للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الدين والسياسة
وملاحدة المتفرنجين من العرب وغيرهم

قد سبق لنا بحث كثير في موضوع هذا العنوان نشر بعناوين متعددة , وفي
أثناء التفسير وغير التفسير من أبواب المنار، فقراء المنار يعلمون أن المدارس
الإفرنجية والمدارس المتفرنجة على اختلاف أنواعهما من تبشيرية أنشئت لدعوة
النصرانية، و (علمانية) أنشئت لمقاومة الأديان أو بمعزل عنها - ومن رسمية
للحكومات المتفرنجة كالتركية والمصرية - ومن أهلية أيضًا - كلها قد أخرجت
للشعوب الإسلامية نابتة مضطربة في أمر دينها ودنياها وسياستها وآدابها، يقل فيها
من يعرف دينه معرفة صحيحة، ومن يحافظ على آدابه وفرائضه تقليدًا أو على
بصيرة، ويقل في المتدينين منهم مَن يدري كيف يجعل ما استفاده من علوم
العصر وفنونه غذاء معنويًّا لأمته وقوة وعزة لملته؛ لأن أكثرهم لم يحصل من
العلوم والفنون ما يؤهله لعمل ينهض بالأمة نهوضًا ماديًّا أو معنويًّا , وإنما تلقوا
قليلاً من المبادئ هم فيها مقلدون كما أن أكثرهم مقلدون في الطعن بدين أمتهم
لبعض ملاحدة الإفرنج مع الفرق العظيم بيننا وبينهم في ذلك، ولا سيما فيما يسمونه
الفصل بين الدين والسياسة، وفي براءة أوربة من التعصب الديني وهي مثاره
وأتون ناره.
ولكن يكثر فيهم الهادمون لبناء أمتهم وملتهم باحتقار مقوماتها التي كانت بها
أمة ذات صلة ممتازة كالدين والتشريع والأخلاق واللغة، ومشخصاتها التي تعد
مزيد رسوخ في مقوماتها وتميزها كالتقاليد القومية والأزياء الوطنية والعادات النافعة
وهم في هدمهم لبنيان أمتهم يحسبون أنهم يبنون لها بنيانًا جديدًا خيرًا مما بناه لها
التاريخ , فكانت به أمة ممتازة في الوجود لها تاريخ عظيم فيه من دين بلغ الذروة
العليا في التهذيب، وشرع عادل رفعها فوق رؤوس الأمم قرونًا كثيرة، وفتوحات
شهد لها فلاسفة التاريخ من الإفرنج بأن تاريخ البشر لم يعرف لها مثلاً في جمعها
بين العدل والرحمة إلخ.
ولو كان لهؤلاء رسوخ قدم في العلم والحكمة وحظ عظيم من فنون العصر
لأحدثوا لأمتهم قوة وثروة يجددان مجدها، مع حفظ مقوماتها ومشخصاتها التي
أشرنا إليها، بدلاً من محاولة قتلها وإعادة خلقها.
صدق على هؤلاء الهادمين وعلى المدارس التي تخرجوا فيها قول اللورد
سالسبوري الوزير البريطاني المشهور: إن هذه المدارس التبشيرية أول خطوة
لاستعمار الشعوب التي تنشأ فيها - فإنها تخَرَّج فيها طائفة تخالف سائر أمتها في
عقائدها وأفكارها وتقاليدها فتحدث فيها صدعًا وشقاقًا تنقسم به على نفسها - على
تعبيرهم - فيقتلها هذا الانقسام بأيديها (أو ما هذا معناه) , ولم يذكر اللورد
بالصراحة أن ما تحدثه هذه المدارس من إفساد العقائد يتبعه فساد الأخلاق وغلبة
الأفكار المادية , وحب الشرف والزينة والشهوات على المتخرجين فيها , فيحول
ذلك دون اتفاقهم حتى فيما يفتتنون به من أمور التفرنج.
وإننا نرى من مصداق كلامنا وكلام اللورد من قبل أن متفرنجة الترك قد
هدموا تلك السلطنة (الإمبراطورية) الراسخة الأساس، الواسعة المقياس، وانتهى
أمرهم إلى إمارة صغيرة طردوا منها الشعوب المسيحية، وهم الآن يقاتلون فيها
الشعب الكردي الذي يلي الشعب التركي في العدد والبأس والقوة، ونرى الشقاق
بالغًا غايته بين هؤلاء المتفرنجين المرتدين وبين أهل الدين والمحافظة على التقاليد
الإسلامية من الشعب التركي نفسه , فحكومته تسفك ما بقي من دماء شبانها وتفني
بقايا ثروتها القليلة في مقاومة الفتن الداخلية والحروب الوطنية، ونرى من مصداق
ذلك أيضًا هذا الشقاق بين أحزاب الشعب المصري الذي بلغ غايته في هذا العام،
ولا يعلم غير الله ما سيكون من سوء مغبته إن دام.
