للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


النميمة والسعاية [*]
قلنا في مقالة سابقة: (إن التهذيب روح للوجود الطبيعي والمدني والسياسي،
تنال به هذه الوجودات سعادة الحياة وحياة السعادة) ، وقد يخفى على كثير من
القراء وجه الارتباط بين التهذيب وبين حياة هذه الموجودات وسعادتها، وإن كنا
أثبتناها في تلك المقالة بالبرهان، ونحن نشرح لهم الآن حال خِلّة واحدة من الخلال
المذمومة، وتأثيرها في إفساد المجتمع الإنساني، وصدها عن المدنية الصحيحة
التي هي سعادة الأمم، وهي النميمة والسعاية فنقول:
النميمة كشف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول له أو غيرهما،
وإذا كان الكشف إلى مَن يخشى جانبه سمي: سعاية.
اتفقت التعاليم الدينية والعقول البشرية على أن هذه الخلة الذميمة إحدى الكبر،
لا تذر شملاً إلا فرقته، ولا جمعاً إلا شتته، وأنها مولدة الفتن، ومقطعة الروابط
الاجتماعية، تدع الإنسان يفر من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وتقلب
الحقائق، فتجعل المحسن مسيئاً، والصديق عدوًّا، وتسم الأمين بسمة الخائن، وتبرز
النافع في صورة الضار، وتلبس الإصلاح ثوب الإفساد، وتقيم من الفضائل تمثالاً
للرذائل فهي من أدواء الأمراض الروحية التي تعرض في الأمم فتفسد نظامها،
وتمزق نسيج التئامها، وتقوض هيكل عمرانها، هذه الرذيلة تبنى على ثلاث رذائل
هن أثافي الذل (كما قال بعض الفضلاء) :
(١) الكذب الذي هو شر الشرور، ومفجر طوفان الفجور، ورافع الثقة من
بين الجمهور، مقرب البعيد ومبعد القريب، وطامس أعلام العلم، ودارس منار
الحق، ومقرر أصول الجهالة، آفة التجارة والكسب وسائر المعاملات، محلل
العقود، وناكث العهود، فلا يتم له نظام، ولا يتأتَّى معه التئام.
(٢) الحسد الذي يقطع صلات الأرحام، ويزعزع أركان النظام، ويعشي
عين البصر والبصيرة، فتبصر الحق باطلاً، وتشاهد الحالي عاطلاً، يحول دون
التعاون والتناصر، والتكاتف والتعاضد، ويبعث على التخاذل والتدابر، ويحمل
ذويه على أن يبخسوا الناس أشياءهم، ويعيثوا في الأرض مفسدين، فهو عدو
المدنية الألد، وخصمها اليلندد.
(٣) النفاق الذي يفسد الطباع، ويغير الأوضاع، ويذهب ببهاء المحمدة
الحقة من الوجود، بما يمنح من الألقاب الجليلة، والنعوت الجميلة، لأصحاب
مظاهر الفخفخة الكاذبة، والنفخة الباطلة، يختلس أجور العاملين فيهبها للكسالى من
أهل البطالة، وينتهب ثمرات زرّاع المنافع فيغذي بها العائثين من ذوي المطامع،
فهو بما يحبط من العمل، مدعاة للبطالة والكسل، ومفسد لنظام الإنسان، ومقوض
لدعائم العمران.
رذيلة واحدة من هذه الرذائل الثلاث كافية لإشقاء أمة تَلبَّس بها أفرادها، فكيف
بها إذا اجتمعت؟ وإنما تجتمع مع السعاية والنميمة، حمانا الله تعالى منها.
إن أقبح الوشاية أثرًا، وأشدها ضررًا، هو ما يسمونه (بالمحل والسعاية) ،
وهو ما يقتُّه المذَّاعون [١] ، ويبثُّونه للأمراء والسلاطين، عن أحوال العمال ونحوهم
من خَدَمَة الدولة والأمة.
هذا هو النوع من الوشاية لا يتجرأ عليه إلا الخائنون لسلطانهم، العاملون على
خراب أوطانهم.
مَثَلُ السعاة والمحَّالين في الأمة مثل الدود الخبيث الذي يدب في الزرع، فيهلك
الحرث، ويحول بين العاملين وبين ثمرات أعمالهم، بل يحرم الأمة كلها من
الانتفاع بأبنائها العاملين، وإن شئت قلت: مثلهم كمثل ميكروبات الأوبئة والأدواء،
تفسد نظام البنية الإنسانية الشريفة من حيث لا يرى دبيبها، وتفتك بالأجسام، ولا
تنال منها عوامل الانتقام، {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ
يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} (النساء: ١٠٨) .
رب صاحب عزيمة، وطريقة قويمة، ينهض لخدمة دولته، ويسعى في
منفعة أمته، يتجشم المصاعب ويتحمل، لكنه لا يكاد يخطو إلا بعض خطوات،
حتى يتصدى له السعاة المحالون، فيقيمون في بعض طريقه العقاب والتضاريس،
ويلقون فيه الشوك والحسك، ويخدون في بعضه الأخاديد، ويحتفرون العواثير،
فإما أن تصد السالك عن المضي في سبيله العقاب التي تساوره، والصعاب التي
تدافعه، فتنحل عزيمته، وتنفصم عرى إقدامه، فينكص على عقبيه، ويرتد إلى
ورائه، فيسرح في مسارح الكسالى، ويرتع في مراتع محبي الراحة والخمول،
حيث مرعى النفاق خصب مريع، ومورد اللهو عذب نمير. وإما أن يتردى في
إحدى العواثير ويتدهور في بعض الهوى والأخاديد، فيندق عنقه، وتفيض روحه،
ويلتحق بشهداء الحق الذين قضوا نحبهم تصبراً، وما قضوا من نجاح أوطانهم
وطرًا، وذهبوا بما كانت تنتظر أممهم من قواهم الفائقة، وعزائمهم الصادقة.
يا سبحان الله! ماذا يسهل على نفوس بعض البشر حمل هاتيك الأوزار،
ويدفع بها إلى الاستهانة بتلك الأخطار؟ يفتك قاطع الطريق برجل ليبتز ماله،
ويتعدى اللصوص على بيوت الناس ليسرقوا متاعهم، فيتبلغوا به في معيشتهم، أو
يمدوا به أديم ثروتهم، فمضرات هؤلاء محصورة، ومثاراتها معقولة، وهي لا
تمس المصالح العامة التي هي مناط سعادة الأمم، وبها قوام مدنيتهم. لكن الوشاة
والسعاة ينسفون منافع أممهم من حيث لا يعود على نفوسهم الخبيثة إلا ما يشفون به
غيظهم، ويبتردون من أوار حسدهم، فتبًّا لمن يبيع أمته وملته بهذا الثمن الخسيس.
ربما يتوقع بعض هؤلاء الأشرار جائزة على سعايته فيلتحق بصنف اللصوص
وقطاع الطرق، لأكله أموال الناس بالباطل، ويمتاز عنهم في الشر بتلك الصفة
الشيطانية، وهي تقطيع الروابط العامة والصد عن سبيل الحق.
أكرر القول بأن الناهبين والسارقين تختص جنايتهم بالأفراد، والسعاة تتعلق
مضرتهم بالأمم والشعوب، فويل لكل هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم،
ربما تغشّ الماحلَ نفسُهُ الخبيثة بأنه ناصح لسلطانه خادم لوطنه؛ لأنه يرى بمقلته
العشواء أن عمل العامل الذي دبت عليه عقارب سعايته مضر في الأمة، فهو يسعى
في إزالة الضرر، وفرق عظيم ما بين النصيحة، والمحل والنميمة، والحلال بَيِّنٌ
والحرام بين، لو كان صادقًا في زعمه لألقى بنصيحته أولاً للعامل، وبين له مضرة
عمله، وأنذره مغبته إذا هو لم يقلع عنه، فإن وضح الأمر، وأصر الآخر على
باطله من غير عذر، يرفع أمره للحاكم علنًا وتحكم فيه الشريعة على رءوس
الأشهاد.
هذه حجة ناهضة يتجلى نصوعها على كماله بالنسبة للناهضين بالأعمال
المفيدة لأممهم على مرأى من الناس ومسمع، وعلى أكمله بالإضافة للذين يرفعون
منار الحق بنشر المعارف النافعة في الكتب أو الجرائد، لاسيما إذا صرح أربابها
كما صرحنا في فاتحة جريدتنا هذه بقولنا: (وتقبل الانتقاد الأدبي من كل أحد،
وتقابل عليه بالثناء والشكر، وتذعن للحق كيفما طلع بدره، ومن أين انبلج فجره،
وتتلقف الحكمة من حيث أتت، وتأخذها أينما وجدت) ، أمثال هؤلاء لا يمكن أن
يكابر نفسه، من يمحل بهم إلى الحكام بأنه ناصح بمحاولته إبطال باطلهم (على
زعمه) ؛ لأن الباطل لا يمحوه إلا إحقاق الحق، وأما الضغط فإنه يوجب الانفجار،
والمقاومة يترتب عليها الاشتهار.
الإنسان عرضة للخطأ والخطل، ولا يكاد يخلو عمل من خلل، وتشهد بذلك
كتب المؤلفين، وأعمال المتقدمين والمتأخرين، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا
فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: ٨٢) ، يخطئ قوم فيصلح خطأهم آخرون، وبذلك
تنجلي الحقائق وتتمحص العلوم، حتى تبلغ كمالها، ولا يزال الحق والباطل في
مجادلة ومجالدة حتى يغلب أحدهما الآخر، لكن الحق يعلو وإن عمي عنه الأسفلون،
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: ١٨) .
نعم، يوجد في بعض الأمم والدول جمعيات سرية تسعى في الإخلال بالنظام،
وتهدد الأمن العام، كالفوضويين في أوروبا، والعدميين (النهليست) في خصوص
روسيا، وبعض الأرمن في بلاد الدولة العلية، فمن يكايد أمثال هؤلاء، ويحمل بهم
إلى الحكمين، فهو ناصح للدولة والأمة، مع مراعاة الصدق والوقوف عند حدود
العدالة. وهناك أمور أخرى تشتبه على بعض الناس فيها النصيحة بالنميمة والسعاية،
ومن صدق في طلب الحق لا يزج نفسه في أمر خطير من غير بينة فيه (الحلال
بين والحرام بين وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات
فقد استبرأ لدينه وعرضه) إلى آخر الحديث الشريف.
هذا بعض من كل في بيان مخازي النميمة (السعاية) ومفاسدها، ولو
استقصينا ما ورد في ذلك من الآيات والأخبار، وشرحنا ما يحتف به من الآثام
والأوزار، لأدى بنا ذلك إلى التطويل، ولعل ما ذكرناه كافٍ في التنفير والترهيب،
وما يتذكر إلا مَن ينيب.
آثار في السعاية
جاء رجل إلى علي كرم الله تعالى وجهه يسعى إليه برجل آخر فقال له الإمام:
(يا هذا إن كنت صادقاً مَقتناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك
أقلناك) . قال: أقلني يا أمير المؤمنين.
ذكرت السعاية عند بعض الصالحين فقال: (ما ظنكم بقوم يحمد الصدق من
كل طبقة من الناس إلا منهم) .
قال مصعب بن الزبير: نحن نرى قبول السعاية شرًّا من السعاية؛ لأن
السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس مَن دل على شيء فأخبر به كمَن قبله وأجازه،
فاتقوا الساعي، فلو كان في قوله صادقًا كان في صدقه لئيمًا، حيث لم يحفظ الحرمة،
ولم يستر العورة.
دخل رجل على سليمان بن عبد الملك فاستأذن في الكلام وقال: إني مكلمك يا
أمير المؤمنين بكلام فاحتمله وإن كرهته، فإن وراءه ما تحب: قال: قل، فقال: يا
أمير المؤمنين إنه قد اكتنفك رجال ابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم،
خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، ولا تصخِ
إليهم فيما استحفظك الله إياه، فإنهم لن يألوا في الأمة خسفاً، والأمانة تضييعًا،
والأعراض قطعًا وانتهاكًا، أعلى قربهم البغي والنميمة، وأجلّ وسائلهم الغيبة
والوقيعة، وأنت مسئول عما اجترحوا وليسوا بمسئولين عما اجترحت، فلا تصلح
دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبناً مَن باع آخرته بدنيا غيره.
رفع بعض السعاة رقعة إلى الصاحب ابن عباد نبه فيها على مال يتيم يحمله
على أخذه، فكتب على ظهرها السعاية قبيحة، وإن كانت صحيحة، الميت رحمه
الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمره الله، والساعي لعنه الله.