لا تغادر الجرائد اليومية من أخبار الحرب متردمًا، بل تكاد الرسائل البرقية أن تحيط بجزئيات أخبارها وكلياتها، والجرائد إنما تضع لها الشروح وتضيف إليها الأبحاث بحسْب مشاربها وأهوائها التي تساعدها عليها أهواء شركتَيْ روتر وهافاس، إذ الأُولى تتحزب للولايات المتحدة والثانية لأسبانيا، كما يظهر من استقراء رسائلهما في غير جريدتنا؛ لأننا لا نكاد نذكر ما هو موضوع خلاف من تلك الرسائل، وإننا ننظر الآن في هذه الحرب من جميع وجوهها، ونلم بشيء من أخبارها فنقول: الحرب والتمدن: تلهج الأمم المتمدنة بلفظ السلام عالمها وجاهلها، وحاكمها ومحكومها، ويخدعون أنفسهم أو سواهم من الناس بأن الحرب قد وضعت من بينهم أوزارها، وغلب أولياء العقل والفلسفة أولياءها وأنصارها، حتى بلغت منهم هذه الخِلابة أن قالوا: إن جميع الاستعدادات الحربية برية وبحرية إنما هي لأجل منع الحرب من العالم، ثم ترقوا في مدارج الاختلاب (الخِلابة والاختلاب: الخديعة بالقول) فقالوا: (إن الحرب نفسها لأجل السلام) . قال ذلك الرئيس السياسي لأعظم أمة متمدنة بعيدة عن الطمع بالنسبة لغيرها، وهي الأمة الأميركية، ورئيس آخر من رؤساء الدين فيها! يفتحرون الكلام (أي يأتون به من عند أنفسهم ولا يطاوعهم عليه أحد) ، وينفذونه بالقوة لا بالإلزام. إذا أمكن النزاع بالاستدلال على كذبهم في دعواهم حب السلم، والسعي إليها بوقوع الحرب فعلاً، فهل يمكن النزاع في الاستدلال على ذلك بحالة مجموع أممهم في جميع طبقاتها؟ ألم تر أن الجنس اللطيف قد ألف أسرابًا من الغادات الحسان عرضن أنفسهن للانتطام في سلك الجنود، كما ينتظم اللؤلؤ والمرجان في العقود، وستسمع ما نهض له النساء في أسبانيا. أما علمت أن المدارس الجامعة، كمدرسة هرفرد، ومدرسة يال (في أميركا) وغيرهما قد ترك التلامذة فيها دروس العلم للخوض في معامع الحرب. وأن بعض تلك المدارس أقر مديروها على أن كل تلميذ من الصف الأخير ينتظم في سلك الجيش البري أو البحري يعامل معاملة من أتم مدة المدرسة، ويأخذ الشهادة، وأما سائر التلامذة فيمتحنون امتحانًا خصوصيًّا بعد العود من الحرب للمدرسة، وأن كثيرًا من شعراء الولايات المتحدة وكتابها قد تطوعوا للخدمة العسكرية ليشاهدوا بأعينهم آيات الخراب والدمار، وآثار الفتك والانتقام، ثم ينظموها في عقود القصائد والقصص لتكون مفخرًا لهم إذا انتصروا، ومهيجًا لأمتهم على أخذ الثأر إذا هم انكسروا، ولقد كان من شأن طلاب العلم الأسبانيين مثل ما كان من أخصامهم الأميركانيين، فقد جاء في أخبار رومية: إن تلامذة الأسبان الذين يتعلمون فيها اجتمعوا وأجمعوا على ترك المدارس والذهاب لأسبانيا للانخراط في العسكرية. ألم تقرأ بأن التطوع للحرب عم جميع الطبقات، حتى إن الإسرائيليين والسوريين قد تطوع جماعة منهم في الولايات المتحدة. وجاء في بعض الأنباء أن المتطوعين في الولايات المتحدة بلغوا (٧٠٠) ألف رجل، ومنهم كثير من النزلاء، لا سيما الإنكليز، ألم يأتك نبأ الأطباء الذين عرضوا أنفسهم لخدمة الجيش الأميركي وهم (١٢٠٠) طبيب. الحرب والدين: أهدى إمبراطور ألمانيا وسامًا للفيلسوف سبنسر الشهير، فأبى قبوله قائلاً: إنني أنا مقاوم للحرب وقائل بوجوب إبطالها، فقبولي الوسام من رئيس حربي من أعظم قواد الحرب دليل على رضاي منه. فليت شعري هل الديانة النصرانية ديانة سلم أم ديانة حرب؟ يقول الآخذون بها: إنها ديانة سلم، لكن هؤلاء المحاربين وأمثالهم مخالفون لهديها، فإذا سلمنا لهم قولهم تصديقًا لقول القس لوازون الخطيب الشهير: (إن ظِل الديانة قد تقلص من أوروبا) - وأميركا مثلها - أو ذهابًا مع القول العام: (إن السياسة لا دين لها) ، فهل يسوّغ لنا أن نقول: إن ذلك الظل قد تقلص، حتى عن قلانس القسوس وقباب الكنائس والهياكل الدينية، أو إن تلك الهياكل مدارس سياسية ورجالها خطباء الحروب، ومسهلو الكروب؟ وكيفما كان الحال، فليس في كلامنا إيماء للاعتراض على الديانة النصرانية، سواء كانت حربية أم سلمية. وإنما هو مسوق لبيان أن جميع الطبقات في الأمم الإفرنجية تؤيد الحروب، وأن المحاربين لا يرون أنهم منحرفون بخوض معامع الحرب عن دينهم، بل يرون أنهم يسعون في سبيل الله، ويبتغون مرضاته. ذلك أنهم يواصلون البِيَع والكنائس، ويقيمون فيها الصلوات، ويكرون الدعوات بأن يهبهم الله النصر على الأعداء، ويعقدون التحالف في الهياكل العظمى على الاستبسال والاستماتة. وأكثر المظاهرات الدينية في هاته الحرب يقع من أسبانيا ومن أخبارها أن الأميرال فيلاميل قائد أسطول الحراقات (التوربيد) زار هو وبحارته هيكل العذراء وخطب فيهم خطبة حماسية. ثم استحلفهم على الاستبسال فركعوا أمام المذبح وأقسموا أغلظ الأيمان أنهم لا يعودون إلا ظافرين. ومنها: أن نساء الأشراف أنشأن جمعيات دينية برئاسة رؤساء الدين لإقامة الصلاة ليلاً ونهارًا، والدعاء إلى الله بنصر أسبانيا. ومنها: أن أسقف مدريد أصدر منشورًا عن الحرب أمر الكهنة أن يتلوه في جميع الكنائس التابعة لإبرشيته، وهو يلقي التبعة على الولايات المتحدة. ولا تحسبنَّ الأميركانيين لم يصبغوا حربهم هذه بصبغة الدين وأنهم لم يقيموا لها الصلوات، ويرفعوا للاستنصار أكف الدعوات، فمن أخبارهم أنه لما اجتمع مجلس الأمة لسماع رسالة الرئيس عن الحرب قام أحد القسيسين وصلى صلاة حارة، طلب فيها من الله أن يشدد قوى الولايات المتحدة وقال: (لتحلّ نعمتك على الآباء والأمهات الذين طلب منهم أن يقدموا أبناءهم للحرب، وليكن عزاؤهم أن ضحاياهم إنما هي لخدمة الإنسانية والتمدن، أَرْشِدْ الرئيس ومشيريه بحكمتك ليعززوا قواتنا في البر والبحر، حتى تنتهي الحرب سريعًا بخدمة العدل والحرية والسلام الدائم) (تأمل) . ولما أن جاءت بشرى انتصار الأسطول الأميركاني في منيلا اجتمع مجلس الشيوخ وجيء بالقسيس، فوقف وصلى صلاة الشكر، وهي: (نشكرك على الأخبار الحسنة التي