للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة السنة الثانية عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجًا، ولا جعل علينا
فيما شرعه لنا من الدين حرجًا، بل جعل مع العسر يسرًا، ومع الشدة فرجًا، ومن
يتق الله بإقامة سنته يجعل له مخرجًا إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرًا.
والصلاة والسلام على من بعث إلى الأبيض والأحمر، وقام بأمر ربه
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: ٩٤) ، فمكر به قومه؛ ليثبتوه أو يقتلوه أو
يخرجوه، فهاجر من وطنه ووطنهم فتتبعوه وحاربوه، حتى شجوا رأسه، وكسروا
سنه، وعذبوا من اتبعه من ضعفاء المؤمنين، فصبر وصبروا حتى كانت العاقبة
للمتقين، {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الغَالِبِينَ} (الصافات: ١١٦) .
وبعد؛ فإنا نَقُصّ في فاتحة منار هذه السنة وهي الثانية عشرة له، نبأ من
تاريخه الصريح، الذي كنا نشير إليه بالتلويح؛ تذكيرًا وتفصيلاً للقراء السابقين،
وعبرة للقراء اللاحقين، وأخص العثمانيين الذين طالما ارتعدت فرائصهم عند ذكر
المنار، حتى ربما كنى عنه محبوه بلفظ النار.
أنشئ المنار في أواخر شوال سنه ١٣١٥، وكان صحيفة ذات ثمانِ صفحات،
وقد بينت في العدد الأول منه الغرض من إنشائه، ومذهبه في الإصلاح الديني
والاجتماعي، وسكتُّ عن بيان مناهجه في الإصلاح السياسي، مع التصريح
بنزعته العثمانية، وخدمته للدولة العلية. وإنما أسكتني عن ذلك الأستاذ الإمام
(الشيخ محمد عبده رحمه الله تعالى) فقد كنت استشرته في إنشائه، وقرأت له تلك
الفاتحة قبل طبعها، وكان فيها أن من مقاصده بيان حقوق الأمة على الإمام،
وحقوق الإمام على الأمة، فاستحسن كل ما أودعته تلك الفاتحة إلا هذه الكلمة،
فاقترح عليَّ أن أحذفها، ولم يراجعني في شيء غيرها، وكان مما قاله في ذلك:
(إن المسلمين ليس لهم إمام في هذا العصر غير القرآن) وإن الخوض في السياسة
العثمانية فتنة يخشى ضررها ولا يرجى نفعها، وإن الناس ها هنا لا يحبون أن
يسمعوا في السلطان والدولة إلا ما يشتهون، ومصر ليس فيها سياسة، والمسلمون
لا ينهضون إلا بالتربية والتعليم، فلا تخلط السياسة بمقاصدك الإصلاحية؛ لئلا
تفسدها عليك، فإنها ما دخلت في عمل إلا وأفسدته. هذا معنى ما قاله، وقد حذفت
تلك الكلمة استجابة له، وليت السياسة تركتني، أو سالمتني كما سالمتها؛ ولكن أَبَى
عليها الخرق والعتوّ، إلا أن تجاهد مني غير عدو، فآذنتني بالحرب وآذتني في
الأهل والصحب، حتى ألجأني اعتداؤها على حقيقتي إلى التقصي في استعراف
ظلمها لأمتي، ثم إلى الدخول في زمر المجاهدين لرؤسائها وأعوانها الظالمين،
{فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} (الذاريات: ٤٥) جئت مصر وأنا
أحسن الظن بالسلطان، دون من يحيط به من الوزراء والقرناء والخصيان، وأسيء
الظن بطلاب الإصلاح من الأحرار، وأعتقد أنهم إنما يطلبون الرتب والأوسمة
والدينار، وقد كنت أصرح بهذا وذاك في السنة الأولى مع المطالبة بالإصلاح،
والشكوى من عاقبة الظلم والإفساد، وما كنت لأقول إلا ما أعتقد، وأبث إلا ما أعلم
وأجد.
