(المنار) لما كان معظم ما كتبه هذا الأستاذ البليغ من ترجمة أستاذنا - ملخَّصًا من ترجمتنا التي نشرناها في المنار عقب وفاته - رأينا أن نكتفي بنقل شذرات منها لاشتمالها على فوائد من الاستنتاج والاستنباط، على النحو الذي جرينا عليه في الجزء الأول من تاريخه، فمن ذلك قوله في تأثير التصوف في نفسه - بعد اتصاله بالشيخ درويش -: وليس عندنا بيان عن هذا الشيخ الصوفي، نستطيع أن نفهم به أحواله النفسية والعقلية، ونتبين كيفية سلطانه على نفس مريده، تلك النفس القوية الحرة النافرة، التي راض الشيخ درويش جماحها في خمسة عشر يومًا، غير أن الذي رواه الأستاذ من حال شيخه - يدل على أنه كان رجلاً ساذجًا، نيِّر البصيرة، طيب القلب، سَمحًا، سهلاً، مؤمنًا، يغذي إيمانه بتفهُّم القرآن، وبضروب سهلة من العبادة والرياضة. وأمثال هذا الصوفي يوجدون شُذَّاذًا بين الأعداد الكثيرة من رجال الطرق، ويكون لهم أثر روحي في المستعدين من مريديهم، بما في نفوسهم من صفاء، وما في إيمانهم من قوة، ليست مستمدة من ناحية علمية. ولا يُنكر أثر الشيخ درويش خضر بتربيته الصوفية في نفس أستاذنا؛ فإن ذلك الشيخ الصوفي الذي أخذ بزمام الجانب الروحي من تلميذه الفتى في عنفوان ثورة نفسية - قد وجه عواطف الشباب وخيالاته إلى معانٍ من اللذائذ القدسية. وإذا كانت التربية الحديثة تدعو إلى تهذيب الذوق بفنون الجمال فإن التربية الصوفية تدعو إلى تلطيف السر بأنواع من الرياضة، كالعبادة المشفوعة بالفكرة، والألحان المستخدمة لقوى النفس، الموقعة لما لحن فيها من الكلام موقع القبول من الأوهام، ويعين على تلطيف السر - كما يقول ابن سينا في الإشارات - الفكر اللطيف، والعشق العفيف، الذي تأمر فيه شمائل المعشوق، لا سلطان الشهوة. قال ابن سينا - في وصف العارفين -: (العارف هَشّ بَشّ بسَّام، وكيف لا يهش، وهو فرحان بالحق، وبكل شيء؛ فإنه يرى فيه الحق، العارف شجاع، وكيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت، وجواد وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل، وصفَّاح وكيف لا ونفسه أكبر من أن تحرجها زلة بشر، ونَسَّاء للأحقاد وكيف لا وذِكْره مشغول بالحق) . هذه التعاليم من شأنها أن تربي الوجدان، وتلطف السر، وتكمل النفس وتزينها، ولا جرم كان الشيخ محمد عبده صوفي الأخلاق. قضى شيخنا نحو أربع سنين في بداية تكوينه الفكري بالجامع الأحمدي بطنطا، ولا ينبغي أن نغفل أن مسجد طنطا، هو جامع سيدي أحمد البدوي، فيه مقامه، ومخلَّفاته، وفيه آثار مقدسة عند العامة، وكثير من الخاصة، وفيه مقابر لغير السيد من الأولياء. والسيد البدوي هو أشهر أولياء القطر المصري، وصِيته وكراماته ذائعة في وادي النيل، ولزائريه من صور التوسل والزلفى ما لا يخلو من شطط، ومسجد السيد مورد الدراويش، ومجتمع المجاذيب، الذين يظن كثير من الناس أن لهم في صفحة الغيب لمحات! هذه السنين الأربع في هذه البيئة نبهت عقل الشيخ محمد عبده إلى البدع الدينية وعملها في العقول والأخلاق، ولكنها أيضًا مسَّت بعض الجوانب من نفس الفتى، فتركت في منازعها المتسامية إلى الكمال والفهم موطن تأثُّر. قال الأستاذ - فيما كتبه من تاريخ حياته -: (وفي يوم من شهر رجب من تلك السنة - سنة ١٢٨٢ هـ - كنت أطالع بين الطلبة، وأقرر لهم معاني شرح الزرقاني، فرأيت أمامي شخصًا يُشْبِهُ أن يكون من أولئك الذين يسمونهم بالمجاذيب، فلما رفعت رأسي إليه قال ما معناه: ما أحلى حلواء مصر البيضاء! فقلت له: وأين الحلوى التي معك؟ ! فقال: سبحان الله! ، مَن جَدَّ وجد. ثم انصرف، فعددت ذلك القول إلهامًا ساقه الله إليَّ! ؛ ليحملني على طلب العلم في مصر دون طنطا) . (ومنها قوله في حال الأزهر وأهله عند أستاذنا للعلم فيه) . ذهب المجاور الشيخ محمد عبده بتصوفه إلى الأزهر في شوال سنة ١٢٨٢ هـ - فبراير ١٨٦٦ م في عهد إسماعيل الذي جلس على عرش مصر سنة ١٢٧٩ هـ - ١٨٦٣م. كان إسماعيل يعرف قيمة العلم لحُسن تربيته، فعُني بنشر المعارف، وإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، وهو أول مَن أوجد حركة تجديد في الأزهر، وفي زمنه وضع الشيخ المهدي العباسي شيخ الأزهر أول قانون للتدريس، صدرت بتنفيذه إرادة سنية سنة ١٢٨٩ هـ - ١٨٧٢ م. في ذلك العهد، كان انتشر التعليم النظامي في القطر، وأحس الأزهر وأهله بذلك، وكانت البعثة العلمية التي اختارها محمد علي من بين نجباء الطلبة في الأزهر، وأوفدها إلى باريس سنة ١٢٤٢ هـ - ١٨٢٦ م - قد حولت عددًا كبيرًا من الأذكياء عن التعليم القديم الموروث إلى طريق جديد، فاعتبرت في المرتبة الأولى علوم كانت في المرتبة الأخيرة - في نظر الأزهريين - كالرياضة الطبيعة والتاريخ والجغرافيا، وصارت بابًا للتوظف والكرامة! وساعدت هذه البعثة على إظهار ما في مناهج التعليم الأزهري من العيوب. أراد الجيل العلمي الجديد أن يعرِّب كتبًا أوروبية مكتوبة في الغالب بلسان فرنسي، ولم يجد في المصطلحات القديمة متسعًا، فوضع عبارات محدثة، وأوجد أسلوبًا جديدًا لم يرضَ عنه الأزهريون، ومنذ يومئذ دخل إلى الأزهر التنازع بين القديم والجديد. أما الروح السائدة في التعليم الأزهري فكانت على ما وصفها بعض علماء الفرنجة في قوله: (ولئن كانت أنماط التعليم والبحث في الأزهر تختلف عما هو مستعمل في الغرب للآن اختلافًا أساسيًّا - فهي لا تختلف في شيء عن الأنماط التي كانت عندنا قديمًا. أثر العلوم النقلية في قهر العقول - الذي أخذ في التلاشي عندنا منذ قرون - لا يزال في عنفوان سطوته في الجامعات الإسلامية. ليس الغرض من العلم عند أهل الأزهر هو البحث للتحقيق والمقارنة والتمحيص، ولكنه النقل الصحيح لما ترك الأقدمون. والمفروض أن الأجيال متراجعة إلى الانحطاط، والأجيال الحاضرة والمقبلة تتصل بعصر النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق هابط من أعلى إلى أسفل، والأئمة المجتهدون بُعداء في عصور ذاهبة في أعماق الماضي، لا يستطيع الحاضر أن يدرك غبارها) . ونسارع إلى بيان أن أستاذنا صرح - في تفسير سورة (العصر) - بفساد ما عليه الناس من ذم عصورهم، ونسبة ما شاءوا من الخير إلى ما كان قبلهم من العصور، كما صرح في كثير من أقواله وكتاباته بعيب التعليم الأزهري