلمين وأمرائهم وكبار زعمائهم في الدعوة، لأرسلها من مصر، وكان منهم إمام
اليمن بالطبع، ففعلت إلا جلالة ملك مصر فأرسلها هو إليه مباشرة، وظهرت في
إثر ذلك بوادر الجفاء بينه وبين دولة مصر، فبادرت إلى السفر إلى مكة في شوال
لأجل السعي لدى الملك عبد العزيز في تلافي هذا الجفاء، وتمهيد سبيل المودة
والإخاء، لما لي من لسان الصدق والإخلاص الإسلامي في اعتقاد جلالته، وكان
من ذلك ما كان، وبسطته بوقته في المنار كما وقع، لا كما يحرفه الآن بعض
الكتاب.
ولما انتهى المؤتمر الإسلامي بعد أداء المناسك كلها رغب إليّ الملك أن أرجئ
سفري إلى مصر مدة للمحادثة معه فيما أراه من وسائل الإصلاح، فأجبت بل
امتثلت، وكان أهم ما اقترحته مرارًا، وأوسعته إلحاحًا وإلحافًا وجوب عقد المعاهدة
الحلفية بينه، وبين الإمام يحيى، وهو ما كان تكرر مني اقتراحه عليهما، فكان
يظهر لي قبول الاستحسان بشيء من الفتور وقلة الاهتمام، أتأوله بضيق الوقت
وسعة النطاق في موضوعات الكلام، حتى إذا ما سنحت فرصة سمر لنا على سطح
قصره - حيث كنا نسهر - عدت إلى إلحاحي لقرب موعد سفري؛ فأجابني بما هو
ملخص ما تقدم من الكلام متفرقًا.
وقال: إنني والله وبالله وتالله لا أنوي التعدي على بلاد الإمام يحيى، وإنني
أرغب أصدق الرغبة في مودته ومحالفته، وإذا قَبِل اليوم أن نعقد محالفة هجومية
دفاعية بيننا فلا أُرجئ عقدها إلى غد. وأذن لي أن أبلغ وكيله في المؤتمر السيد
محمد عبد القادر هذا عنه، وقال إنه مستعد للتصريح له إذا اقتضت الحال.
ثم قال ما فحواه: وأما إذا كنت تخاف أن يعتدي الإمام يحيى علينا فكن
مطمئنًا بأن وبال ذلك يكون عليه، فنحن بفضل الله وعنايته أقوى منه. بل قال إنه
يستطيع أن يطارده في بلاده من جهتين أو ثلاث، وإنه إن شاء وجد من أهل البلاد
التابعة له من يخرجون معه عليه؛ لأن أكثرهم ساخطون لا راضون منه.
وإنني قد بلغت الشق الأول من هذا الحديث لوكيل الإمام السيد محمد عبد
القادر الذي كان عامله على الحُديدة، وكتبت إلى الإمام به كتابًا أعطيته لوكيله هذا
بيده.
ثم تركت ذلك إلى الإمامين حتى إذا ما خاب الوفد الأخير الذي أرسله الملك
إلى صنعاء في العام الماضي، وتجدد الشقاق، ورأيت من خلل الرماد وميض نار
ما خشيت أن يكون له ضرام، عدت إلى السعي للاتفاق من أوله، بما يعلم تفصيله
من المكتوبات الآتية (ومنها تعلم قيمة ما يدعيه محبو الشهرة من السبق إليه بإرسال
البرقيات، ومحاولة تأليف الوفد بعد فوات الوقت) .