منع رشيد بك والي بيروت (أحد أركان الإفساد في حكومة الاستبداد)
توزيع العدد الثاني من السنة الأولى، وأرسل البرقيات إلى جميع أنحاء الولاية
بوجوب جمع ما وزِّع منه وإحراقه، ولم يكن فيه شيء مما كانت تنكره الحكومة في
ذلك الوقت، وإنما فعل ذلك مرضاة للشيخ أبي الهدى أفندي الصيادي الذي كان يعلم
أني من حزب السيد جمال الدين الأفغاني، فهو الذي أوعز إلى الوالي بأن يصادر
المنار، كما أوعز بذلك إلى بدري باشا متصرف طرابلس الشام، فصار كل منهما
يمنع بعض الأعداد التي يؤذن بتوزيعها في الآستانة وغيرها من البلاد، حتى
هبطت الإرادة السنية، وصدرت الأوامر العليا، بمنعه من جميع الولايات العثمانية،
وذلك قبل أن يتم له نصف سنة!
لم يشف هذا غيظ أبي الهدى أفندي، فأوعز إلى بدري باشا وأعوانه بأن
يؤذوا والدي وإخوتي، وينذروا عشيرتي وذوي مودتي، ولما رأى بدري باشا أن
مجلس إدارة اللواء لا يوافقه على ما يقصد من الإيذاء، وأن الإيذاء بغير يد
الحكومة لا يشبع تلك النفس الضارية المنهومة، أبدى هو وشيعته للسيد الوالد
(رحمه الله تعالى) نواجز الشر، ثم أشخصوه إلى مصر؛ ليحملني على مشايعة أبي
الهدى، وعدم المبالاة بمن دونه من الورى. وبعد طول المذاكرة رضي مني بأن
أكتب إليه كتابًا مني أبين له فيه أنه ليس من مقصدي الطعن فيه، وأنني لا أريد إلا
الإصلاح ما استطعت، وكتب هو إليه كتابًا آخر، فما عتم أن جاءنا منه الجواب،
وهذا نص ما كتبه إليَّ بخطه:
الحمد لله وحده.
من الفقير إليه محمد أبو الهدى الصياد الرفاعي عُفِيَ عنه، إلى جناب
الأديب الكاتب الشيخ رشيد رضا أفندي كان الله لنا وله وللمسلمين. وصلني قُبل
كتابكم، وفي هذه المرة أخذت كتابًا من والدكم وكتبت له الجواب في بريد اليوم،
فكن ريض الخاطر طيب البال، نعم إني أرى جريدتكم طافحة بشقاشق المتأفغن
جمال الدين الملفقة، وقد تدرجت به إلى الحسينية التي كان يزعمها زورًا، وقد
ثبت في دوائر الدولة رسميًّا أنه مازندراني من أجلاف الشيعة بعد المخابرة مع سفارة
إيران بدار السعادة والسفارة السنية في إيران، وهو حي وما قدر على الدفاع، وهو
مارق من الدين كما مرق السهم من الرمية، وأراك تملأ جريدتك كل يوم بانتقاد
الصوفية بأبحاث جلها ما هي من طريقهم وكذا أولتها، وفي بعضها أنت محق بلا
شبهة، إلا أنك تعلم أن العلماء الآن ما هم كالشافعي وأبي حنيفة وعظماء السلف
تمسكًا بالشرع، ولا عامة الأمة كالعامة الأول، فلو أنصفت وخدمت دينك بغير هذه
المواضيع، وإذا ألزمك طورك وقلمك بالتطرف، فهنالك تنتقد أعمال الأمم السائرة
من غير الإسلام انتقادًا عقليًّا يستميل لك القلوب ويرضي عنك ربك - لكان أولى،
ولما طاب قلبنا لك نصحناك، والموعد الله في كل غاية، والسلام ١٩ رجب سنة
١٣١٦.
