للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسني عبد الهادي


من الخرافات إلى الحقيقة
(٤)
الإسلامية والمجوسية
أو العرب والعجم
إن السبب الأول لدخول الخرافات في الإسلام هو روح مجوسية الفرس،
الدين الإسلامي دينٌ حرٌّ ساذجٌ، ولكن حال لونُهُ الأصلي في محيط إيران، ولما
دخلت الأصول الإسلامية بلاد اليونان، ومصر، والروم تعقدت سذاجته العالية،
وأخذ شكلاً غريبًا ممزوجًا بنظريات تلك الشعوب الدينية، والفلسفية، ولا سيما
اليهود الذين كانوا كلما دخل أحد منهم في محيط الإسلامية يُدخل معه خرافات دينه.
هنا يجب على الباحث عن جراثيم مرض التحزبات الإسلامية أن يجول،
وحينئذٍ يجد أن أشد الضربات وأفجع النكبات قد هبت ريحها على الإسلامية من
جهة إيران.
كان الفكر الديني ذو السلطان الروحي في محيط إيران - وهو مذهب
زرادشت - محافظًا على قوته وصَوْلته بعد أُفول نجم الفرس السياسي، نعم، إن
ظفر المسلمين بالفرس في القادسية قد دكَّ دين زرادشت كما ثلّ عرش ملوكه
الأكاسرة؛ فإن الفرس كانوا يدخلون في دين الله أفواجًا، ولكنه لم يعف أثره، بل
أصر عليه كثيرون، ولا يزال له أتباع في بلاد الهند في شبه جزيرة كجرات وفي
فيافي إيران، وعلى ساحل بحر الخزر يدينون دين زرادشت، فما بالك بما كان من
بقايا تأثيره في أنفس الذين آثروا الإسلام عليه من حيث لا يشعرون.
كان للفرس إلهان (آهريمان) أي خالق الشر، و (هرموز) أي خالق
الخير، وفي عام ٢٢٤ ميلادية في زمان الدولة الساسانية اتحدت في إيران السلطة
السياسية والسلطة الدينية، وظلتا متحدتين حتى دخول الإسلام في ديار إيران. كان
الأهلون يُقسمون في تلك الأزمنة أربع طبقات:
(١) طاجيه. (٢) شمارجه. (٣) دهاقين. (٤) موبذان.
فالأولى طبقة العوام، والثانية طبقة الخواص، والثالثة طبقة رجال الحكومة
والرابعة طبقة رؤساء الدين والأشراف والوجوه.
وكان القضاء للرئيس الديني المسمى (موبذ موبذان) .
كانت عاصمة الفرس - إذ ذاك - بلدة إِصْطَخْر، وكان للعرب هنالك حكومة،
عاصمتها الحيرة لا دولة (وبين مدلول كلمة (حكومة) ، ومدلول كلمة (دولة)
بونٌ شاسعٌ) .
هكذا كانت التنظيمات الاجتماعية، والسياسية في إيران عند دخول الإسلام
فيها. وكانت هذه التنظيمات منطبقة على روح الإيرانيين طبعًا بمرور الزمان،
وكل تشكيل سياسي أو اجتماعي يتولد من روح الأمة الاجتماعية لا يمكن تعديله،
ولو أرادوا ذلك لما استطاعوا إليه سبيلاً.
كان الفرس ينظرون إلى دولة الأمويين وإلى حكومتهم شزرًا لسببين رئيسيين:
(١) أن تأليف أمتهم أحسن ترتيبًا وأتم نظامًا من تأليف الأمة الحاكمة.
(٢) أنهم كانوا يعدون الأمويين غاصبين لاستقلالهم السياسي، ولكنهم يسترون
ذلك بإلباس بُغضهم إياهم لباس التشيع لآل البيت النبوي الكريم.
لذلك كان الإيرانيون دائمًا يترقبون الفرص لكي يستردوا سلطتهم المادية،
ولم يجدوا سبيلاً يوصلهم إلى مقصدهم الأصلي أقصر من تكييف قواعد الدين
الحنيف بأشكال توافق احتياجاتهم الروحية.
وفي سنة إحدى وأربعين للهجرة اضطر سيدنا الحسن السبط إلى ترك الخلافة
لخصمه معاوية، ثم خلف يزيد أباه معاوية، وما عتم يزيد أن فعل فعلته الشنعاء في
سيدنا الحسين - رضي الله عنه -. فكانت كجذوة نارٍ أُلقيت على مستودع بارود
النفور، والكراهة المخزونين في قلوب المسلمين لسلطنة بني أمية. فانتهز
الإيرانيون هذه الفرصة، فاتخذوها ذريعة لتنفير المسلمين من أخلاق معاوية،
وبذلوا كل ما أُوتوه من قوة لنشر هذه الدعوة.