أقتصر من هذه المكتوبات على أكثر ما دار بيني وبين جلالة الإمام يحيى
الذي كنت أشك في إقناعه؛ لما أعلم من طباعه وسياسته السلبية، ومن كون الخطر
عليه من الحرب أقوى؛ ولأن المكاتبة بيني وبين الملك عبد العزيز فيها من الحرية
والصراحة التامة في جميع المسائل ما لا يجوز نشره، إلا أن يكون بإذنه بعد العلم
بالمصلحة فيه؛ ولأنني أعتقد أن إقناعه سهل إذا قنع الآخر بالوفاق، لتصريحه لي
بعد إعلامي بتجهيز الجيوش وزحفها في شهر رمضان؛ بأنه لا يبغي بذلك إلا إقناع
يحيى بقوته، وإنها الوسيلة الأخيرة لإقناعه بعقد المحالفة إذا كان مثله يكره الحرب
كما يظن به، حتى إذا ما يئس من إجابته، وأعلن له الحرب بقطع مفاوضة أبها،
علمت أن قد بطل قول الألسنة والأقلام، وأعطى القول الفصل للحسام، فلن يقبل
الملك لأحد قولاً إلا من بعد حكمه، هذا هو الرأي كما بيَّناه في الجزء الماضي،
وسيعلم الإمام وأنصاره بما يضر ولا ينفع من الكلام، من نصح له عن إخلاص
وعلم، ومن غشه بالدهان وقول الإثم.
***
المكتوبات بين صاحب المنار وجلالة الإمام يحيى
في
التنازع الأخير بينه وبين جلالة الملك
عبد العزيز آل سعود

المكتوب الأول في ٢٤ ربيع الأول سنة ١٣٥٢
(بسم الله الرحمن الرحيم)
من محمد رشيد آل رضا إلى حضرة صاحب الجلالة الإمام الهمام، سليل
الأئمة الأعلام، عليهم السلام.
السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، أما بعد فقد
أزعجنا وأمضنا نبأ مرضكم، وما كدنا نبتهج بنبأ نقاهتكم، إلا وتلاه النبأ الصادع
بوقوع الشقاق بين حكومتكم والحكومة السعودية، المنذر بقرب وقوع الحرب،
وبخيبة الأمل الذي كان ينتظره كان عربي مخلص لأمته وكل مسلم لملته،
وحريص على سلامة مهد دينه، من عقد الحلف بينكم وبين الدولة العربية السعودية
بمساعي الوفد السعودي الذي كان في رحابكم منذ أشهر؛ إذ تجاوبت الأنباء بأن
الوفد كان في صنعاء كالمحجور عليه، وأنكم أذنتم له بالرجوع أدراجه بعد
إلحاح ملكه بالطلب؛ فانقلب خائبًا مخذولاً، إلى ما أنتم أعلم به، ولا يعنينا تفصيل
جزئياته، ولا تحقيق مقدماته، وإنما تعنينا النتيجة، وهي تسوء كل عربي وكل
مسلم، إلا الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ولو علمتم بسوء تأثيرها في
مصر، وسورية، وفلسطين لهالكم، ولتجافى بجنبكم عن مضجعكم، ولعلمتم أنه
لولا عذر الناس لسيادتكم بمرضكم لخسرتم بهذه الحادثة ما لكم في القلوب من السيرة
الحميدة في العقل والرأي والتقوى، والحرص على حفظ سلطان الإسلام وحكمه،
واستقلال الجزيرة العربية، وسد ذرائع تسرب النفوذ الأجنبي إليها، وخطره على
بلادكم أشد، ولا شك أن حرم الله تعالى ورسوله عليكم أعز، ولكن الأمل فيكم لم
ينقطع، ولن ينقطع إن شاء الله تعالى، وقد تضاعف الإعجاب بأخيكم الملك
السعودي: دينه وعقله وحكمته؛ إذ علموا بما أبرق إليكم في الخطب المدلهم.