ومن هذا الكتاب يعلم أن ما كان يؤلمه من المنار محصور في أمرين،
أحدهما: التنويه بالسيد جمال الدين الأفغاني وذكره بلقب (السيد) . ولم أكن أمنح
أبا الهدى هذا اللقب؛ لأنني لا أعتقد شرفه.
وثانيهما: انتقاد خرافات أهل الطريق التي جعلها أساس مجده. ولكنه كان
يوهم السلطان أن المنار لم ينشأ إلا لأجل الطعن فيه، كما يعلم مما يأتي. فكتبت
إليه كتابًا بيَّنت فيه أنني لم أكتب ولا أكتب إلا ما أعتقد أنه نافع، وذكرت له رأيي
في السيد جمال الدين الأفغاني، فلم يلبث أن أجابني بهذا الكتاب بخطه:
ولدنا الروحاني الأديب الأريب الفاضل الشيخ محمد رشيد أفندي آل رضا
المحترم:
أدعو لكم ولوالدكم بالخير والعافية ودوام التوفيق، وجدًّا صرت ممنونًا
من تحريراتكم المرسلة، والمأمول من عناية الله وفضله أن يديم لكم التوفيقات فيما
يرضيه، وقد حصل الآن قيد رؤوس أدرنه من مراتب العلمية الشريفة لك، فهي إن
شاء الله أول الفيوضات، ولا يجنحن لبالك أن ذلك لغوائش هذه الدنيا، بل إني
أعجبني قولك واطمأن قلبي لصدقك ولبراءتك، وأرجو الله إصلاح شأنك في الله كما
هو مطوي في كل من له للجناب الرفيع نسبة. وأوصي رفيقك بالثبات والاستقامة
على ما يبيض الوجه حالة القدوم على الله ورسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم [١]
وبحوله تعالى عند مجيئكم إلينا وانفكاكم عن هذه العوارض الحاضرة الزائدة التي لا
تنطبق على مجد النسبة نوعًا ما، وإن كان قصدكم حسنًا، فهنالك تنبلج فيكم أنوار
نسبتكم بالتحقق في الطريق الأقوم وتحت نظر سر الوجود صلى الله عليه وسلم، إذن
خدمتكم للدين وللمسلمين على النهج الشرعي الصحيح الأمين، ومني لكم الدعاء وهو
المطلوب منكم والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ١٦ شعبان سنة ١٣١٦
... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه محمد أبو الهدى
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عفي عنه

قرأت هذا فبادرت إلى إرسال كتاب إليه جزمت فيه بأنني لا أقبل الرتبة
العلمية التي طلبها لي، وإنني من الذين يرغبون عن الرتب والأوسمة، فيجب
الرجوع عن طلبها، وإنني لا أستبدل بخدمة المنار للملة خدمة أخرى مهما كان
مظهرها وفائدتها، وإنني لا أطلب من الآستانة إلا الإذن بدخول المنار لسوريا
وغيرها من ولايات الدولة. واعدته في هذا الكتاب أو فيما قبله بترك التنويه بالسيد
جمال الدين؛ مادام المنار مأذونًا له بدخول بلاد الدولة، وسكت على ذلك وسكتنا.
وبعد ثلاثة أشهر وأيام من هذه المكاتبة، كتب ناظر خارجية إنكلترا إلى
لورد كرومر عميد دولته في مصر يقول: إن سفيرها في الآستانة كتب إليه يخبره
أن رئيس كتاب السلطان جاءه، وقال له: إن في مصر جريدتين معاديتين لشخص
السلطان، وهما: المنار والقانون الأساسي، وإن الخديوي ومختار باشا الغازي
يساعدانهما، وإن السلطان يرغب إليه بأن يسعى لدى حكومته بإبطال هاتين
الجريدتين، ويتخذ ذلك يدًا يكافئه السلطان عليها! ! فأخبر اللورد الأمير بذلك،
فعجب أشد العجب؛ لأنه لم يكن هو ولا مختار باشا بمساعد للمنار ولا للقانون
الأساسي، بل لم يكن يعرف من مشرب المنار إلا ما أخبره الأستاذ الإمام من أنه
جريدة دينية أدبية.