من المعلوم عند كل من يعرف الإسلام أنه دين وتشريع سياسي قضائي ونظام
اجتماعي، وأنه حكم عربي كما نطق به كتابه المنزل، فإن كان من مثار العجب
أن يحاربه ملاحدة الترك إيثارًا للعصبية اللغوية على عصبيته , بعد أن كان لهم به
من العزة والسلطان ما كان، ولم يكن لهم بلغتهم أدنى قيمة في الوجود , فأعجب من
ذلك أن يقوم من متفرنجة العرب أنفسهم من يحارب الإسلام، بعد أن كان لأمتهم به
من المجد والملك والسلطان والحضارة والعلوم والآداب ما كان , وكانوا به أئمة
لمئات الملايين من غير أبناء جلدتهم , يقتبسون دينهم من القرآن العربي والسنة
العربية , ويتدارسون اللغة العربية في مشارق الأرض ومغاربها، ويحجون إلى
بُهرَة البلاد العربية يتقربون بذلك إلى الله تعالى , وكل من لم يفسد التفرنج عليهم
أمر دينهم , يفضلون الشعب العربي على شعوبهم , حتى إن مسلمي الهند الصادقين
في الإسلام يفضلون استقلال العرب على استقلالهم وسعادة بلاد العرب وسلامتها
من عدوان الاستعمار على سلامة وطنهم.
مع هذا كله نجد بعض ملاحدة المتفرنجين من العرب يحاربون الدين
الإسلامي نفسه , ويطعنون به ويصدون عنه، ويرون من تقليد الترك وغيرهم في
العصبية الجنسية أن يعادوا جميع الشعوب الإسلامية حتى الشعب الهندي الذي يدافع
عنهم، وتبذل جمعياتهم السياسية من الجهاد بالمال والنفس في سبيله ما لم نبذل
عشره جمعية عربية، ويعدون إمامهم في عصبيتهم هذه الشريف حسين بن علي
المكي وأولاده الذين كانوا بحركتهم العربية أكبر مصيبة على العرب وخدمة
للأجانب , كما فصلناه في المنار وفي غيره من الجرائد بالبراهين التي لم يستطع
أحد من أنصارهم رد شيء منها.
ومن سوء الحظ أن الجرائد العامة تنشر لهؤلاء الملاحدة آراءهم حتى
للجاهلين منهم الذين لا يرجعون فيما يكتبون إلى شبهات علمية ولا سياسية تستحق
الذكر، أو تستأهل الرد، ومن ذلك ما رأيناه مرارًا في جريدة البيان العربية الغراء
التي تصدر في نيويورك عدة مقالات في ذلك كان آخر ما نُشر منها رد وطعن علينا
في خطتنا السياسية الإسلامية , وفي فهمنا للدين وتفسيرنا للقرآن، والكاتب لم يقرأ
من تفسيرنا شيئًا، ولم يطلع على المنار أيضًا، ولو اطلع عليهما لا يفهم منهما
شيئًا مما نقصده فهمًا صحيحًا؛ لضعفه في اللغة العربية وجهله التام بنحوها وبيانها
كما تدل عليه عبارته المملوءة بالغلط , وذكره لبعض آيات القرآن محرفة.. ثم
هو مع ذلك يسند إلينا من الأقوال الدينية والسياسية ما لم نقله بل ما قلنا ما يخالفه،
وينفي عنا من الأقوال والأفعال ما هو ثابت لنا ومعروف عنا ومنشور في مجلتنا،
وكذلك شأنه فيما ينقله عن غيرنا وما يسنده إلى التاريخ.