وفي أثناء بث دعوتهم شعروا بالحاجة إلى قوة يتكئون عليها، فجعلوا مسألة
(التشيع لآل البيت الكريم) مذهبًا دينيًّا.
ثم تمخضت الأيام بل الأعوام بهذا الجدال، والجِلاد حتى وضعت حملها،
فظهر أبو مسلم الخراساني - الذي تجلت جميع آمالهم بشخصه - فكان ظهوره
كانفجار القذائف النارية، فلم يلبث أن فاز بإزالة السلطنة الأموية، وإقامة سلطنة
العباسيين الذين يمثلون نفوذ الفرس مكانها [١] .
وكان من أعوان أبي مسلم على إعادة النفوذ الفارسي أغنى أهل زمانه (أبو
سلمة الخلال) بذل ماله وجاهه بكل سخاءٍ في سبيل فوز أبي مسلم.
ولكن العاقبة لم تكن كما كان يروم الفرس من كل وجه فطرقوا بابًا آخر،
وهو باب (العلوية) ، فاستمر الجدال، والجلاد، وتوالت الفجائع الدموية. ومع
كل هذا لم ينل الفرس كل مبتغاهم من أنهار الدماء التي فجَّروها تفجيرًا؛ إذ لم يكن
القصد في الباطن إلا إدارة ملك العرب كما يشاؤون ترويجًا لسياستهم، ولكن
العباسيين عرفوا سر الأمر، ولم ينقادوا كل الانقياد للفرس، وحينئذٍ ظهر هؤلاء
بمظهر جديد، وهو مظهر (العلوية) . وبهذا الشكل توالت الفجائع، وتعاقب سيل
الدماء.
وهذه السياسة قد فشلت أيضًا، فلما رأوا أن بلادهم قد مُلكت، ودماءهم قد
سُفكت، ولم ينالوا شيئًا - عمدوا إلى سياسة أخرى. وهي سياسة اجتثاث شجرة
الدين، وقلعه من أُسِّهِ، وهو التوحيد، فوضعوا مذهب التعليم الباطني على أس
الحلول، وحاولوا اصطياد قلوب العرب باللين والدهاء إلى أن ينالوا المرام،
ويأخذوا بأزِمَّة الإدارة، وينفردوا مع صنائعهم بالأحكام ...
على هذه السلم صعدت البرامكة إلى صرح وزارة التفويض، والاستبداد
بالتنفيذ، كان جدهم (خالد) قائدًا من قواد جيش أبي مسلم الخراساني، وكان نارًا
تتَّقد غيظًا وحقدًا على العرب. وهو ابن رجلٍ مجوسيٍّ اسمه (برمك) ، وكان
متوليًا أوقاف (نيران) مدينة بلخ. وإنما أظهر خالد الإسلام عند التحاقه بأبي مسلم،
وكان شديد الغيرة والحرص على إحياء مجد الفرس السياسي والديني، وكان من
الدهاء والحنكة بحيث إن السفاح الخليفة العباسي أُعجب به وجعله وزيرًا له. ثم
انتقلت الوزارة من بعده لابنه (يحيى) ، ثم لحفيده (جعفر) ، وقد نجح الفرس في
هذه السياسة سياسة اصطياد قلوب العرب الذين تروج عليهم الدسائس بكل سهولةٍ.
حتى إن الدولة العربية في زمان السلالة العباسية كانت في أيدي الفرس، فكان
الولاة، والقواد فرسًا كالوزراء. وقد اشتهر في الإدارة العربية عدة فصائل عجمية،
أدارت الملك مثل: (١) فصيلة برمك، (٢) وفصيلة وهب، (٣) وفصيلة
قحطبة، (٤) وفصيلة سهل، (٥) وفصيلة طاهر.