سألني الأمير عن ذلك سرًّا في يوم عيد الأضحى (سنة ١٣١٦) عندما
أردت الخروج مع العلماء من مقابلة التهنئة له بالعيد، وأمرني بأن أذهب إلى مقابلة
أحمد شفيق بك وكان رئيس القلم التركي (وهو اليوم أحمد شفيق باشا رئيس
الديوان الخديوي) ، فذهبت من حضرة الأمير إلى غرفته، وكان يقرأ المنار ويعلم
أنه ليس فيه تحامل على السلطان، بل لا يخلو من مدح له، ورأيته جازمًا بأن أبا
الهدى هو الذي سعى عند السلطان هذه السعاية، وضرب سهامًا فيها إلى عدوين من
أعدائه: الأمير ومختار باشا الغازي. فأخبرته بأن بيني وبين أبي الهدى سلمًا،
وذكرت له هذين الكتابين فطلبهما مني؛ لأجل أن يحتج بهما، فقلت له: إن
المراسلة بالأمانة، وإنني لا أجيز لنفسي أن أظهرهما مادمت أعلم أن إظهارهما
يؤذيه بتغيير السلطان عليه، واستدلاله بهما على خيانته له إذ يجعله ترسًا يدافع به
عن نفسه , وأما اللورد فقد جرى في المسألة على ما تعود من المحافظة على حرية
الصحافة , ولكن بعد البحث ومعرفة الحقيقة.
كرَّ أعوان أبي الهدى على أهلي كرة ثانية، وكانت الدولة دولتهم فضربوا
أحد إخوتي وهو خارج من طرابلس إلى القلمون ليلاً، وسرقوا فرسًا لنا، وحاولوا
أخذ مسجدنا منا، وأغروا جريدة طرابلس الشام بالطعن في المنار، والتمسوا لها
المساعدة من كل من يكتب في طرابلس حتى أصدقائي، فاضطررت إلى كتابة مقال
عنوانه (مؤاخذة العلماء) (٣٩ص و٥١ م٢) أسكتها به عن التمادي في الطعن.
ولكن ألسنتهم لم تسكت عن السب واللعن، إلا بعد أن أديل منهم، وخضدت
شوكتهم وذهبت ريحهم، وخرج بدري باشا من طرابلس مذءومًا مذمومًا، وبدلنا به
عبد الغني باشا العابد وكان لنا وليًّا حميمًا، بل غلب نفوذ عزت باشا العابد على
نفوذ الشيخ أبي الهدى في جميع البلاد السورية، فازداد انتشار المنار فيها وإن لم
يرسل إلا في البرد الأجنبية، وأمن الأهل والقراء على أنفسهم طائفة من الزمان
حتى كان منذ أربع سنين ما كان.
ذلك ما كان في السنة الأولى والثانية من سني المنار. وفي أواخر الثانية
وأول الثالثة صار يتردد علينا بعض جواسيس ممدوح باشا ناظر الداخلية في
الآستانة، ويعرض علينا الرتب والوظائف اللائقة إذا نحن تركنا المنار، وغادرنا
هذه الديار، فلو شئت أن أكون يومئذ قاضيًا أو مفتيًا في الشام أو بيروت، أو آخذ
مرتبًا شهريًّا عظيمًا من الدولة لفعلت، وقد قبل عبد الحليم أفندي حلمي أن يترك
مصر، ويكون معاونًا لناظر النفوس في بيروت بمرتب كمرتب الناظر، فنال ذلك
على أنه لم يكن كاتبًا ولا سياسيًّا ولا ذا شأن في المنار، وقد بلغني وقتئذ أن ذلك
الجاسوس أخذ من ممدوح باشا ٨٠٠ ليرة عثمانية سماها ثمنًا لمطبعة المنار، ولم
يكن للمنار يومئذ مطبعة تساوي ٨٠٠ قرش! .