أيها الإمام الحكيم، التقي الحليم: لقد علم الرأي العام الإسلامي، ولا سيما
العربي، أنه لو فُجعت الأمة بكم في هذا المرض، لقضى ولي عهدكم الشاب على
جزيرة العرب، فهو - أي: الرأي العام - يرجو أن تبادروا قبل كل عمل إلى
الاتفاق مع أخيكم الملك الحكيم، على التحالف والتعاون على حفظ هذه الجزيرة
المقدسة من دسائس الأجانب والمفسدين، وعلى عمران المملكتين اللتين وكل الله
أمرهما إليكما، وتعزيز قوتهما في حياتكما الشريفة العزيزة قبل أن يؤول أمرها إلى
أنجالكما، الذين لا تضمن أمتكما وملتكما أن يكون لهما من الحكمة والخبرة والروية
مثل ما آتاكما الله تعالى، إلا أن يتربوا في كنفكما، وظل ما تضعان من النظام، وما
تنفذانه منه لإعزاز الإسلام بعز العرب في جزيرتهم ومنبت أرومتهم ومهد دينهم
و (إذا ذلت العرب ذل الإسلام) كما قال الصادق المصدوق عليه وعلى آله السلام،
ولا ذل للعرب إلا إذا ذلوا في جزيرتهم، وحصن دينهم، ومأرزه الوحيد
في هذا العهد - عهد تداعي الأمم عليهم - كما نطقت به الأحاديث النبوية الصحيحة
الصريحة وسيادتكم أعلم بها.
أيها الإمام العليم، الحكيم الحليم
مهما يكن عليه أمر الحدود بين اليمن السعيدة والمملكة السعودية من حق
سياسي أو جغرافي، فلا قيمة له تجاه الاتفاق والتحالف بين المملكتين، فكل منهما
واسع الأطراف، قابل لأضعاف ما هو عليه من العمران، فلا يعذر أحد منكما
بتعريضه للخراب؛ لأجل توسيع حدوده بحق أو باطل، وأما إذا اتفقتما وتحالفتما
تحالفًا صريحًا، وعاهدتم الله تعالى والأمة على الإخلاص في الولاء والتعاون، فإن
كلاًّ منكما يأمن على حدوده، ويخلو له الجو لعمران بلاده، وجعل استعداده الحربي
موجهًا إلى أعداء الله وأعداء قومه، وذلك ربح لا يعلوه ربح، وهو ما يطالبكم به
الدين وأهله أجمعون.
أيها الإمام: إن جزيرة العرب هي تراث محمد رسول الله، وخاتم النبيين،
للإسلام والمسلمين، لا لعبد العزيز الفيصل السعودي ولا ليحيى حميد الدين،
فاختلافكما وتعاديكما يضيع الإسلام، ولئن ضاع في جزيرة العرب فلن تقوم له
قائمة في غيرها، فجميع المسلمين تحت سلطان الأجانب، إلا قليلاً من الأعاجم،
أنتم تعلمون حالهم، وما ينتظر من مآلهم، فيجب أن تتذكرا هذه التبعة، وتتقيا الله،
وتحرصا على حسن الخاتمة والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
(حاشية) قد كتبت إلى الإمام عبد العزيز ملك العربية السعودية بهذا المعنى
أيضًا.
* * *
جواب الإمام يحيى عن المكتوب الأول
(ختم إمارة المؤمنين)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
السيد العلامة الأستاذ محمد رشيد رضا حفظه الله، وأدام عليه نعمه، والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.
قد تناولنا كتابكم الكريم، وشكرنا ما أظهرتموه من الغيرة المحمودة بإزاء ما نفخ
به الشيطان في مناخر من لا خلاق لهم، ولقد عجبنا واستغربنا جدًّا ما يشيعه خدمة
الدرهم والدينار، وما يشوهون به وجه الحقيقة الذي هو أجلى من شمس النهار من
توتر العلاقات بيننا وبين حضرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن حرسه الله،
وحصول مقدمات الحرب، والتأهب من الطرفين لاقتحام مجال الطعن والضرب مع
ما ينسبونه إلينا من إرادة ذلك، وما ينسبونه إلى ولدنا العلامة سيف الإسلام أحمد
ابن أمير المؤمنين حفظه الله من التشوق لإضرام نار الحرب، وكل ذلك محض
الافتراء، وقد خاب من افترى، فإنه ولله الحمد لم يحدث ولم يتجدد الآن بيننا وبين
حضرة الملك عبد العزيز ما يقدح زند العدوان، فما حدث إلا الجميل وحسن
الرعاية من الطرفين، وحتى الآن المراجعات الودية بيننا مستمرة، والأحوال كما
هي عليه مستقرة، وكيف يكون من مثلنا سعي يخالف صالح المسلمين، وإقامة
شريعة سيد المرسلين؟ وهل يقبل العقل السديد أن يكون منا الآن إثارة فتنة تخالف
صالح الإسلام والمسلمين؟
والحال أنا ما زلنا ولا نزال نسمع من شعبنا السعيد ما يثير الحفيظة مما كان
بتنومة من قتل نحو ثلاثة آلاف مسلم آمين بيت الله الحرام، لأداء فريضة الإسلام،
ويرفعون بذلك عقائرهم، ولم نزل نصبرهم بحسن العبارات، وألوان الاعتذارات،
ولم يمكن لنا أن نصدع حضرة الملك بذلك، مع أنا حكمناه في ذلك عقيب الواقعة
وأجاب بكل إنصاف، أفهذا السكون يكون من مريد لتأجج جحيم الهيجا، يا ذوي
الحجى؟ كلا.