وافتنا من البحر، وعلى النصر الذي أوليتنا وكللت به هام ضباطنا في أسطولنا الآسيوي، ونحمدك لأنك أوقفتنا موقف فخر لم يسبق له مثيل، وهو موقف أمة تحارب لا طمعًا بأرض ولا مال ولا بقوة ولا انتقام، بل دفاعًا عن المساكين المحتاجين المظلومين) . ولا يجهل جناب القس أن أمته حضت نار الفتنة في كوبا، وحضت الثوار على مواصلة القتال، ومنّتهم بالمساعدة على الاستقلال، ولولا ابتغاء الفتنة لدفعت بالتي هي أحسن، ولما عمدت إلى شفاء الداء بما هو أدوأ، ولو أن حضرات القسوس يرون الحرب مأثمًا لتأثّموا من مُثافَنة أهلها، والافتخار والتبجح بتمكنهم من إزهاق الأرواح، وتقويض معالم العمران، والدعاء لهم بالحصول على هذه المقاصد، ولكان شأنهم في ذلك شأن الفيلسوف سبنسر الذي لم يقبل الوسام الذي أهدي له على خدمته للعلم والفلسفة؛ لأنه من رجل حربي. فالأصل أن تكون الأعمال الاختيارية منبعثة عن التأثرات والاعتقادات القلبية. والخلاصة: أن الحرب ليست لأجل الدين، لكنها مؤثرة حتى على رجال الدين [*] . الحرب والدول: أجمعت جرائد الممالك على الطعن في سياسة الولايات المتحدة وإظهار الاستياء منها، ما عدا جرائد إنكلترا، وقد أظهر الكثير من الدول ضلعًا مع أسبانيا، وإن كن اعتزلن رسميًّا، وقد طلب كثير من فرنسا وغيرها التطوع في الجيش الأسباني، فحال دون ذلك أن القانون لا يجيزه، وقد بذل الإمبراطور فرنسوا يوسف خمسمائة ألف فرنك في الإعانة التي تُجمع لتقوية الأسطول الأسباني، وبلغ مجموع الاكتتاب في سفارة أسبانيا في باريس أربعمائة ألف فرنك، كما جاء في بريد أوروبا الماضي. وروي أن البورتغال أرسلت في ٢٣ أبريل الماضي ٩٠٠ صندوق من المِيرة والذخيرة من لسبون عاصمتها إلى الأسطول الأسباني الذي كان في سنت فنسنت (قريبًا منها) ، وأن الهياج في المكسيك شديد، والأهالي يطلبون من الحكومة الاتحاد مع أسبانيا والانتصار لها فعلاً. وألفوا لجنة برئاسة بعض الوزراء فجمعت ١٢ مليون فرنك. ويقال: إن اللجنة التي تنقل المال لأسبانيا مأمورة بعقد المحالفة (مع أن المكسيك أعلنت العزلة رسميًّا) ، وأن الولايات المتحدة عززت حاميتها على حدود المكسيك. وروت الطان: أن الجمهوريات الصغيرة في أميركا الجنوبية يميلون لمساعدة أسبانيا، وإن كانوا لا يودون بقاء سلطتها على كوبا؛ ذلك أنهم يرون أن الولايات المتحدة تريد الاستيلاء على كوبا؛ لأنها مفتاح خليج المكسيك، والبوغاز الذي سيصل بين المحيطين (الأتلانتيكي والباسفيكي) ، وذلك مقدمة لاستيلائها على أميركا الجنوبية كلها. وقد أظهر الفرنسويون غيرة على أسبانيا أكثر ممن عداهم، حتى صرح بعضهم بأن فرنسا لو لم تكن جمهورية لساعدت أسبانيا فعلاً. وذكرت جرائد أوروبا أن حكومة الولايات المتحدة اعترضت على الإمبراطور فرنسوا يوسف، وعلى البورتغال في مساعدة أسبانيا. أما الدولة الإنكليزية التي لا تعلم كيف تستفيد من كل حادث عظيم، فقد أظهرت الميل