وفي أثناء السنة الرابعة غضب عليَّ أمير هذه البلاد، وآذنني صديقي حسن
باشا عاصم (وكان رحمه الله يومئذ رئيس التشريفات) بأنه لا يرضى أن أقابله بعد
وكان يقول لي قبل ذلك: إن لك أن تجيء إليَّ في قصر عابدين أو قصر القبة
متى شئت. وكان غضب أيضًا على الأستاذ الإمام، وكلما اشتد غضبه على أحدنا
يشتد على الآخر، ولا أحب أن أذكر الآن شيئًا مما سمعته أو علمته من آثار هذا
الغضب إلا ما قيل من عزمه على إخراجي من مصر، فقد قال مصطفى كامل باشا
للأستاذ الإمام مرة: إن أفندينا يريد أن ينفي صاحب المنار من مصر ويطلب منك
أن تسكت على ذلك، ولا تحمل لورد كرومر على المعارضة فيه ... وسمعت مثل هذا
الخبر بعد وفاة الأستاذ الإمام. وقال لي أحد معارفي في ٢٢ من المحرم سنة ١٣٢٦
إن السر غورست على وفاق مع الخديوي وهو لا يعارضه في الانتقام ممن
يغضب عليه، ولا سيما إذا كان عثمانيًّا، ليس كلورد كرومر في المحافظة على
الحرية الشخصية، وقد علمت أن الخديوي غضبان عليك، فيجب أن تسعى في
استرضائه؛ لئلا ينفيك من هذه الديار، وأنه ربما يفعل ذلك. فقلت له: إنني لا
أكتب في هذه السنين شيئًا عنه، ولا أعلم أن في المنار شيئًا يسوءه، فماذا ينقم مني؟
قال: دوام الثناء على الشيخ محمد عبده. قلت: ليس في المنار ثناء، وإنما هي
أقوال عنه وآراء، ولا يمكن أن تخلو المنار من ذكره، وإن مصر لا مزية لها
عندي إلا لحرية العلم والصحافة والحرية الشخصية، فإذا كان الخديوي ينفي منها
من كره وجوده فيها، فلماذا أحرص أنا على الإقامة بها، أو آسى على البعد عنها؟
إنني إذًا أظعن إلى الهند، وإني لأعلم أنه يكون لي فيها مقام كريم لا أجد مثله في
مصر، هذا وإن مثل هذا الخبر ليس برهانًا يقينيًّا على صحة ما قيل عن الأمير -
برأه الله وحماه مما لا يليق به - وإن كان عند بعض الكبراء ونظار الحكومة نبأ منه.
وفي السنة الخامسة نشرت (سجل جمعية أم القرى) في المنار ومقالات
(الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) فتضاعف قراء المنار في القطر المصري،
واشتدت الحكومة العثمانية في المراقبة عليه والبحث عن قرائه ولا سيما في القطر
السوري.
وفي السنة السادسة شرعت في نشر رسالة في مالية الدولة العثمانية، فرغَّب
إليَّ الأستاذ الإمام أن لا أتمها فوافيت رغبته. ولكني ضقت ذرعًا بسوء حالنا
السياسية، فصرت أكثر في تفسير القرآن الحكيم من السياسة وهو يجيز ذلك؛ لأنه
إنما ينهى عن التصريح بسياسة حكوماتنا وحكامنا؛ لئلا يصدونا عن خدمة الدين
والعلم.
