للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المولد النبوي

(احتفل في هذا العام به في بمباي (الهند) احتفالاً وصفه مراسل البلاغ بما
يأتي)
لم تشهد بمباي منذ سنوات احتفالاً شعبيًّا رائعًا كالاحتفال الكبير الذي أقامه
مسلمو بمباي هذا العام، ففي اليوم الثاني عشر من ميلاد أشرف الكائنات، وفخر
الموجودات المثل الأعلى، وحجة الله العظمى، محمد بن عبد الله صلوات الله تعالى
عليه وسلم، في نحو الساعة الثانية والنصف بعد الظهر عقد المسلمون في بمباي
أعظم جلسة برياسة مولانا (هيزهولينس تقدس ما آت يير سيد مطاع الدين متاميان
جشتي صاحب) حضرها ما يزيد عن عشرين ألف نسمة، يتقدمهم من أعيان
المسلمين وكبرائهم عظمة السلطان صالح بن غلاب القعيطي وخان بهادر شيخ علي
باعكظة وقنصلا إيران والأفغان، والدكتور خالد شلدريك، والمستر محمود دير
الإنجليزي محرر التيمس في بمباي (الذي أسلم مع زوجته وولديه منذ سنة في
بمباي، وكان محررًا في الإجبشيان دايلي ميل قبل سنوات) وزعيمة الهند مسز
سروجيني نايدو ومولانا أبو السعود محمد سعد الله المكي وفضيلة الشيخ أحمد
يوسف ورهط كبير من أعيان الفرس والهندوس وفضلى السيدات وكرائم العقيلات.
وقد افتتح الجلسة مولانا أبو السعود سعد الله بعشر من القرآن الكريم، ثم قرئ
المولد النبوي الشريف، ثم انتخبت هيئة الجلسة سمو السلطان صالح القعيطي
لافتتاح الحفلة، فاستهل الموقف بخطبة جليلة استعرض فيها حياة الرسول الأطهر
صلى الله عليه وسلم، وأثر المدنية العربية في الشعوب الإسلامية وانتقالها إلى
أوربا وأمريكا، وأفاض في ذلك طويلاً ببلاغة وطلاقة تنمان عن علم غزير وسعة
اطلاع.
ثم وقف السردار سليمان قاسم ميتا وخان بهادر شيخ علي باعكظة وسيد
أحمد صديق كهتري صاحب، ومولانا خجندي صاحب، وأيدوا بالإجماع إسناد
تلاوة السيرة النبوية إلى مولانا (هيزهولينس) رئيس الجلسة، وقد وافق
الحاضرون على ذلك، فشرع حضرته في تلاوة السيرة النبوية الشريفة باللغة
الإنجليزية، وأخذ في شرحها شرحًا وافيًا.
ثم وقف الدكتور خالد شلدريك بعد أن قدمه أحد أعضاء الجلسة باسم المرشح
الوحيد لعرش تركستان الصينية، فاستهل الموقف بخطبة حماسية طويلة بالإنجليزية
أتى فيها بالسبب الذي دعاه لاعتناق الإسلام، وكيف فتش طويلاً، وبحث كثيرًا في
كل ما كتب السلف والخلف عن الأديان، وأنه لم يقبل الدين الإسلامي إلا عن علم
ومعرفة، وأنه خير الأديان وأقومها، إذ جاء في مصلحة المجتمع البشري ورفاهيته،
وأن الدين الإسلامي اجتذبه بسحره ومغنطيسه فاحتضنه بين يديه، وهو ابن
التاميز، وليس هذا بعجيب.
ثم انتقل إلى حالة المسلمين في الصين وعن رحلته فيها وقال: إن عددهم أكثر
من خمسين مليونًا، وإن مسلمي الهند يبلغ عددهم أكثر من سبعين مليونًا، وإن عدد
المسلمين في أفريقيا يزداد يومًا فيومًا، وإن برناردشو أنذر أوربا وأمريكا بأن
الإسلام سيكتسحهما في الوقت القريب العاجل.
ثم انتقل إلى حالته الخصوصية، وكيف اضطهد من البوليس، وروقب في
الصين وغيرها لقيامه بالدعاية الإسلامية والتبشير في كل محل حل فيه، ووصف
حالة المسلمين وما هم عليه اليوم من تشتت واضمحلال، وقال: إن خير طريق لتقدم
المسلمين وإسعادهم هو الرجوع إلى القرآن بالعمل بما فيه، ونبذ التحزب والشقاق
بالاتحاد، وإن الكتلة المجموعة لا تقدر على قصمها اليد الواحدة.
ثم وقف أحد الأعضاء وأعلن الحاضرين مشاركة (أعليحضرت آصفجاه
الملك سمو نظام حيدر أباد مير عثمان عليخان، خلد الله ملكه) للمحتفلين في شعورهم
بنظم قصيدة عصماء في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، تلاها العضو بصوت
رخيم خاشع ملكت على الحاضرين مشاعرهم وعواطفهم، واستعادوها مرارًا
وتكرارًا، والقصيدة بالفارسية ومطلعها كما يأتي:
شه ملك رسالت صاحب تاج وسر رآمد وزير وراز دارو نائب رب قدير آمد
ثم وقف عضو آخر وأعلن المجتمعين بمشاركة حضرة صاحب الدولة يمين
السلطنة صدر مهام الدولة سير كيشن برشا رئيس وزراء مملكة (حيدر أباد دكن)
بقصيدة غراء من نظمه في مدح أفضل الموجودات وأشرف الكائنات سيد العرب
والعجم صلى الله عليه وسلم باللغة الأوردية تلاها (سيد قمرصاحب)
بصوت عذب رخيم، واستعادها الحاضرون أيضًا مرارًا وتكرارًا، والظاهرة
الوحيدة التي يسجلها التاريخ هنا لصاحب الدولة يمين السلطنة أنه هندوسي لم يمت
إلى الإسلام بصلة، إلا أن حبه للرسول صلى الله عليه وسلم جعله ينظم الكثير من
قصائده ويجعلها وقفًا عليه صلى الله عليه وسلم.