فكانت الدولة عربية اسمًا، وفارسية جسمًا، أو مسلمة ظاهرًا، ومجوسية
باطنًا، وقد تجلى النفوذ الفارسي عند جلوس المأمون على كرسي الخلافة أكمل
التجلي، حتى إن بعضهم كان يتخيل أن الفرس سيعيدون ملك الأكاسرة بلا جدالٍ،
إلا أن الإسلام لما كان قد تمكن من مباءته في قلوب الناس لم يتجرأ منافقو المجوس
على إبراز جميع مكنونات قلوبهم بوضوح، بل حاولوا الاستفادة من الإسلام
بطريقة خفية تُدْنيهم من آمالهم السياسية بالتدريج، وهذا كان ممكنًا ومعقولاً؛ لذلك
اكتسى أمراء الفرس كسوة الإسلام، ورفعوا علم الخلافة، والإمامة، وظهروا
بمظهرٍ جديدٍ يحلو لبسطاء العرب، ويجذب قلوبهم. على هذه الطريقة ساروا إلى
خدمة مقام الإمامة والخلافة، وبعض العرب يركض وراءهم مجذوبًا بجاذبة الآمال
الخلابة.
إذا دقق الإنسان النظر في التاريخ تدقيقًا جيدًا يجد أن غلو الفرس في آل
البيت النبوي، وتقلبهم بين العباسيين، والعلويين - لم يكن إلا لعبة سياسة لعبوها
خلف ستار الدين؛ تأمينًا لإعادة مجدهم الذي قوَّضه العرب، ومن الآيات الدالة
على ذلك أن جعفرًا البرمكي وزير هارون الرشيد قال مرة - لمَن كانوا يستحسنون
أفعال أبي مسلم الخراساني -: (إن ما عمله أبو مسلم ليس شيئًا مهمًّا؛ لأنه نقل
السلطنة من سلالةٍ إلى سلالةٍ، متحدتين في العشيرة وفي الديانة. وإنما المهارة هي
نقل السلطنة من أمةٍ إلى أمةٍ أخرى، لا تتحد معها لسانًا ولا دينًا!) ، وكان قصده
من هذا الفخر أن أسرته تنقل السلطنة من العرب إلى العجم، ثم إن فضل بن سهل
السرخسي أشهر رجال المأمون كان مجوسيًّا، تقلد خدمة الحكومة، ولأجل تأمين
مصالح الفرس أسلم عام ١٩٠ إسلامية، وتقلد مذهب الشيعة الذي أحدثه قومه.
وبعد إسلامه بثماني سنين ألف جيشًا بقيادة (طاهر بن حسين) ، وفتح بغداد وقهر
الأمين؛ لأن أمه عربية، وأجلس المأمون ابن الفارسية.
ولم يكتفِ الفضل بن سهل بهذا، بل قرر في عام ٢٠١ جعل علي بن موسى
ولي عهد ثم أزال شعار العباسيين وهو السواد، واستبدل به شعار الفرس الأخضر
بحجة أنه شعار آل البيت.
وظلت فتوحات الفرس في قلوب أهل المملكة تزداد، وتهويشاتهم لأمور الدين
الإسلامي تتكاثر حتى زمان الخليفة المعتصم، فاستعان بالترك على الفرس، فجرى
بين الفرس والترك ما جرى، وانتهى الأمر بدخول الترك بغداد مظفرين، بعد أن
سحقوا قوة الفرس المجوسية، وكان هذا بزعامة طغرل بك السلجوقي في زمان
الخليفة القائم بأمر الله [٢] .
عند ذلك انتقلت المناصب من أيدي الفرس إلى أيدي الترك، فانسحب أمراء
الفرس من ميدان السياسية، ودخلوا ميدان الجندية، وأعلنوا الاستقلال، وأظهروا
مكنونات قلبهم القديمة. ألفوا في خراسان دُويلة الطاهرية، وفي نفس فارس
الصفارية، وفي ما وراء النهر السامانية، وفي آذربيجان الساجية وفي جرجان
الزيارية، وجميع هذه الدويلات كانت كمرآة تتجلى فيها الروح الفارسية منذ عهد
الأمويين إلى زمن إعلانها. وكانت جميع دويلات الفرس ضعيفة بالنسبة إلى قوة
المركز العربية ما عدا دولة (آل بويه) التي ظهرت عام ٣٢٠.
ونتيجة ما تقدم أن بذور التفريق التي غرسها الفرس قد نما نبتها، وأثمرت
وقوع الشقاق بين المسلمين؛ فكانوا فرقتين يتنازعان السيادة بينهما، وكان يدافع
عن الحزب الإيراني أو الشيعي الفرس، وعن الحزب العربي أو السني الترك،
وقد كان الفوز لهؤلاء في العراك الصوري والمادي، ولأولئك في التنازع المعنوي؛
لأن الإيراني كان أدهى من التركي في السياسة، وبهذا تمكنوا من إلقاء بذور
التشيع في قلوب الترك أنفسهم.