لهذا لم يخطر في بالنا أن نرد على شيء مما كتبه، وإن وقتنا لأضيق وأثمن
من أن يصرف في مثل ذلك، ولدينا من الأعمال ما هو خير منه وأنفع - ولكن
بعض كبار الكتاب السياسيين حملته الغيرة على الحق والخوف على أغرار قراء
تلك الجريدة الواسعة الانتشار , فيقرؤها العوام والخواص أن يغتروا ببعض ما يكتبه
هذا الرجل - على كتابة رد طويل على نوع من مزاعمه الباطلة الضارة، كما أن
بعض الكتاب المدققين المطلعين على بعض أجزاء المنار والعارفين بسيرتنا في
السياسة العربية والإسلامية كتب ردًّا آخر دافع به عنا، ونشر كل منهما في جريدة
البيان نفسها، فنشكر لكل منهما غيرته، وننشر الرد الأول العام، لأنه مفيد
للخواص وللعوام، وهذا نصه:
***
العالم الغربي والعرب والإسلام
لا حيلة لك مع المكابر بالمحسوسات
قد كان الناس يتمثلون بقول القائل:
لي حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذب حيلة
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة
ولكن نسوا أن هناك من تقل معه الحيلة مثل الكذاب وأكثر وهو المجادل
المكابر في المحسوس , الذي لا يجبن عن أن يقول للشمس الطالعة في رأد الضحى:
إنها ظلام، والذي يخلق أيضًا التواريخ لتأييد حجته وينكر الوقائع الثابتة المشهودة
لتأييد حجته، ويتخيل ويخيل الأمور على ما يريده هو لا على ما هي عليه في
الواقع، يهجم على المسائل التي يكاد يعرف منها شيئًا كأنه قتلها علمًا، ولا يتوب
بعد أن يكون ظهر خطؤه في قضية أن يتوخى المكابرة في قضية أخرى ومن الأول
إلى الآخر قصارى كلامه (عنزة ولو طارت) .
فمن العبث أن تقول له: إن الناس لا تقدر أن تعيش بلا دين , وإنه لم يعهد
إلى اليوم أن شعبًا عاش بدون دين , وإن أوربا باقية على نصرانيتها، وإن التعليم
المسيحي لا يزال يعلم في أرقى المدارس والكليات في أرقى الممالك من شمالي أوربا
مثل إنكلترة والدانمارك وهولندة والسويد وألمانية، وإنهم يعلمون كون المسيح
هو ابن الله إلى هذه الساعة، وإنهم لا يريدون أن يعرفوا أنفسهم إلا مسيحيين.
ومن العبث أن تقول له: إنه حيث كان الدين لازمًا للشعوب فهو في نفسه قوة
عظيمة لا تقدر حكومات هذه الشعوب أن تتعرض لها بمهانة أو بجهالة حتى لا
يصيبها من أجل ذلك ضرر، وتحصل هزاهز وفتن، وإنه ليس من باب خلط
الدين بالسياسة أن يلجأ رجال السياسة إلى الدين، إما في تهذيب الأخلاق أو في
السعي لتوهين روح الإجرام والدعارة، أو في النضال عن استقلال الأمة، أو في
تقوية الروابط مع أمم أخرى , والاستفادة من تلك الروابط المؤثرة والعوامل الراهنة
التي ليس إنكارها إلا محض حماقة.
ومن العبث أن تقول له: إن أوربة الراقية لم تهمل أيضًا هذه الروابط ولا
استخفت بها ولا وجدتها بدعة في السياسة، وإن ملك إنكلترة الراقية العظيمة بل
العظمى هو في وقت واحد ملك الإنكليز ورئيس الكنيسة الإنكليكانية، وإن
إمبراطور ألمانية هو رئيس الكنيسة اللوثيرية، وإن إمبراطور النمسة كان على
رأس مملكة راقية جدًّا , وكان يُخاطَب بـ (ذي الجلالة الرسولية) إشعارًا بصفته
الدينية، وإن المستر غلادستون رئيس نظارة إنكلترة وهامة حزب الأحرار كان
قسيسًا , ومن أشد الخلق تدينًا لا بل تعصبًا، وإن دولة فرنسة التي يقال: إنها لا
دينية تنعت نفسها (بحامية النصارى) في المشرق , وإن غمبتا ركن الجمهورية
والسياسة اللادينية كان قد قال تلك الجملة التي ذهبت مثلاً: (عداوة رجال الدين
ليست من بضائع التصدير) وإنه إن لم يكن الدين رابطة فأية رابطة بين فرنسة
والموارنة وهم ليسوا بلاتين ولا بأوربيين , بل هم آراميون ساميون أبناء عم
العرب وبالتالي فأقرب إلى المسلمين مما هم إلى الفرنسيين من جهة الدم , عبثًا
تقول له ذلك؛ لأنه يجاوبك بل كل هذا غير صحيح , وأوربا تركت الدين.
وكذلك من العبث أن تقول له:إن الأوربيين الذين تقول: إنهم نبذوا الدعوة
الدينية لا يزالون يذكرون الحروب الصليبية , ويتكلمون في عداوة الإسلام أفلا تقرأ
ما يرددونه كل يوم من توحيد الجبهة بإزاء المسلمين من الريف إلى الهند؟ أفلم
تسمع بمساعي شامبرلين الأخيرة في باريس ورومية؟ أفما قرأت ماذا كانوا
يكتبونه عند سقوط القدس في يد الإنكليز أثناء الحرب العامة من كون ذلك هو
الصفحة الأخيرة من الحروب الصليبية؟ أفما اطلعت على أخبار الحفلات الدينية
التي أقيمت في ذلك الوقت؟ أفما سمعت خطبة المارشال أللنبي نفسه على تتمة
الحرب الصليبية على يده؟ أفما عرفت أن الجنرال غورو نفسه كان لأول وصوله
إلى بيروت وعند الاحتفال بقراءة أمر تعيينه ألقى خطبة أشار فيها إلى الحرب
الصليبية , وقال: إن بداية علاقات فرنسة بسورية هي من أيام الحرب الصليبية؟
أفما عرفت أن الذي عين غورو على سورية هو نفس كليمنصو الذي هو عدو للدين
المسيحي ولكنه ليس بعدو للسياسة التي قد ينفعها الدين المسيحي؟ أفما علمت أن
سبب صرف (ويغان) وهو كاثوليكي أيضًا وإرسال سرايل [١] مكانه هو لكون
الوزارة الحاضرة علمت أن عدم نجاح فرنسة في سورية ناشئ عن أسباب عديدة
من أهمها: اعتقاد المسلمين أن فرنسة لا تزال تابعة هناك سياسة دينية لهم عليها
دلائل كثيرة من مثل بناء الكنائس بأمر السلطة المحتلة في بلدة درعا , والاحتفال
بتنصير من يتنصر من السنغاليين , وتقديم اسم النصارى على اسم المسلمين من في
الدفاتر الرسمية , وكذلك تقديم بطريرك الموارنة على مفتي الإسلام في المحافل ,
وتهديد المفتي بما يسوءه إن أبى الخضوع لهذه القاعدة , فأراد المسيو هريو أن
يسهل مأمورية فرنسة في سورية , بإقصاء المندوبين الذين ينفرون المسلمين
بسياستهم الكاثوليكية , وإرسال مندوب سام معروف بكره الأكليروس تزلفًا إلى
الإسلام، ومع هذا لم يخْلُ هذا الانتخاب من إثارة الاعتراضات من جهة الأحزاب
الوطنية بفرنسة , حتى إن المسيو ميلران رئيس الجمهورية السابق اعترض عليه
في خطابه.
ومن العبث أن تقول للمكابر في المشهودات: إن الشيء الذي أنت تبرئ
أوربة منه وتتحمل له صنوف التأويلات إذا وقع لا تتنصل أوربة منه ولا تجده
إرَّا، وإن بعض وزراء الإنكليز صرح أثناء حرب البلقان بكونه مغتبطًا
برجوع مدينة سلانيك إلى النصرانية؛ لكونها من مهاد النصرانية , وإن الدول
البلقانيات الأربع عندما أعلنَّ الحرب على تركيا كان بلاغهن متضمنًا أن حربهن
لتركيا هو حرب الصليب للهلال، ولو علمت تلك الدول أن بلاغًا مفرغًا في هذا
القالب يسوء وقعه في أوربة ما كانت حررته بهذه الصورة , بل لك أن تقول: إنها
ما حررته بهذا الشكل إلا استمالة للرأي العام الأوربي , ولا تنس خطاب ألفونسو
الثالث عشر ملك أسبانية الذي كان من جملة نقاط القدح الذي قدحه فيه
الكاتب الروائي الأسبانيولي بياسكو إيبا نيز هو قول الملك: (إن أسبانية اشتهرت
من القديم بقتال المسلمين , وهذه النوبة هي مصممة على أن لا تترك قتال
مسلمي الريف حتى تنصب الصليب هناك محل الهلال) وغير ذلك من الألفاظ
التي يقول الكاتب الأسبانيولي: إنها زادت هيجان المسلمين , وكانت السبب في
إتلاف الألوف من مهج الأسبانيول , وإن الملك مسئول عن ذلك بحماقته - أي
بإعلانه ما كان يجب أن يُعمل ولا يُعلن - ومع كون إيبانيز أصاب في انتقاده , فهو
اليوم تحت المحاكمة في فرنسة من أجل طعنه بالملك ألفونسو هذا.
ومن العبث أيضًا أن يستشهد الإنسان على عواطف أوربة الدينية , بل على
سياستها الدينية بما تبذله الحكومات من الأموال الجزيلة في المستعمرات مساعدة
للبعثات الدينية الساعية في تنصير أهالي آسية وأفريقية , ولو كان المراد
تنصيرهم هم الفتيثيين أو الوثنيين لكان هذا نعم العمل , لكن البعثات الدينية غير
مكتفية بتنصير الوثنيين بل تدأب أيضًا في تنصير المسلمين بجميع الوسائل ,
وتسابق المسلمين إلى استمالة الوثنيين منادية بالويل والثبور وعظائم الأمور فيما لو
أسلم الوثنيون.
وإنك لتجد في أواسط أفريقية وغربيها وجنوبيها وماداغسكر وشرقي أفريقية
بعثات دينية بروتستانية وكاثوليكية , لا تعد ولا تحصى كلها تنفق القناطير المقنطرة
من الذهب , تحميها حكومات أوربة وأميركا بأجمعها , وتؤيدها بالأموال والنفوذ
وبكل وسيلة , وقد تتعرض للدعاية الإسلامية بقدر الإمكان وتضيق عليها , كما فعل
ضباط الإنكليز في الأوغاندة عندما رأوا انتشار الإسلام بين أهالي تلك البلاد ,
فوقفوا سدًّا حائلاً في وجهه , بل قاوموا البعثات الكاثوليكية , ليخلو الجو للدعاية
البروتستانية، وكذلك الحكومة الفرنسية في ماداغسكر تقاوم دخول من يدخل من
الماداغسكريين في الإسلام , ولا تريد أن تعترف رسميًّا بوجود مسلمين في تلك
الجزيرة حتى لا يتحول جانب كبير من أهلها إلى الإسلام , فأنت ترى من هذا
وغيره وألف مثال يضيق المكان عن استيفائها أن السياسة الأوربية ليست بمعزل
عن الدين ألبتة ولو كابر المكابر وناكر المناكر.
وقد يقول: إن هذه الحماية التي تبسطها حكومات أوربة للرسالات الدينية
المنتشرة في كل أفريقية وآسية وجزر الأوقيانوس إنما تقصد بها مآرب استعمارية
لا دينية محضة , وهذا لا يضر شيئًا في جوهر الموضوع , بل يزيد موضوعنا
تأييدًا وهو أن رجال السياسة ولو كانوا في أنفسهم غير متمسكين بالدين , يقدرون
قدر نفوذه على الخلق , ويجتهدون أن يستثمروه لفائدة حكوماتهم.
ومن الفضول أن نذكر للمكابر ما بذلته حكومة هولندة من المساعي في تغيير
عقائد مسلمي الجاوى وسومطرة بواسطة الرسالات التبشيرية , وكونها وقفت
لتنصير بضعة عشر ألف مسلم , ولكن لمّا رأى الهولنديون أن هذا العدد قليل
بالقياس إلى الخمسة والثلاثين أو الأربعين مليون مسلم القاطنين بتلك الجزائر خطر
ببال بعض نواب مجلس الأمة في هولندة أن يقترحوا على الحكومة عدم الاعتراف
بإسلام أكثر من خمسة ملايين منهم , وهؤلاء الذين أسلموا منذ أربعة قرون، وأما
الذين أسلموا منذ القرن الماضي أو الحالي فلا يعتبرون مسلمين , ولم يمنع الحكومة
الهولندية أن تأخذ بهذا الرأي سوى قيام بعض العقلاء المحنكين ممن خبروا أحوال
تلك البلاد , وتحذيرهم من العمل بهذا الرأي الذي إن كان له أقل حظ من الإجراء
ثارت هناك ثورة لا نهاية لها , وقالوا لأولئك المقترحين: إن الخمسة والثلاثين
مليون مسلم هناك القديم منهم في الإسلام , والحديث هم في درجة واحدة من
الاعتصام بدينهم , فلا نجني من هذا الرأي إلا الثورة , فيا ليت شعري إذا كانت
هولندة لا فرق عندها بين المسيحي والمسلم , ولا تنظر إلى الدين فلماذا يهمها إلى
هذه الدرجة أن يخرج رعاياها المسلمون من الإسلام فيما لو أمكن؟ ولماذا تخصص
فرنسة في جزائر الغرب جوائز لا تُعطى إلا للأوربي أو اليهودي أو المسلم الذي
يرضى أن يتنصَّر؟
وليقل لي المكابر أي علاقة من جهة القومية أو الوطنية بين الإنكليز وبين
النساطرة في العراق حتى نظمت منهم جيشًا , واتخذتهم لها بطانة منذ أول احتلالها؟
بل أية علاقة بين الإنكليز والأرمن إن لم تكن العلاقة الدينية؟ فإن قيل: إن
سبب انعطاف الإنكليز وسائر الأوربيين نحو الأرمن هو كونهم أصيبوا ونكبوا وتلك
المذابح التي جرت , أجبناك أفلا توجد أمم وأقوام إسلامية أصيبت ونكبت وذبحها
المتغلبون عليها بعشرات الألوف , فهل هز ذلك من أوربا أقل عاطفة؟ أفلم يُنكَب
الجركس وأهل الطاغستان سنة ١٨٦٦ وأجلى منهم الروس بقية السيوف وهم
نصف مليون نسمة إلى الأناضول , فمات أكثرهم بالحمى والجوع، فمَن مِن أمم
أوربة اهتز لمصيبتهم؟ أفلم يذبح الأرمن هؤلاء عشرات ألوف من مسلمي شرقي
الأناضول؟ وروى القائد العام الروسي الذي كان يحارب الأتراك في جهة أرضروم
أنه لولاه لم يدع الأرمن مسلمًا واحدًا بعد انهزام الأتراك عن أرضروم وطرابزون
ووان , وورد في تقاريره وتقارير غيره من قواد الروس إلى حكومتهم - وهي
تقارير قد طبعت بعد الحرب - تفاصيل فظائع أوقعها الأرمن بالمسلمين , لا يكاد
الإنسان يصدقها لولا ورودها في تقريرات رسمية من قواد الجيش الروسي أعداء
الترك إلى مراجعهم , يخبرونهم بوقائع الحال , ومن جملتها أن الأرمن كانوا
يجمعون المئات والألوف من الأتراك والأكراد إلى الجوامع رجالاً ونساء وأطفالاً ,
ويشبون فيها النار فتحترق بكل من فيها , وأنهم كانوا يحفرون أخاديد وحفرًا يدفنون
فيها المسلمين أحياء بين رجال ونساء وأطفال (وفي مرة أخرى نذكر هذه الوقائع
تفصيلاً نقلاً عن تقريرات القواد الروس؛ لأنها ليست تحت يدي في هذه الساعة)
وفي أحد المواضع التي ذهب عن بالي اسمها الآن دفنوا ثمانمائة نسمة أحياء منهم
كثير من النساء والأطفال.
هذه شهادات الروس عدا شهادات غيرهم ممن شهد بعينه من الإفرنج , وروى
الحق فلندع جانبًا شهادات الأتراك , وهذا لا يمنع قولنا: إن الأرمن أيضًا ذاقوا من
النكبات ما هو عبرة في التاريخ , وخلت منهم جميعًا الأناضول، ولسنا نحاول
تخفيف أخبار مصائبهم , ولكننا نقول: إن أوربة تهتز كلها لمصيبتهم ولا تتحرك
لها عاطفة تذكر لمصيبة المسلمين فلماذا؟ أتراه لكون الأرمن أوربيين؟ كلا , إن
هو إلا لكونهم مسيحيين , وربما قيل: إن أوروبة ربما لم تكن تعلم بما وقع من
المصائب على المسلمين ولو علمت ذلك في حينه لم تتأخر عن إغاثتهم، وجواب
هذا بل أوربة كانت محيطة علمًا بكل شيء , وأتذكر أنني قرأت تلغرافًا في جريدة
الطان بتاريخ أحد أيام تموز سنة ١٩٢٠ واردًا إليها من مراسلها في القوقاس يذكر
المذابح التي قد أوقعها الأرمن بالمسلمين في بلاد أريفان , وأنهم في يوم واحد ذبحوا
منهم عشرة آلاف، وأن مئات ألوف منهم جلوا إلى إيران وآذربيجان وكرجستان
إلخ , ومثل ذلك المذابح التي أوقعها الأروام بالترك في ولاية أزمير وبنفس أزمير
ولا سيما بايدين، وقد كانت بمرأى من كثير من الأوربيين، وأقام بعضهم أشد
النكير عليها، وبعد ذلك طلبت حكومة الآستانة من أوربة التحقيق بواسطة لجنة
دولية , فذهبت وفحصت وثبت وقوع المذابح , وعادت فألقت بتقريرها إلى مؤتمر
باريس وجرى توبيخ الحكومة اليونانية على ما جرى , وهذا كل ما وقع , إنما
جمعية الصليب الأحمر في سويسرة التي لا ينكر أحد ما لها من المساعدات في هذه
المواقف عندما أرسلت وفدًا لإغاثة منكوبي الأروام , لم يسعها إلا أن تشرك معهم
منكوبي الأتراك.
وبالاختصار لا يوجد عاقل يقدر أن يقول: إن المسلمين هم والمسيحيين شرع
في نظر أوربة , والشاهد (الأخير) أنه لو كان أهل الريف مسيحيين لكان الريف
قد امتلأ اليوم ببعثات الصليب الأحمر من أوربة وأميركا وبالأطباء والصيادلة
والمتطوعين والممرضين , أهل الريف مسلمون , فلذلك لا يساعدهم من أوربة أحد
حتى في الأمور العائدة للإنسانية , ومهما قتل الأسبانيول منهم فأوربة تجد ذلك أمرًا
طبيعيًّا , وإذا ماتوا من الجوع تأسَّف بعض الأوربيين عليهم من بعيد [٢] .
إذًا فمن النفخ في غير ضرم أن نقنع المكابر بأنه ما دامت حالة أوربة
الروحية هي هذه فالعالم الإسلامي لا يمكنه ترك عواطفه الدينية , ولا نبذ تلك
الرابطة ظهريًّا [٣] .
وكذب وبهتان واختلاق على الناس دعوى بعضهم أن الرابطة الإسلامية تدعو
العربي أن يكون عبدًا للتركي؛ لأن الإسلام سوَّى بين المسلمين ومَنْ مِنَ المسلمين
ظلم أخاه حق لهذا أن يدفع عنه ظلمه {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن
سَبِيلٍ} (الشورى: ٤١) , وكل من يثير هذه الدعوى التي لم يقُل بها أحد ملقيًا
على دعايته الإفرنجية ستار الحمية العربية , فإنما هو داعية إلى السيطرة الأوربية
على المسلمين يحاول أن يهونها عليهم ويسيغها في حلوقهم، فتجده بكرة وأصيلاً
يكرر ألفاظ: تركيا وترك وأتراك ومستتركين , وهو ينسى أن هذه الجعجعة لا
تخفي شيئًا من الحقائق , وأنه لم يقل أحد: بجواز استعباد الأتراك للعرب ولا لغير
العرب حتى ولا للروم ولا للأرمن , ولكن كنا نحب أن نرى حمية هؤلاء الأدعياء
في العربية الذين يلقون دروس العروبة على مثل الإمام يحيى وابن سعود
ويتهمونهما بالشعوبية , كنا نحب أن نراها تظهر في مقاومة الإنكليز وغيرهم من
الأمم المستعمِرة الأوربية , والحال أن ضمائرهم التي تنطوي على السرور بخضوع
المسلمين (لأمة راقية مثل أميركا) قد ينم عليها مثل هذه الجملة وغيرها مهما
حاولوا الإنكار , فإذا كان يجوز خضوع المسلمين لأمة راقية كأميركا فلماذا لا
يجوز خضوعهم لأمة راقية كإنكلترة أو لأمة راقية كفرنسة مثلاً؟ فقد ظهر من هنا
المرمى والمغزى من هذه الدعاية ولو تظاهر المتظاهر بالعكس.
وأما الإسلام فلا يأمر بإطاعة الظالم سواء كان ذلك تركيًّا أو عربيًّا , ولكنه لا
يجيز إطاعة غير أهله , وهو في هذا مطابق للروح الأوربية التي معناها استقلال
كل أمة بنفسها وعدم قبول سلطة أجنبية عليها، ولو كانت تلك السلطة صادرة من
أمة أرقى من تلك الأمة , فإن درجات الرقي لا تصح في أوربة فَيصلاً لمسألة
الاستقلال , وكل أمة تعتقد أن حكم أمة أخرى عليها ولو كانت أرقى منها يفضي
إلى بوارها , فلذلك كان مبدأ الاستقلال مقدَّمًا في أوربة على مبدأ سلطة الأصلح ,
فمما لا شك فيه أن إدارة ألمانية هي أصلح من إدارة بولونية , وأن ألمانية أقدر على
إفادة سليزية من بولونية , ولكن تفوق الألمان على البولونيين في الإدارة والعلم لا
يسلب البولونيين حق الاستيلاء على ما أهله بولونيون من سليزية، كذلك الإنكليز
أقدر من الأيرلنديين على إدارة أيرلندة , ولكن أوربة ترى حقًّا أن يتولى الأيرلنديون
إدارة أنفسهم؛ لأنهم شعب مستقل بنفسه وهلم جرًّا.
والظاهر أن بعض الذين يدعون التمحض في العربية ولا نرى منهم هذا
التمخض إلا فيما يتعلق بعداوة الأتراك ضائقة صدورهم بنفرة العرب من الإنكليز
وعدم انقيادهم لهذه (الأمة الراقية) , وأكثر سخطهم هو على أهل اليمن؛ لأنهم
سمعوا أن اليمن بقي أثناء الحرب متمسكًا بالدولة العثمانية , لا بل حارب الإنكليز
ومحاربة اليمانيين للإنكليز زلة لا تغتفر , ورفض الإمام يحيى عقد أي معاهدة مع
الإنكليز شيء مؤسف عندهم , ودليل على قوة النعرة الدينية في اليمن وعلى كونهم
يميلون إلى الأتراك بسبب الجامعة الإسلامية، فهذا مما ينبغي أن لا يكون , وأرقى
رجال العرب عند هذه الفئة هو الحسين لكونه عاهد الإنكليز وحالفهم , ولو كانت
نتيجة هذه المحالفة ما كانت.. وكأن الحسين الآن يَهتِم أنامله عضًّا من الندم، ويليه
ابن سعود في الرقي لكونه عاهد الإنكليز ولم يحاربهم، فهذه شهادة لا بأس بها بحقه،
ولكنه لا يبلغ درجة الحسين الذي رضي أن يحالفهم ويحارب في صفوفهم , وأما
الإمام يحيى فهو أشد أمراء العرب تأخرًا، أفلم تعلم أنه حارب الإنكليز , وأنه
يعتصم بالجامعة الإسلامية؟
نعم إن أهل اليمن والإمام يحيى مسلمون ويريدون أن يبقوا مسلمين كأهل نجد
وأهل الحجاز وغيرهم , وكما يريد أن يبقى أهل أوربة مسيحيين وأهل أيرلندة
كاثوليكا وأهل الأولستر من أيرلندة بروتستانتا، وليس أهل اليمن ببدع في هذا
الأمر , بل حسبهم أن يقتدوا بالعالم المتمدن في المحافظة على دينهم , وأما نفور
أهل اليمن من الإنكليز فلكون الإمام يحيى وكبار اليمن يعلمون أنه لا يوجد في نظر
الإنكليز أمة ينبغي لها سلب الاستقلال بل الاضمحلال مثل العرب , فإنه ما دامت
الهند موجودة في الدنيا فأعدى أعداء الإنكليز هم العرب , وأكره شيء إلى إنكلترة
هو قيام دولة عربية مستقلة تحول بين إنكلترة وبين هندها , فالإمام يحيى لم يَخْفَ
عليه الذي خفي على غيره وعلم موطن الداء وتجنبه , وحافظ على ولاء الأتراك لا
حبًّا بالأتراك بل بوطنه وأمته، لأنه يعلم أن الإنكليز هم أعداء العرب , ولا يجهل
أطماعهم في اليمن , ويرى من الحكمة أن يمد يده إلى الأتراك ليكونوا وإياه على
الإنكليز وعدو العدو صديق كما لا يخفى.
وأما تعليم هؤلاء لمثل الإمام يحيى العربية والعروبية فهو والله من أبدع
النكبات التي سمعناها , إذ إن لم يكن الإمام يحيى عربيًّا وملجأ للعرب فمن هو
العربي يا ترى؟ يعيبون الإمام يحيى بموالاة الأتراك ومَنْ مِنَ العرب قاوم الأتراك
مقاومة الإمام يحيى؟ ومن ذا الذي جرد عليه الأتراك المرة والمرتين والثلاث المائة
تابورًا والمائة والخمسين تابورًا وعجزوا عن تدويخه؟ أفمثل هؤلاء يعير الإمام
تحيى بنقص الحمية العربية؟ وهل الملك حسين كان قادرًا على الوقوف في وجه
الأتراك لولا وجوده في صف الإنكليز؟ فلو كان الإمام يحيى انحاز إلى الإنكليز
أثناء الحرب لكان (راقيًا) ولو خدعه الإنكليز كما خدعوا الحسين لكان معذورًا كما
معذور الحسين.. إذ كان يكفيه من الشرف أنه يكون عاهد الإنكليز أعداء المسلمين
عمومًا والعرب خصوصًا , وحارب في صفوفهم , وأثبت عدم مبالاته بالرابطة
الإسلامية , وبرهن على رقي أفكاره.. . وبعد ذلك فليكن ما كان أوَلَيْسَ أنه يكون
قد حارب الأتراك وحالف الإنكليز؟
(للمقال بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))