للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مصاب الصحافة

وفاة بشارة باشا تقلا
في ليلة السبت الماضي (١٥ يونيو سنة ١٩٠١ - ٢٨ صفر سنة ١٣٩١)
تقوَّض ركن الصحافة الركين، وَفَتَّ في عضدها المتين، حيث حل القضاء المبرم
ونزل القدر المحتم، فاختطف بشارة باشا تقلا صاحب جريدة الأهرام العربية،
وجريدة البراميد الفرنسوية، وهو في مستوى طور الكهولة ناهز الخمسين ولم
يبلغها، وقد تقدم هذا القضاء السماوي بعشرين يومًا إنذار مرضي حار نطس
الأطباء في معرفة حقيقته، ولم يهتدوا إلى طريقة معالجته، والأرجح أنه كان في
ذلك الدماغ الجوَّال، الذي كان كصاحبه لا يعرف الإعياء والكلال.
ورد الفقيد وادي النيل من لبنان مع أخيه الكاتب الشهير سليم بك تقلا منشئ
جريدة الأهرام، واشتغلا بالصحافة، وكانت أرضها مواتا فأحيتها همتهما، وغرسا
واستثمرا بجدهما وعزيمتهما، وقد كان سليم وبشارة يقتسمان التحرير والإدارة،
فلما اغتالت المنون أحد الفرقدين، نهض الآخر بالأمرين، وتقدمت الأهرام به
وتقدم بها فأصاب ثروة طائلة وجاهًا عريضًا، وما زال يرتقي في رتب الدولة
العلية ويتمتع برواتبها ويتحلى بوسامات الشرف منها حتى بلغ رتبة (روم إيلي
بكاربكي) التي لا يعلوها في الرتب الملكية إلا رتبة الوزارة، وتحلى بالوسام
المجيدي الأول، وكان محلًّى بوسامات دول أخرى، كوسام ليجون دونور
الفرنساوي من الدرجة الثالثة، ووسام سان استانس لاسي الروسي، ووسام
المخلص اليوناني من الدرجة الثانية، ووسام الافتخار التونسي وغير ذلك.
نجحت الأهرام في أول عهدها بمساعدة الحكومة المصرية لا سيما في أيام
وزارة دولتلو رياض باشا الذي لم تنجح جريدة من الجرائد الشهيرة الغنية بمصر إلا
بسعيه، حتى قيل إن الحكومة كانت تلزم الموظفين والوجهاء بالاشتراك، وتكلف
جباتها بتحصيل قيمة الاشتراك منهم، ثم لمَّا انقضى هذا الدور، وصار الناس
مختارين في الاشتراك استمر النجاح بسعي الفقيد الموافق لحالة البلاد الاجتماعية
والأدبية، وقلما ينجح عمل مخالف لاستعداد الناس إلا أن يكون بعد تأسيسه بزمن
طويل.
وقد احتُفل في مساء يوم السبت بجنازة الفقيد احتفالاً لائقًا بمقامه، مشى فيه
كثيرون من الوجهاء والفضلاء، ومنهم أصحاب الجرائد المصرية كلهم، وصُلِّي
عليه في كنيسة الروم الكاثوليك، ودفن في قرافتهم بمصر العتيقة وأبَّنه على القبر
كل من الأديب يوسف أفندي البستاني، والأصولي الفاضل نقولا بك توما، ورجع
المشيعون وهم يستمطرون له الرحمة، ويدعون لقرينته الفاضلة ولولده النجيب
بالعزاء والسلوة.