وفي السنة السابعة كثر دبيب عقارب الساعة من جواسيس المابين
بمصر، وتواترت التقارير في الأستاذ الإمام وفي صاحب المنار، وكان الذي
يبلغها السلطان هو عزت باشا العابد الذي كان بينه وبين الأستاذ مودة سابقة منذ كانا
في سورية، ولم يحدث بينهما ما يوجب هذا الانقلاب إلا صنعة عزت
الجديدة في المابين وعلاقته بمصر، وكان حزب الشيطان الذي يدبر هذه السعايات
والمفاسد قد زور رسائل بتوقيع (محمد عبده) ، وأرسلها إلى الحجاز واليمن
وغيرهما من البلاد العربية تشتمل على الدعوة إلى الخلافة العربية، وهو يعلم
أنها تقع في الأيدي التي توصلها إلى المابين، فاشتد خوف السلطان من الشيخ
محمد عبده. والشيخ محمد عبده لا علم له بما يكتب في شأنه، ولا ما يكتب عن
لسانه مما هو مخالف لرأيه واعتقاده، حتى إنه هو الذي أرجع بعض المستشرقين
عن السعي لإنشاء دولة عربية؛ لاعتقاده أن التفريق بين الترك والعرب يضعف
الفريقين، ويسهل على الدول الطامعة محو الدولة الإسلامية من الأرض، وإنني
ما وقفت على أكثر ما أشرت إليه هنا إلا بعد موته.
وما دخلت السنة الثامنة إلا وقد صار النفور والخلاف بين الأمير والأستاذ
على أشدهما، كما أن السعاية السلطانية فيه قد بلغت غايتها، وقد اشتد المرض
على الأستاذ حتى كان يجود بنفسه في الإسكندرية، والحكومة العثمانية تبحث عنه
في سواحل بيروت؛ لأن الجواسيس قد بلغوا المابين أنه سافر إلى بيروت متنكرًا؛
ليؤسس الخلافة العربية في سورية! ! ألا قاتل الله أولئك التحوت الأشرار، ما كان
أشد عبثهم بالسلطان وخيانتهم له وللدولة والأمة. وفي هاتين السنتين كان الاستبداد
قد شد الخناق على محبي العلم، والاضطهاد لمقتني الكتب. ومنيت بيروت بخليل
باشا واليًا، وطرابلس بحسني بك متصرفًا! وكانا من شر أعوان الاستبداد
والمخلصين له فيما يحاول من الظلم والإفساد، فأسرفا في تفتيش البيوت! وأخذ
الكتب والأوراق منها! والمؤاخذة على اقتنائها! حتى صار الناس يحرقون كتبهم
وأوراقهم بالنار! ومنهم من كان يدفنها بل يئدها كما تئد الجاهلية البنات! حتى
أحرق في سنة واحدة عشرات الألوف من المجلدات!
كيف لا وقد كانت الكتب والجرائد تعد من الجرائر، منها الصغائر ومنها
الكبائر، وكان اقتناء المنار أو ما طبع بمطبعة المنار، هو أعظم الذنوب وأثقل
الأوزار، وكان الحكم على مجرمي الكتب بالهوى لا بالشرع ولا القانون، ولا تأخذ
الحاكم فيهم رأفة، ولا تقبل منهم شفاعة ولا عدل ولا هم ينصرون، على أن أولئك
الولاة ومن دونهم من المستبدين، لم يستعملوا بأس الحكومة إلا في منع كتب العلم
واضطهاد المتعلمين، دون سفك الدم وإفساد الأمن، وإهلاك الحرث والنسل، فماذا
كان حظنا من حكمهم؟
دمروا الدار، واجتاحوا الكتب والأسفار، وحبسوا من وجدوا من الإخوة،
وحصروا الوالد المريض مع النساء، ووضعوا على داره الحراس والخفراء، فكان
ذلك الشيخ الجليل، والسيد الشريف يجود بنفسه، وينتظر أمر ربه، وبناته مع
أمهن أمام سريره يطلقن العبرات ويصعدن الزفرات، فقد عز عليهن، وعظم
المصاب في قلوبهن، وإن حيل بينه وبين أولاده الأبرار، في وقت توديعه لهذه