ومناهجه. هذا، وكان في الأزهر نفسه تدافُع بين الشرعيين والصوفية، فأولئك كانوا يرون الخروج عن العلوم النقلية المتداولة في الأزهر تمردًا على الدين، وهؤلاء كانوا يطمحون إلى أنواع من المعارف التي لها مساس بالتصوف. ويدل على هذا التدافع ما ذكره الصوفي الأزهري الشيخ حسن رضوان (المتوفى سنة ١٣١٠هـ - ١٨٩٢م) - في منظومته المسماة (روض القلوب المستطاب) . وقد كان للشيخ حسن رضوان مريدون بين علماء الأزهر وطلابه، منهم الشيخ حسن الطويل، والشيخ محمود البسيوني، وهما من أساتذة الشيخ محمد عبده، ومنهم الشيخ محمد عبده نفسه، وجماعة من إخوانه. وبذلك يظهر أن شيخنا - حينما جاء إلى الأزهر - انضم إلى حزب التصوف، وهو أقل الحزبين جمودًا، وأقلهما نفرة من الجديد [١] . كان الأستاذ متصوفًا في الأزهر مدة الدراسة، مع شيوخه وزملائه، متصوفًا في أيام المسامحات، مع خال أبيه الشيخ درويش خضر، حتى انطبع تفكيره بنوع من الخيال الصوفي، الذاهب في الروحانيات إلى ما يجاوز مدى الفهم أحيانًا. انساق الأستاذ الشيخ حسن الطويل إلى دراسة الفلسفة الإسلامية، بحكم نزوعه إلى التصوف، والتصوف الإسلامي متأثر بمذاهب الفلسفة، خصوصًا مذهب أرسطو، الذي يُعتبَر إمامًا لفلاسفة العرب! وانساق بعض الأساتذة - كالشيخ محمد البسيوني - إلى مدارسة الأدب باعتباره من الفنون الجميلة التي أحيا ذوقها في مصر إسماعيل. وقد كان الشيخ الطويل والشيخ البسيوني من أساتذة الشيخ محمد عبده، فهو كان متصلاً بالحركة الصوفية المخلوطة بالفلسفة، وكان متصلاً بالحركة الأدبية، على أنه لم يبعد كل البُعد عن المحافظين على القديم، فحضر دروس زعمائهم المشهورين كالشيخ عليش، والشيخ الرفاعي، والشيخ الجيزاوي، والشيخ الطرابلسي والشيخ البحراوي. اتصاله بالسيد الأفغاني وتخرجه به: وفي سنة ١٢٨٨هـ - ١٨٧١م، حضر إلى مصر السيد جمال الدين الأفغاني، فصاحَبَه الأستاذ الشيخ محمد عبده، يحضر دروسه، ويلازم مجالسه، التي كانت مجالس حكمة وعلم. كان الشيخ محمد عبده يومئذٍ فتًى، متأثرة كل عواطف قلبه الفَتِيّ بمنازع التصوف، ورياضاته ومَوَاجِده، وكان يتلقى علوم الأزهر على أنماطها المعروفة شاعرًا بأن وراءها كمالاً علميًّا لا يجده فيما حوله. كان السيد الأفغاني وحده قادرًا على تخليص الشيخ محمد عبده من خموله الصوفي، وتخليصه من الحيرة في التماس الكمال العلمي. هذا الرجل الكبير بمواهبه الفطرية، الكبير بسعة علمه وحُسن نظام فكره، الكبير بمطامحه، الكبير بنفسه العالية القوية المشتعلة حياةً وعزمًا، الكبير بتاريخه المملوء بالحوادث الجلى والآلام، هو السيد جمال الدين الأفغاني الذي صحبه الشيخ محمد عبده تلميذًا وصديقًا منذ سنة ١٢٨٨ إلى ١٢٩٦هـ (١٨٧١-١٨٧٩) م. وبعد سنتين من صحبة الشيخ محمد عبده للسيد جمال الدين الأفغاني، ظهر لنا ذلك الشاب المتصوف - الذي كان ينطلق في القول على وَجَل، إذا سأله العامة عن شيءٍ من أمر دينهم، في تلك المجامع التي كان يقوده إليها خال أبيه درويش - مؤلفًا جريئًا يكتب في رسالة (الواردات) سنة ١٢٩٠هـ -١٨٧٣م من المذاهب الفلسفية والصوفية، ما قد تكون بعض أوساطنا العلمية لم تستعد بعدُ لسماعه، وقد مضى خمسون عامًا. هذه الرسالة - التي هي أول ما وصل إلينا من آثار أستاذنا - لا تخلو في أسلوبها من نفحة الأدب العتيق، أدب السجع والتكلُّف، الذي كان عالقًا بالمؤلف لقُرب عهده به، ولكنها في تأليفها ذات نظام حسن، وطريقة في سَوْق البراهين معقولة، هي رسالة صغيرة في العقائد على منزع يغلب تصوفه ما فيه من فلسفة. وفي سنة ١٢٩٢هـ - ١٨٧٥م ألف شيخنا حاشيته على شرح الجلال الدواني للعقائد العضدية. وهذه الحاشية ترينا الشيخ محمد عبده في السادسة والعشرين من عمره، محيطًا بمذاهب المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة، إحاطةَ فهم ونقد، يكاد يجهر بآرائه في تلك الموضوعات الخطيرة، ويكاد يكظم صوته الفتيّ القوي شبحُ عصا الشيخ عليش، قائمًا على رأس مجاور، بينه وبين التقدم لامتحان العالِمية سنتان. في هذه الحاشية توضيح للمذاهب في الإلهيات، والنبوات، ومقارنة بينها ونقد متين. جملة القول: إن الشيخ محمد عبده كان ما بين ١٢٩٠-١٢٩٢هـ (١٨٧٣- ١٨٧٥م) صوفيًّا متفلسفًا. ويظهر أن السيد جمال الدين خلعه من التصوف بمعنى الدروشة، والانصراف للتحنُّث والرياضة إلى معنى للتصوف جديد. ويُرْوَى أن السيد الأفغاني - يرحمه الله - كان يقول: (الفيلسوف إن لبِس الخشن، وأطال المسبحة، ولزم المسجد فهو صوفي) . (وإن جلس في قهوة (متاتيا) ، وشرب الشيشة فهو فيلسوف) . ولعل الشيخ محمد عبده لما كتب حاشية العقائد كان ألمَّ بقهوة متاتيا إلمامًا. طور العمل والتصدي للإصلاح: لم تُطْبَعْ رسالة الواردات إلا بعد وفاة الأستاذ [٢] وحاشية العقائد العضدية طُبعت قبل وفاته بقليل، وأول ما نُشر على الناس من آثاره هو ما كتبه في جريدة الأهرام لبداية نشأتها سنة ١٢٩٣هـ - ١٨٧٦م، وهي فصول على ما قد يكون في تحريرها من الضعف تهتف بما يجيش في نفس ذلك المجاور الصغير من كبار الآمال المنبعثة عن مذاهب في الإصلاح، وتطلُّع إلى النهوض. ومنذ ذلك العهد، توجَّهت نفس الأستاذ إلى الإصلاح، بعد أن كانت منصرفة إلى تلمُّس الحقائق، والبحث العلمي. وقد كان ذلك - من غير شك - بتأثير السيد جمال الدين الأفغاني وهدايته. شرع المجاور الشيخ محمد عبده يكتب في جريدة الأهرام فصولاً متتابعة، سامية المنزع، مشتملة على أصول الدعوة الإصلاحية التي صرف حياته في سبيلها. وقد استرعت تلك الفصول نظر الناس إلى ذلك الفتى الناهض إلى السابعة والعشرين من عمره - نهضة المصلحين الكبار عاقلاً جريئًا. وصل صدى تلك المقالات إلى أسماع الجامدين من الشيوخ، والتقى فيها بحديث ملازمة كاتبها للسيد جمال الدين، واشتغاله بالفلسفة، وترجيحه لبعض مذاهب المعتزلة [٣] ، ونَهْيه عن التقليد، ودعوته إلى الاشتغال بالعلوم الحديثة، وتحبيذه لعلوم الفرنجة، وإطالة شعره أيضًا. دخل الشيخ محمد عبده إلى مجلس الامتحان سنة ١٢٩٤هـ - ١٨٧٧م، وكل ذلك ينتظره في صدور أعضائه، ما عدا الرجل المنصف الشيخ محمد المهدي العباسي، شيخ الأزهر لذلك العهد، ورئيس لجنة الامتحان. ولولا قوة الشيخ محمد عبده في علمه وفي نفسه قوة باهرة، وترفُّع الشيخ المهدي عن الظلم لقضى مجلس الامتحان - المؤلف من كبار الشيوخ - بأن ذلك المجاور المضطهَد لا يستحق نجاحًا! نال الأستاذ شهادة العالمية من الدرجة الثانية، وهو ابن ثمانٍ وعشرين سنة، فشعر - لأول مرة - بأنه انتصر على خصومه الجامدين، أعداء الإصلاح، برغم جاههم وكثرتهم [٤] ، وزاده ذلك نشاطًا، فجمع كل ما في نفسه من قوة الشباب، وقوة العلم، وقوة الرغبة في الإصلاح، ووجه جميع ذلك إلى العمل في الأزهر، لاعتقاده أن صلاح الأزهر صلاح للبلاد وأهلها، وللمسلمين في أقطار الأرض. أخذ يدرِّس كتب المنطق والكلام المشوب بالفلسفة في الجامع الأزهر، ويدرس في داره لبعض المجاورين كتاب تهذيب الأخلاق لابن مسكويه، وكتاب التحفة الأدبية في تاريخ تمدن الممالك الأوروبية، تأليف الوزير فرانسوا جيزو، وتعريب الخواجة نعمة الله خوري. وفي أواخر سنة ١٢٩٥هـ -١٨٧٨م عُيّن مدرسًا للتاريخ في مدرسة دار العلوم ومدرسًا للعلوم العربية في مدرسة الإدارة والألسن الخديوية. وفي سنة ١٢٩٦هـ - ١٨٧٩م نُفي من مصر - بمساعي الإنجليز - السيد جمال الدين الأفغاني، الذي كان عمله السياسي شجى في حلق ممثل إنجلترا، بمقدار ما كان تجديده لدرس الفلسفيات غيظًا للجامدين من أهل الأزهر، وعُزِل الشيخ محمد عبده من مدرسة دار العلوم ومدرسة الألسن، وأُمر بأن يقيم في قرية محلة نصر، لا يفارقها إلى بلد آخر. ويظهر أن رياض باشا كان خارج القطر عند حصول هذه الحادثة في أوائل حكم الخديوي توفيق باشا. ورياض هو الذي كان زيَّن للسيد جمال الدين المقام في مصر، وأمده بالمعونة؛ ليستعين به على تربية شباب مصلح. وإذا كان الوزير الكبير عجز عن رد ما فات من نفي السيد الأفغاني - فما كان ليفوته أن ينتفع بتلاميذه، وما كان ليترك خليفة السيد جمال الدين منفيًّا في قرية من قرى مديرية البحيرة محرَّمًا عليه أن يخرج منها، فاستصدر له عفوًا من الخديوي ١٢٩٧هـ (١٨٨٠م) ، وعينه محررًا في الجريدة الرسمية، ثم جعله في آخر هذه السنة رئيسًا لتحريرها. عند ذلك نهض الشيخ محمد عبده بحركة إصلاح، هيأت له مساعدة رياض باشا وسائلها، وأعانه عليها خيرة تلاميذ السيد جمال الدين، الذين كانوا يشتغلون معه في تحرير الجريدة الرسمية. وقد انقطعت يومئذ صلة الأستاذ بالأزهر، فلم يعد معلمًا يريد أن يصلح طرق التعليم فيه، ويرشد أهله إلى العلوم الجديدة، ولكنه أصبح صحافيًّا يحاول الإصلاح الاجتماعي والسياسي على مبادئ الحرية والعدالة والشورى. ألمَّ الشيخ محمد عبده رئيس تحرير الجرنال الرسمي (الوقائع المصرية) في فصوله الكبيرة الفائدة، القوية الروح - بوجوه الإصلاح التي كانت تنبعث عزيمته إليها، فدعا إلى التعاون على الخير، وحبَّذ فكرة الحرية، ورفع المظالم عن الأهالي، وعاب على الشعب كسله، ونادى بإصلاح التعليم، والتربية في المدارس، وحمل على الرشوة وأهلها، وبيَّن أن الحق للقانون لا للقوة، وذم إسراف الأهالي، وتمسُّكهم بظواهر المدنية مع الغفلة عن وسائل المدنية الصحيحة، وعالج إصلاح منتدياتنا وإصلاح بيوتنا،وذكر رأيه في خطأ العقلاء الذين يريدون الرقي طفرة ووثبًا، ثم تعرض الأستاذ لنوع من الإصلاح الديني، شغف به في أدوار حياته الإصلاحية كلها، ذلك هو تطهير الإسلام من البدع التي شوَّهت شعائره، وجنت عليه. وهذه المقالات تجمع مبادئه الوطنية، ومذاهبه في الحرية، وطريقه في الإصلاح، كان الشيخ وطنيًّا يرى (أن خير أوجه الوحدة الوطنُ لامتناع الخلاف والنزاع فيه) [٥] ، على أنه نصير للمبادئ التي تدعو إلى المحافظة العامة على دعائم السلام، والراحة، والإخاء بين الناس، وهو داعٍ إلى الحرية، حرية العمل، ورفْع سوط القسوة غير القانونية، بحيث لا يسخر أحد في عمل من الأعمال إلا فيما يعود بالمنفعة العامة على البلاد، أما القول والكتابة فلم يكن الأستاذ - فيما يظهر - من أنصار حريتهما إلا بمقدار؛ لذلك كان يلتمس سنَّ القوانين للرقابة على المطبوعات، بل هو قد سعى لذلك، وأفلح فيه، وكان يرجع إلى سلطانه أمر هذه المراقبة في عهد رياسته لتحرير الجريدة الرسمية؛ ذلك بأنه كان يخشى انتشار الكتب الضارة بالدين، المشيعة للخرافات بين العامة، ويخشى انتشار اللهجات السخيفة، والموضوعات المؤذية للأخلاق. أما سبيل الأستاذ في الإصلاح فهي سبيل التدريج، يريد أن يحفظ للأمة عوائدها الكلية، المقررة في عقول أفرادها، ثم يطلب بعض تحسينات فيها لا تبعد عنها بالمرة، فإذا اعتادوا طلب منهم ما هو أرقى بالتدريج، حتى لا يمضي زمن طويل إلا وقد انخلعوا عن عاداتهم وأفكارهم المنحطَّة إلى ما هو أرقى، من حيث لا يشعرون. طريق الأستاذ في الإصلاح يرجع إلى العناية بالتربية، ونشر العلم، وأول مبدأ يجب أن يكون أساسًا لتحلية العقول بالمعلومات اللطيفة، والنفوس بالصفات الكريمة - هو التعاليم الدينية الصحيحة، يعني ترغيب القلوب بما يُرضِي الخالق، وإرهابها مما يُغضبه. أما الإصلاح الديني - بتخليص الإسلام من شوائب الأزمان والأجيال، وردّه إلى سذاجته الأولى؛ ليصافح العلم والمدنية، ويتسع لحرية العقل، تلك الدعوة التي كان أستاذنا حامل لوائها - فلم تكن في عهد تحريره للجريدة الرسمية إلا نبتًا لم يتكامل نموه. تأثر الشيخ محمد عبده بمبادئ أستاذه السيد جمال الدين، ومع ذلك كان لمذاهبه الإصلاحية استقلال يجعل لها شخصية وحدها، ولقد كان حين تولِّيه تحرير الجريدة الرسمية حديث عهد بصحبة أستاذه، حديث عهد بالتخرج على يديه، وكانت له على هذا سبيل في الإصلاح ليست من كل وجه سبيل السيد جمال الدين. كان السيد مشتعل الحماس، يريد أن يلهب النفوس، فيؤجِّج نارها، ثم يصوغ من ضعفها قوة، ومن ذلها عزًّا، كان يرى أن الثورات هي سبيل للإصلاح الاجتماعي والسياسي. أما شيخنا - أيام تحرير الجريدة الرسمية - فكان معلمًا مصلحًا، يطلب الأناة في دفع الأمم إلى الرقي؛ ليعلمها ويهذبها أولاً، ثم يسوقها برفق إلى ما علمت. هبت أعاصير الثورة العرابية، وأستاذنا رئيس لتحرير الجريدة الرسمية، له يد عاملة في حركة الأفكار، ولم يكن الأستاذ ممن يدعون إلى الإصلاح من طريق الثورة، ولكنه لما رأى الثورة قائمة لنُصرة أغراض هي مبادئه، ومبادئ أستاذه - اتصل بها، وألقى في نارها حطبًا [٦] ، وقد حُوكم مع زعمائها، وحُكم عليه بالنفي ثلاث سنين وثلاثة أشهر [٧] .