ولقد علم من تحت أديم السماء ما كان من فصل قطعة من اليمن الميمون عن
أمها اليمن الخضراء مع علم كل ذوي العقول أن قطعتي عسير وما إليها، وجازان
وما إليه، هما من اليمن جغرافية ونسبًا، ومع ذلك فلم يصدر منا غير الجميل، بل
كان منا السعي الكامل للإصلاح في الفتنة الناشئة بين السيد حسن الإدريسي وبين
حضرة الملك عبد العزيز ولم نقل جآن لما عندي مزاجًا، أفيكون هذا من مريد لبذر
البوس، واقتباس نار أحر من نار حرب البسوس؟ كلا ولكنها الأهواء عمت
فأعمت.
وأما ولدنا سيف الإسلام أحمد ابن أمير المؤمنين فلم يكن من أعلاج الأغتام،
وإنما هو بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن العلماء العاملين، وإنه
لأشد الناس رعاية للصداقة بيننا وبين حضرة الملك عبد العزيز، وإنا نعلم يقينًا
ردوده على المحرشين بأعظم رد، فليكف المفترون عن أقوالهم المزورة،
وليستحيوا من العالم بأكمله لافتضاح لهجاتهم الكاذبة مرة بعد مرة، إن كانت لهم
ديانة ورعاية لمكارم الأخلاق، فقد أوضحنا لكم الحقيقة برمتها حيث شاهدنا في
كتابكم، وفي غيره ما يوحي إلى اعتقاد أن المنشور في الجرائد من قبيل الحقائق،
وما كنا نؤمل أن تخفى عليكم مصادرها، ومن هو الملوم فيها، وثقوا بأنه لا يكون
أي اندفاع إلى خصام، ولا امتشاق حسام، مهما استمرت الحالة على ما كانت من
قبل، سواء كان إسعافنا بإنصاف، أو بقيت الحالة على ما هي عليه لم ترع لنا فيها
الحقوق، والحامل على هذه الطريفة هو رعاية ما فيه صالح الإسلام والمسلمين،
هذا والدعاء مستمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ٢٢ جمادى الأولى سنة
١٣٥٢ هـ.