الدار، فمنهم القريب الذي هو في حكم المبعد، والسجين الذي هو في حكم المستعبد
هذا والجنود السلطانية تحيط بهن وتطوف حول منزلهن، شاكية السلاح، مستعدة
للكفاح، تدل ببأسها وشدتها، تمثل قوة (الخلافة الحميدية) وعظمتها؛ ليعرف
الشيخ المحتضر عجزه عن تأسيس خلافة عربية في قرية القلمون، وهكذا قضى
الوالد نحبه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم كان من ظلم الحكومة المستبدة لنا أن ولت على مسجدنا رجلاً آخر بغير
حق، وأطمعته في الاستيلاء على عقاراتنا بدعوى أنها وقف، كما أطمعت غيره
من أشقياء طرابلس فنهبوا ما وجدوا في الدار من الثياب والحلي والماعون وغير
ذلك، وقد أسقط الله حكومة الاستبداد، ولما تكون حكومة الدستور، فحقوقنا لا
تزال مهضومة؛ لفساد الحكام واختلال الأمن العام، فهذا مجمل من خبر ظلم
الحكومة لنا، وهو قليل من كثير ظلمها لغيرنا، ممن أجرموا كإجرامنا، فشكوا من
الظلم والجهل ودعوا إلى العلم والعدل.
كان يصل إلينا قليل من أخبار الاستبداد ووقائع العتو والإفساد، وبعد وفاة
الأستاذ الإمام صرفنا وقت الفراغ والراحة الذي كنا نجالسه فيه إلى مجالسة إخواننا
العثمانيين المقيمين في القاهرة، فازددنا علمًا بسوء الحال، وخطر المآل، فأسسنا
جمعية الشورى العثمانية؛ لأجل جمع كلمة العثمانيين على استبدال حكومة الشورى
بحكومة المستبدين؛ لعلمنا بأن جمعية الاتحاد والترقي خاصة بالمسلمين، وأن
العثمانيين ماداموا متفرقين شيعًا، ومتقطعين مللاً وأممًا فكلمتهم هي السفلى، وكلمة
الاستبداد هي العليا، فتألفت الجمعية من المسلمين عربهم وتركهم وألبانهم وأكرادهم
ومن النصارى عربهم ورومهم وأرمنهم، ودعي إليها بعض اليهود؛ ولكن لم يكن
في مجلس إدارتها أحد منهم، وقد انتخب هذا العاجز (صاحب هذه المجلة) رئيسًا
لمجلس إدارة اللجنة المؤسسة لهذه الجمعية، وكانت ترسل جريدتها ومنشوراتها
السرية إلى الرومللي والأناطول بل والآستانة العلية.
اهتم السلطان بهذه الجمعية، حتى هجر النوم مضجعه ثلاث ليال كما علمنا
من رواية العارفين الثقات، فقد كان - أقر الله بالدستور عينه، ولا سهد في عهد
الحرية جفنه - كثيرًا ما يشارك أحرار أمته في أرقهم، ويساهمهم في قلقهم، وإن
كانا في هذا الأمر، كضيف عمرو وعمرو، وصار للجمعية لسان صدق عند جميع
أحرار العثمانيين، فكانت مبدأ ما كان من وحدتهم بعد حين، وقدم أحمد رضا بك
من باريس إلى مصر، فرغب إلينا أن نضم جمعيتنا إلى جمعية الاتحاد والترقي
فأبى مجلس الإدارة ذلك عليه، وكان مما قلته له إن تعدد الجمعيات مع وحدة الغاية
والمقصد لا يعد تفرقًا ولا يحدث ضعفًا، وإننا نرى أنه لا نجاح للعثمانيين إلا باتفاق
عناصرهم على المطالبة بالدستور، قال: إن قانون جمعيتنا لا يمنع قبول غير
المسلمين فيها، قلت: نعم، وإننا لا نشكو من القانون. ولكن من عدم تنفيذه، فما
قانونكم - وليس في جمعيتكم رومي ولا أرمني ولا سوري نصراني - إلا كقوانين
السلطنة (حبر على ورق) ولو نفذ السلطان قوانين الدولة على علاتها، لما طالبناه
بمجلس (المبعوثان) لإشراك الأمة معه في الأحكام.