التامّ للولايات المتحدة، فتوَهّم بعض الناس أن ذلك للموافقة في المذهب، وزعم قوم أن العلة فيه اتحاد اللغة والحنين إلى الأصل. والمحنكون في السياسة يعرفون أن المنفعة هي الأصل الذي تبنى عليه جميع أعمال هذه الدولة، لكنهم اختلفوا في هذه المنفعة، فذهب البعض إلى أنها تطمع في أخذ جزيرة فيلبين من أميركا؛ لأن استيلاءها عليها مرجح، ويظهر من سياق الحوادث الأخيرة أن الغرض من هذا الولاء والتقرب هو المحالفة بين الدولتين، فإن حوادث الشرق الأقصى الأخيرة انكشفت لإنكلترا عن الحاجة لمحالفة دولة قوية، فقد اشتدت المناظرة لها من الدول الكبرى المتحالفة، حتى تتعذر مقاواتهن ومقاومتهن مع الوحدة. ومن الأنباء الواردة في ذلك أن مكاتب التيمس اجتمع بالرئيس مكنلي وتكلما في حياد الدول ووداد إنكلترا، ثم في إمكان التحالف بينهما، فقال الرئيس: ذلك أمر طبيعيّ، ولكن الساعة لم تأتِ للإقرار على شيء نهائي بهذا الشأن. (راجع الرسائل البرقية) . الحرب والمتحاربون: تشترك الأمتان المتحاربتان بالتهيج وإظهار الحميّة الوطنية، أو الجاهلية،وإن الأسبانيين أرسخ عرقًا في ذلك من الأميركانيين، وأكثر صخبًا وشغبًا، بل أربى غلواء وهم في الطيش على ما كان من حمقى اليونان، حتى حاولوا الفتك بسفير الولايات المتحدة عندما بلغ مدينة فلادولين مسافرًا من مدريد. ولما صدتهم الشرطة (البوليس) عن الدمور (الدخول بغير إذن) في مركبة القطار الحديدي طفقوا يقذفونها بالأحجار، حتى كسروا زجاج النوافذ، فأصابت شظية مكاتب جريدة باريسية. ولا تسل عما يأتونه في مدريد ليلاً ونهارًا. بلغ عدد الشاغبين في إحدى الليالي (٦٠٠٠) آلاف طافوا معاهد العاصمة، وألمّوا بالسفارة الفرنسوية وبدار الوزير سغستا، وأحرقوا هناك الراية الأميركية بصراخ وهتاف، ثم ساروا إلى المراسح وخطبوا الخطب الحماسية. ويمتاز الأميركيون بأن الثوار في كوبا وفيلبين لهم ضلع معهم فهم عون لهم على أسبانيا، كما هو شأن ثوار كريد مع اليونان، وأن داخليتهم في مأمن من الفتن والشغب على الحكومة والقحط، والأسبانيون بخلاف ذلك. قال الوزير سغستا في خطبته: (يسوءني أن الأسبانيين ليسوا متّحدين كلهم في الأحوال الحاضرة) . وقال ناظر داخلية أسبانيا: أعلنت الأحكام العرفية في مدريد لأن البعض حاولوا اتخاذ مصائب البلاد وسيلة لإثارة الأحزاب السياسية ولم يقفوا لجهلهم عند حد لوم الحكومة على تقصيرها في الاستعداد للحرب، بل يتحدثون بقلبها واستبدال الجمهورية بها. واندلعت نيران الشغب إلى سائر البلاد الأسبانية، فقد اعتصب العمال في مرشيا، وساعدهم الغوغاء فقطعوا أسلاك التلغراف وأضرموا النار في المحاكم، فأحرقت الدفاتر والأوراق، وأطلقوا سراح المسجونين، وقطعوا السكة الحديد، ونهبوا محلاً فيه ديناميت، وفرقوا ما فيه على أنفسهم. وزد على ذلك أن أميركا تنفق من خزائنها، وأسبانيا تجمع الإعانة من بلادها وبلاد أوروبا. ((يتبع بمقال تالٍ))