* * *
المكتوب الثاني إلى الإمام
في ٦ جمادى الآخرة سنة ١٣٥٢

(بسم الله الرحمن الرحيم)
من محمد رشيد آل رضا إلى حضرة صاحب الجلالة الإمام الهمام، سلالة
الأئمة الأعلام، عليه وعلى آله السلام.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، أما بعد
فقد تشرفت أمس بكتابكم الجوابي، فسررت جد السرور ببشارتكم إياي بما شرح
الصدر في مسألة العلاقة بينكم وبين أخيكم في الدين، وصنوكم في حراسة جزيرة
العرب، وتنفيذ وصية جدكم خاتم النبيين، وكون الخلاف من الهيئة العارضة، لن
يكون ذريعة لسفك الدماء، الذي يتمناه أعداؤنا الأجانب، وسفهاؤنا الغوغاء، وهذا
ما كنت أعتقد في دينكم وعلمكم وعقلكم وحلمكم وتجاربكم، ولكنني لا أنكر أنني
كدت أصدق ما يقوله الكثيرون في مشرب نجلكم سيف الإسلام أحمد عليه السلام،
على أنني كنت أقول لهم: إنه إن صح ما يقال في رأيه ومشربه، فلن يصح أن
يخالف أمر أبيه وإمامه، وطاعته واجبة عليه لوصفيه كليهما، وانحصر طوقي في
المستقبل، كما أشرت إليه في كتابي الأول. وأقول الآن: إنني مستعد كالأول أو أشد
لإعادة السعي لما سبقت جميع الناس إليه من شد أواخي الإخاء، وإتمام مقدمات
الحلف بينكما، وأتمنى أن تجدوا لي طريقًا وسطًا في تعديل الحدود بين المملكتين
أدنى إلى العقل والشرع مما صرحتم به في كتابكم من عد قطعتي العسير وجازان
وما إليهما من عقر دار اليمن الميمون جغرافية ونسبًا وأمًّا وأبًا؛ فإن في هذا القول
مقالاً، ولعل التساهل فيه والحال كما تعلم خير مآلاً، ولو قلتم هذا أولاً لكان عذركم
أظهر عند الأكثر، أما وقد أقررتم ما كان، فقد قامت عليكم الحجة والبرهان، ولا
يزال الوقوف في الوسط مع التواد في حيز الإمكان، فإذا عهدتم إلى هذا الداعي
بالسعي إليه، بذل جهده في الحصول عليه.
وأما مسألة التعويض على أهل القتلى من الحجاج فلكم فيها كل الحق [١]
وتعلمون أنني كنت أول الساعين إليه، ولما تم التواصل بينكم وبين الملك عبد
العزيز تركت ذلك إليكما، وقد بدأت اليوم بالتذكير به بما كتبت إليه قبل هذا، فإن
كنت أعلم أن تنفيذ الطلب في هذه الأيام متعذر، فإنني لا أشك في أنه يكون بعد
زوال الغمة أول متيسر، وإني منتظر أمركم، وقد جربتم كتماني لما يجب كتمانه
ولما لا يجب، لا كالذين يتبجحون بنشر كل ما تكتبون إليهم، وما يكتبه إليه كل
عظيم وإن كان دونكم.
هذا وإنني قد سررت من الوجهة العلمية الدينية أشد مما سررت من الوجهة
السياسية بما تفضلتم به عليّ من البشارة باستحسانكم لكتابي (الوحي المحمدي)
واحتمال توجه عزمكم إلى إعادة طبعه، وأبشر جلالتكم بأنه قد نال استحسان
العلماء والعقلاء في جميع الأقطار الإسلامية، ولا تزال تأتينا المكتوبات منها
بتفضيله على كل ما كتب في إثبات النبوة المحمدية وإعجاز القرآن والدعوة إلى
الإسلام من الوجوه اللغوية والعقلية، والاجتماعية السياسية، وقد شرعوا بترجمته
بعدة من اللغات الشرقية والغربية ... إلخ [٢] .
والسلام عليكم، وعلى نجلكم، وولي عهدكم سيف الإسلام، وسائر أنجالكم
الكرام عليهم السلام
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
***
جواب الإمام عن المكتوب الثاني
(الختم الإمامي المعروف)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
حضرة السيد العالم الفاضل، والجهبذ الفذ الكامل، صاحب المنار محمد رشيد
رضا المحترم حفظه الله، وشريف السلام عليه ورحمة الله وبركاته.