ثم دالت دويلة آل بويه، ولكن فكرة مجد كسرى ظلت باقية في أدمغة العجم،
فكانوا كلما سنحت لهم فرصة مناسبة، أو وجدوا بيئة موافقة يظهرون بمظهر ديني
مرتدين رداء نُصرة آل البيت النبوي الكريم.
هكذا كان الإسلام يتدحرج بين يدي العجم والترك.
فكرة إعادة مجد الفرس ظلت تنمو، وتكبر منذ زمان الفاروق الأعظم،
وقصَّت في طريق نموها أجنحة العرب، وبقيت مثابرة على غاياتها تركض خلف
بُغيتها، غير ملتفتةٍ إلى شيءٍ حتى عام ٩٠٥؛ ففي تلك السنة أعلن إسماعيل
الصفوي رسميًّا مذهب الشيعة، وأعيد مجد كسرى فعلاً، فالبسطاء كانوا يظنون أن
المنتصر هو حزب آل البيت النبوي الكريم، والحال أن المنتصر كان ورثة كسرى [٣]
والمغلوب ورثة عدنان (بل قوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولغة
كتاب الله، فماذا استفاد آل الرسول - عليهم السلام - من اتخاذهم وسيلة لذلك
الملك؟ ، هل تحولت الإمامة إليهم، وصار أمر الدين والدنيا ثمة في أيديهم، وفقًا
لدعوة دعاة الفرس لهم؟ أم يُغنيهم عن ذلك سَبُّ أبي بكر وعمر وزيرَيْ جدهم،
وأعز أنصاره، وناشري دينه، ومؤسسي ملك شريعته وسبب هداية الفرس إلى
الإيمان به) .
ثم تكرر الاصطدام بين السنة والشيعة أي الحزبين الإسلاميين المتظاهرين
بنصرة مبدأ ديني، والحقيقة أن التصادم كان بين شعبين يريدان الاستفادة من غفلة
العرب لتوطيد نفوذهما السياسي، وهما الترك والفرس، وكانت العاقبة انتصار
الترك، إلا أن ظهور نوادر من بين الفرس مثل الشاه طهماسب والشاه عباس
والشاه نادر جعل الغلب دينيًّا فقط، وظل البناء السياسي قائمًا.
أكثر العارفين بدقائق الأمور في زماننا يرون أن علة تأخر كل من الترك
والفرس عن شوط الأوروبيين محصورة في هذا النزاع الهائل الذي شغل العنصرين
المسلمين مدةً طويلةً. فبينما كان الأوربيون يصلحون ما اختل من أمورهم العلمية،
والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية - كان المسلمون يقتل بعضهم بعضًا باسم
اختلاف عرضي، ثم سبق الترك الإيرانيين في الانتباه لوخامة هذا الاختلاف،
وطفقوا يقوِّمون ما اعوجَّ من أمورهم منذ عام ١٢٥٤هـ، ثم تبعهم الإيرانيون بعد
مدة. ولكن الإصلاحات العصرية وجدت في الأناضول تربةً أخصب من تربة بلاد
إيران.
والحاصل أن الإيرانيين ناضلوا عن استقلالهم مدة لا تنقص عن ألف سنة
بأساليب مختلفة، وطرائق متنوعة أتعبوا بها الإسلام والمسلمين، وأتعبوا أنفسهم.
ولا يلوم المؤرخون ولا الاجتماعيون رجال العجم على ما فعلوه في سبيل
استعادة مجدهم، ولكن الطرق التي سلكوها كانت مضرة بالإسلام؛ لأن إلقاء بذور
التفرقة بين المسلمين، وتشتيت وحدتهم السياسية أنتج نتائج سيئة جدًّا، وعواقب
الحروب التي وقعت بين أهل السنة والشيعة لم تزل مؤثرة في حياة المسلمين
الاقتصادية والسياسية إلى يومنا هذا، ولا سيما الدماء التي سفكها الأخوان في
الإسلام، التي لو سُكبت في بحر الخزر لكفت لجعْله أحمرَ قانيًا، فهي - واأسفاه -
لم تكفِ لفتح عيون المسلمين وإراءتهم سوءَ نتائج الاختلافات المذهبية؛ ليرجعوا
عن أسبابها [٤] . ... ... ... ... ... ... ... حسني عبد الهادي ... ... ...
((يتبع بمقال تالٍ))