ثم وقف مولانا (خجندي صاحب) وقدم مسز سروجيني نايدو الهندوسية
للحاضرين، وخيرهم في أن يلتمسوا منها الخطابة بالأوردية أو الإنجليزية فدوى
المكان بالتصفيق وطلبوا منها الأوردية، وتحمسوا لها كثيرًا، ثم وقفت زعيمة الهند
وتكلمت بالأوردية بفصاحة وطلاقة، والتمست أيضًا هي من الحاضرين أن يسمحوا
لها بالتكلم بالإنجليزية وقالت:
إن ضيوفنا الأعزاء الذين تشرفوا باعتناق الدين الإسلامي الحنيف ينبغي لنا
أن نراعي شعورهم وإحساسهم (تشير بذلك إلى المستر محمود دير المسلم
الإنجليزي محرر التيمس وزوجته والدكتور خالد شلدريك) وأن نتكلم باللغة التي
يفهمونها لكي لا يعدوا أنفسهم غرباء عنا، ثم انطلقت كالأسد الشرود فصالت
وجالت بالإنجليزية الفصحى، فتكلمت عن محاسن الدين الإسلامي طويلاً وعن
عبقرية محمد (صلوات الله تعالى عليه) الفذة، وعن حياته وسيرته وأعماله،
وكيف تغلغل الإسلام في العالم شرقًا وغربًا، وما كان عليه المسلمون من السلف من
العز والسؤدد والشأن والسلطان , وكيف أن الهندوس مع وفرة عددهم، وكثرة
عِدَدِهم، يرتعبون كل الرعب ويحسبون للمسلمين ألف حساب، وأن محمدًا الذي
جاء لتحرير العالم من ربقة الذل والعبودية، وأن الإسلام لا يحتاج لامرأة مثلها أو
غيرها من كبار الكتاب والفلاسفة أن يشرحوا محاسنه، ولا أن يُظْهِرُوا فضيلته.
ثم انتقلت فجأة إلى الكلام عن حالة المسلمين اليوم وشقائهم، وتفرقهم وانحطاط
قواهم وضعفهم، وعن الجهل والاضمحلال، وعن الذل والعبودية اللذين يرتع فيهما
أكثر المسلمين اليوم، وأنحت باللائمة عليهم جميعهم لتقدم غيرهم من الأمم،
واحتلال أماكنهم والتربع على عرش سؤددهم ومجدهم.
وقالت: إن الإسلام يحتضر فكما أن الحسين (رضي الله عنه) ذُبِحَ في
كربلاء، فاليوم يُذْبَح الإسلام في عقر داره، وإن كل بقعة من بلاد المسمين هي
كرب وبلاء، ونبهت المسلمين إلى تدارك حالهم، وجمع كلمتهم، ولم شعثهم،
وتوحيد صفوفهم، وتنظيم أمورهم، وربط أولهم بآخرهم، وآخرهم بأولهم، وتدارك
الأمر قبل فوات الوقت، ثم قالت: إننا وإياكم نعبد إلهًا واحدًا، وما قال الله:
أنا رب المسلمين، وإنما قال تعالى جل شأنه: أنا رب العالمين، واستغرقت
خطبتها نحو ساعة كاملة.
ووقف المستر محمود دير الإنجليزي المسلم وتلا تقريرًا كبيرًا مؤثرًا عن
حياته الأولى، وشغفه وبحثه في الأديان، وتطوع الكثيرين من أفاضل المصريين
وعلمائهم في تسهيل مهمته وإرشاده، وتنوير ذهنه مدة وجوده في مصر موظفًا في
تحرير الإجبشيان دايلي ميل، ومدح المصريين كثيرًا، وأثنى عليهم، وقال: إننا
نغبط أنفسنا معشر المسلمين اليوم بوجود أمة فاضلة عربية مجيدة لها تاريخ حميد
كالأمة المصرية، وإن العالم ليدين لهذه الأمة الناهضة الفتية بقسط وافر من حيويته
ونهضته الآن، وإن مصر سحرته بجمالها، ورجالها أسروه بفضلهم وعلمهم
وعبقريتهم، وإنه لن ينسى أصدقاءه المصريين ما دام فيه عرق ينبض.
ثم خطب بالإنجليزية (ديوان بهادر كريشنا صاحب) أحد كبار الهندوس
وأدبائهم مادحًا الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وخطب بالأوردية نواب زاده
سيد مرتضى خان صاحب رئيس المؤتمر الشيعي، وبالكجراتية أيضًا مولانا
نوربهاي صاحب.
وانفضت الجلسة في الساعة السادسة والنصف تمامًا، وقد جُهِزِّت القاعة
بالراديو، ورُبِطَت بثلاثة أحياء عظيمة إسلامية في بمباي ليتسنى لأكبر عدد ممكن
من المسلمين سماع كل ما يجري من الحفلة حرفيًّا، ومثلت الحفلة اثنتان وأربعون
هيئة إسلامية.
وفي المساء عقد المسلمون جلسة كبرى برئاسة مولانا شوكت علي ومولانا
عرفان صاحب وغيرهما من أهل بومباي في ميدان (جوته قبرستان) حضرها
نحو ٣٠ ألف من المسلمين، وتليت القصة النبوية الشريفة، وانفضت الجلسة في
نحو منتصف الليل.