وصل كتابكم الكريم، وأحسنتم بما أفدتم، واعلموا - عافاكم الله - أنا صرحنا
لحضرة الملك عبد العزيز أن يكون ربط الأواصر، مع إبقاء الحالة في عسير على
ما هي عليه، فإنا نكره تجزئة اليمن، وفصل قطعة منها عن أمها الطبيعية، وأن
مثل هذه المسألة هي التي أخرت المعاهدة بيننا وبين إنكلترا، وآخر الكلام كان
البناء مع إنكلترا على تأخير البت في شأن الأراضي التي يدعونها تحت الحماية إلى
المستقبل وتكون المذاكرة عنها، ثم إن كراهيتنا لعدم الخوض في الأراضي
العسيرية بيننا وبين حضرة الملك عبد العزيز، وإبقائها كما هي عليه الآن، ليس
المراد به أنا سنهاجم، كلا، بل صرحنا لحضرة الملك عبد العزيز في جملة برقيات،
أن من المحال أن يحصل منا عدوان قطعًا حتى الممات، ولا نعلم بعقد كلام في
شأن تلك الأراضي.
وفي شأن السيد الحسن الإدريسي. كتبنا لحضرة الملك أنا حاملون بوجهنا
وذمتنا أنا لا نساعده على عدوان، ولا نرضى له، وهو عدونا ليس بيننا وبينه
صداقة، وإنما حملنا على الخوض في مسألته محبة صلاح الشأن بينه وبين حضرة
الملك، وتسكين الثورة الشيطانية التي حدثت بتلك الجهة، ثم تعويل الحسن علينا،
وأشار إلينا حضرة الملك أن بعض الناس من الذين يريدون بذر الشقاق في البلاد
العسيرية يترددون بين مصوع وبعض مراسينا فأمرنا بمنعهم من الدخول إلى بلادنا،
وطرد من كان منهم في بلادنا [٣] وأشار حضرة الملك إلى أن قرب السيد الحسن
الإدريسي من تلك الجهات ربما يكون مصدر شر، فكان منا إقناع السيد الحسن
بحسن انتقاله إلى جهة في بلادنا تبعد عن تلك الجهات بمسافة ثلاثة أيام، وعلى
الجملة فاعلموا يقينًا أنه لا يكون منا أدنى عدوان ما دمنا على الحياة.
وولدنا سيف الإسلام حفظه الله هو من أحرص الناس على حفظ الصداقة بيننا
وبين حضرة الملك، وإذا بلغكم ما يخالف هذا فكذبوه، ثم كذبوه.
وإنا لنعجب لما تنشره بعض الجرائد مما نظنه كذبًا كما هي عادة الجرائد من
التجنيد والتجيش والتجهيز من جهة حضرة الملك عبد العزيز؛ إذ ليس لذلك من جهتنا
ما يحمل على ذلك غير ما عرفناكم ههنا من الكتابة الودية، وكامل التأمينات
لحضرته بعضها مؤكد بالأيمان، على أنا نعلم أن بالشقاق بيننا وبين حضرته كل
بؤس وضرر على العرب عمومًا، بل وعلى المسلمين، وإنا نستعيذ بالله من ذلك،
ومن أن يكون لنا سبب لما هنالك، هذا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... حرر في ٢١ جمادى الآخرة سنة ١٣٥٢هـ.
***
المكتوب الثالث أو الرابع إلى الإمام في ٢٥ رجب
من محمد رشيد رضا إلى حضرة الإمام الهمام، سليل الأئمة الغر الميامين،
جلالة الإمام يحيى حميد الدين، عليه وعلى آله السلام.
السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، أما بعد فقد
حظيت بكتابكم الكريم المؤرخ في ٤ رجب، وبتقريظكم الشريف لكتاب الوحي
المحمدي فسررت بهما، ولكن ساءني أنني لم أجد في الكتاب ما يفتح لي باب
الخدمة لما عرضته من رغبتي في السعي للصلح بينكم وبين أخيكم الملك عبد
العزيز آل سعود، على أساس تعديل ما بين المملكتين من الحدود، لعقد المحالفة
التي تحول دون الخلاف في الحال والمآل، وتكون بها قوة كل منكما يدًا واحدة على
من عداكما، إذا عاداكما أو عادى واحدًا منكما.
ولكنني رأيتكم تعدون العسير برمتها كنجران من عقر دار اليمن، وأن بقاء
حكمه في أي جزء منها مانعًا عن عقد حلف بينكما، وأن قصارى الأمر أنكم لا
تقصدون الآن نزعها بالقوة الحربية.
وهو لا يعترف لكم بهذه الدعوى، وتعلمون ما يتهمكم به [٤] ، وبقاء هذا الحال
غير ممكن، لهذا ساق جيوشه إلى الحدود؛ ولأنه يعتقد أن سبب رفضكم لإمضاء
العهد، وما عاملتم به الوفد، وبقاء قواتكم على الحدود، إنما سببه كله اعتقادكم أنه
ضعيف، وأن ضعف قوته سيلجئه إلى الاعتراف لكم بالبلاد العسيرية كلها جبالها
وسواحلها، وكتب إلي أنه يرجو بإرساله قواته إلى الحدود ومواجهتها لقواتكم أن
تجنحوا للسلم، وتفضلوها كما يفضلها على الحرب، وتجيبوه إلى ما يدعوكم إليه
من عقد العهد، واشتداد الود، ولكن فاجأتنا البرقيات اليوم من رومية باشتعال نار
الحرب، فوجلت القلوب، واضطربت الأفكار، وبتنا لا نهتدي إلى الوساطة سبيلاً،
إلا أن تهدونا إليها مما تجدونه معقولاً، وما هو في رأينا إلا الاعتراف بالحال
الحاضرة في عسير، مع تحديد عادل في نجران، يبقى فيها حد نجد كما كان،
ويعترف لكم بما كان مستقلاًّ منها قبل الحوادث الأخيرة، إن لم يكن مرتبطًا فيها
بعهد سابق يحتاج إلى المفاوضة. هذا ما خطر ببالي اليوم أنه لا يزال ممكنًا، كتبت
به إلى جلالتكم، ولم أكتب إليه شيئًا جديدًا، وإني منتظر لأمركم بالبرق والبريد؛
لأنهض بما أقدر عليه من خدمة للإسلام، ولميراث محمد صلى الله عليه وسلم
لقومه وأمته، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
***
جواب الإمام عنه وهو الأخير
(الختم)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
حضرة السيد العلامة المحقق، بحر العلوم المتدفق، محمد رشيد رضا
الحسيني منشئ مجلة المنار الغراء، حفظه الله من بين يديه ومن خلفه، وأتحفه في
جميع مواقفه بالمعين من لطفه، وشريف السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قد تناولنا كتابكم الكريم على الحقيقة، لما يحويه من البيان الجميل والإشفاق
بتلك الحمية على مُثْلَى الطريقة، فشكرنا لكم ذلك النصح وذاك التطوع، ودعونا
لكم بدوام التوفيق وحسن التشيع، وقد عرفنا من كتابكم أن مصدر ما استحوذ به
القلق ليس إلا تلك المنابع المعلومة، وهي عن التحري فيما تنقل بمعزل، ولا يوجد
ما يحملها على تحري الصدق في النقل، بل دواعيها محصورة في ترويج بضاعة
الكذب، وربما كان الكذب مقصودًا لذاته، وإذا عرفتم أن الحالة السابقة هي الآن
كما كانت لم تتغير، والمراجعات بيننا وبين حضرة الملك عبد العزيز مستمرة،
والاتجاه فيها إلى السلم أوضح مما سواه، وأنه لولا وجود شرذمة من شذاذ الأقطار
يلقون فيما نظن إلى الملك عبد العزيز ما يثير الحفيظة لما تغير من الوضعية التي
استمرت طوال السنين شيء يذكر، اتضح لديكم مقدار ما في الأخبار المفتعلة من
الكذب والتقول بما لا أصل له، وقد أوضحتم ما لأجله كان حشد الجنود، من الملك
عبد العزيز بن سعود.
وكان يكفي لدفع تلك التوهمات، ونفي اتخاذ الحالة الراهنة فرصة تذكر
الحالات الماضية، وهي كثيرة الصور دالة على أنا لا نتحين فرصة، ولا نبغي له
غصة، وإلا فما الحامل على ترك إعانة ابن عايض ومخالبه ناشبة فيها من أقصاها
إلى أدناها، ولم تطأها قدم نجدي إذ ذاك، وعلى ترك إعانة الأشراف في الحجاز
بعد التوسل إلينا في كلتا الحالتين بما هو فوق المرغوب.
وكذلك رأينا فيما جرى بعدها من الأطوار، وحتى الآن لم يتجدد شيء سوى
التأديب لقبائل يام، الذين ضررهم على المنتمين إلى الملك عبد العزيز من القبائل
الذين وراءهم، أكثر من الضرر على من ثبتت أقدامهم على طاعتنا من القبائل
المجاورة لهم من جهة الجنوب، وقبائل يام يمنية، ولم يكن التعرض لهم إلا بعد أن
كتبنا إلى حضرة الملك عبد العزيز أنهم يمنيون، بل هم مصاصة قبائل اليمن، وإنا
لم نتركهم إلا خشية أن تتشوش الأفكار، فرجع منه الجواب بأنه لا كلام له منهم،
وغاية الأمر أن بينه وبين أهل وادي نجران الذين هم بعض قبائل يام بعض تملقات،
ثم بعد هذا وصل منه ما هو أصرح، والبرقيات لدينا محفوظة، وليت أنكم
تصلون إلينا لعرض كل المكاتبات عليكم؛ فسيظهر لكم منها ما لم يكن في حسبانكم
من إنصافاتنا.
أما المعاهدة فإننا أفدنا الوفد أنه لا بأس بها غير أنه لا يمكن لنا أن نقرر
انفصال جزء من اليمن عنه؛ لكنها تكون المعاهدة مبنية على إبقاء بلاد عسير وما
إليها على حالتها التي هي عليها الآن، وإذا كان من الوفد كلام بأنه كان منا أدنى
جفاء فسنرجع أمره إلى الله؛ فإنه لم يعزم إلا على غاية من الرضا والشكران
ومحرراته لدينا محفوظة، غاية الأمر أنها طالت مدة لبثه ههنا، فهل في المرض
الذي كاد أن يقضي علينا عذر يوجب تأخر تسريحه؟ إنا لا نظن أيًّا كان لا يعذر
في مثل ذلك المرض، وإنا لنظن أن الذي غير نهج حضرة الملك عبد العزيز، إنما
هم خَدَمَةُ الإفرنج الذين يتلذذون بإهراق دماء المسلمين، وهدم عزهم، وانحطاط
علو شأوهم تقربًا بذلك إلى أعداء الإسلام، مع فرار داعي الباطنية المكرمي
ومنصوبه من بدر إلى أبها عسير لدى أمير حضرة الملك عبد العزيز بأبها.
ولا يخفى عليكم ما عليه الباطنية، وارتباط باطنية الهند بهذا الداعي،
وإمدادهم إياه، ولو كان الإمعان بإنصاف، لكان العلم بأنه لا حق لأحد غيرنا في
الكلام عن بلاد يام؛ لأنه لا راية فيها منصوبة، ولا هي من غير بلاد اليمن
محسوبة، وقد رأينا في منشورات الجرائد عن المصادر المعلومة والمجهولة كذبًا
صراحًا، بأن المصادمات بين الجيش اليمني والنجدي قد وقعت، وأن الجيش
اليمني زحف إلى بلاد الدواسر وبلاد نجد، والحقيقة أنه لا شيء من ذلك أصلاً، لا
صدام ولا التحام ولا زحف، بل الواقع أن الولد سيف الإسلام بعد أن بلغ إليه قرب
الجيش النجدي من الحدود أمر الجيش اليمني بتخلية بعض المواقع التي كان يحتلها،
بعدًا عن التحاك الموجب للاشتباك، وهو بصفته تقهقر اختياري أريد به ما أوضحناه
من التباعد عن موجبات تحقق أحلام المفسدين، والمتوسم عند تحرير هذا
أنه لا يكون شيء من التشاجر إن شاء الله، فلا يوجد لذلك من الدواعي والأسباب
ما يقتضي تبرير وقوعه، وبالله المستعان، والدعاء مستمد، والسلام لتاريخه
١٨ شعبان سنة ١٣٥٢.
((يتبع بمقال تالٍ))