هذا ملخص تاريخنا السياسي في السنين الخالية: سالمنا السياسة فساورت
وواثبت، وأسلسنا لها فجمحت وتقحمت، وكنا نهم بها في بعض الأحيان، فيصدف
بنا عنها الأستاذ الإمام، ولم ننل منها ما نهواه، إلا بعد أن اصطفاه الله، وليس
للمنار حظ في السياسة العملية، وإنما همه أن يكون حرًّا فيما فرض عليه من
الخدمة الملية، وإذا كان (كسائر الصحف) قد أمن على حريته واستقلاله من
استبداد الدولة، فقد بقي عليه أن يجاهد مع غيره استبداد الأمة. فإن في الأمة
أعداء للحرية والاستقلال في العلوم والأفكار والأعمال، يحبون أن تكون الصحف
كما يرون لا كما يرى أصحابها، وأن تنشر فيها ما يعتقدون لا ما يعتقد كتابها، وما
كتاب الصحف إلا معلمون ومرشدون، وهل يُعلِّم الأستاذ تلاميذه ما يعلمون،
ويربي المرشد مريديه كما يريدون؟ وقد جرى على هذا كثير من أصحاب
الصحف المصرية وما كانوا مصلحين، ويجري عليه الآن بعض أصحاب الصحف
العثمانية وما هم بمهتدين، وسيبقى المنار على صراطه لا يبالي بالمخالفين.
نعم، إن المنار يستقبل جهادًا جديدًا في البلاد العثمانية، وقد فرغ من مثله
فيما عداها من مصر وسائر البلاد الإسلامية، فأكثر المسلمين العثمانيين لم يألفوا
حرية البحث في السياسة والعلم والدين، ينظر أغلب الباحثين إلى القائلين دون
الأقوال، وينصرون التقليد على الاستقلال. ولكن يوجد في كل بلد أفراد سلمت
فطرتهم، واستنارت بالحق بصيرتهم، يشعرون بشدة الحاجة إلى إصلاح حالنا
الاجتماعية والدينية، ويعلمون أنه يتوقف على استقلال الفكر والحرية، وإن هؤلاء
على قلتهم ليغلبون أولئك على كثرتهم، وسيبرزون لهم بعد استقرار الدستور
مجادلين لا مجالدين {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: ٢٤٩) فهذه الفئة هي التي يشد المنار أزرها، ويشد بها أزره،
وينصرها في جهادها ويتقاضاها نصره {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ} (الحج: ٤٠) .
سيقول السفهاء من الناس، وأهل الإرجاف والوسواس: إن هذا المنار يدعو
إلى الفوضى في الدين، بترك مذاهب الأئمة المجتهدين، وينصر مذهب الوهابية
على مذهب السنة أي: الحشوية، ويبطل القول بالكرامات، بإنحائه على الدجل
والخرافات، وحجة أنصار المنار على هؤلاء، ومن يقلدهم من الدهماء، الذي
يثبت أنه يتحرى الحق والصواب، ولا يريد إلا الإصلاح ما استطاع، دون
التعصب لمذهب على مذهب هي قبوله انتقاد المنتقدين في مسائل الدنيا والدين، إذا
أيدت الأولى بالعلم والعقل، والثانية بما يصح من النقل، مع التزام النزاهة
والآداب واجتناب الحشو والإطناب، فمن زعم أن في المنار باطلاً فليكتب إليه،
دون أن يعصي الله بغيبته والطعن عليه، وللحق السلطان على الباطل {بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: ١٨) {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ
جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: ١٧) .
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني