للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتك الهيضة في حِمْص وطرابُلس

كان فتك الهيضة في هذين البلدين أشد منه في سائر البلاد السورية وقد قلنا
في جزء مضى أن أكثر مَن يصاب ويموت به في طرابلس الفقراء الذين لا يبالون
بالنظافة ومداراة الصحة ولكن قد مات به في حمص جماعة من خيار أهل العلم والدين
وهم:
(١) الشيخ محمد المحمود الأتَّاسي: كان هذا الرجل شيخ العلماء وكبيرهم
في حمص مات عن ثمانين سنة لم يسأم التدريس والتعليم في أواخرها كما سئم لَبيد
الحياة في مثل سِنِّه؛ لأن الإنسان لا تطيب له الحياة بعد ذهاب الطيبين إلا إذا كان
له حياة عقلية روحانية ينعم بها وكان رحمه الله تعالى ورعًا قنوعًا لم يأكل قط بعلمه
ودينه على أنه كان أكبر العلماء جاهًا ولم يأخذ من مال الأوقاف شيئًا على أنه كان
المدرس الأول في الجامع الكبير. وكان عالي الهمة سليم القلب رقيق الطبع حسن
الفكاهة حفَّاظًا للناس في غيبهم كحضورهم ويعتقد العارفون بحال البلاد أنه أحد
الأفراد الذين حُفِظَ بهم العلم الإسلامي منذ ستين سنة؛ إذ بلغ النهاية من التلاشي.
(٢) الشيخ أنيس الملوحي وهو من فقهاء الحنفية المهرة وكان مرجعًا
للخاص والعام في أحكامٍ في المعاملات لا سيما مسائل الأزواج قضى في سن
الخمسين، ولم يكن من الفقهاء الجامدين.
(٣) محمد سعيد أفندي الحكيم:- كان من الشبان الأذكياء المشتغلين بالعلم
المحبين للإصلاح وتعلم الطب من والده وغيره وعمل به ولكن الأجل إذا جاء لا
ينفع معه طب ولا ينجو منه طبيب على أنه يقع بسببه ولكن الإنسان لا يهتدي دائمًا
للوقوف على الأسباب والعمل بها.
(٤) الشيخ علي العمري:- أما طرابلس الشام فلم يمُت فيها من
الرجال المشهورين بالعلم أو غيره أحد إلا الشيخ عليًا العمري وهو لم يمت بالهيضة
الوبائية بل بمرض آخر كما يفهم من ترجمته في جرائد بيروت، مات عن تسعين
سنة وكان أكثر الناس يعتقدون صلاحه وكرامته ويتناقلون عنه من الخوارق والغرائب
ما لا يُحصى وأشهرها أنه كان ينفث في فنجانة القهوة وقدح الشاي أو يشرب
منهما قليلاً فتكون لهما رائحة مسكية ويأخذ عودًا أو قطعة مِن الحصير أو غيره
فيضعها في النار فتكون رائحة دخانها كرائحة العمود الهندي ويأخذ عودًا من
الكِبريت أو خلالاً فيبله بريقه ويكتب به تميمة لطالبها على أنه كان أميًا. من الناس
من يأوّل أمثال هذه الغرائب وينقلون عنه ما هو أغرب منها. ومِمَّا امتاز به على
منتحلي الكرامات من شيوخ الطريق أنه كان يأتي بأغرب خوارقه في ملأ الأمراء
والوزراء، على أن القوم يخصون بها العامة والأغبياء، وأن مختار باشا الغازي
يروي عنه مِن الخوارق مثلما يروي عنه الدَّهمْاء في طرابلس الشام.
وقد عرفناه وكان بيننا وبينه مودة ولكن كاتب هذه السطور لم يَرَ منه شيئًا
يتعاصى على التأويل. أما أخلاقه فأخصَّها التواضع والمروءة وحفظ اللسان والسعي
في مصالح الناس وكان محترمًا عند العظماء مقبول الشفاعة عند الولاة والحكام وقد
كان يتهمه بعض الناس بترك الصلاة ولكنني ما رأيته ترك صلاة وأذكر أنه كان نائمًا
عندنا في الحجرة التي أنام فيها فاستيقظت في جوف الليل على تهجده ولم أُشعره
بذلك، ولم يكن يعاهد الناس على الطريق ولا يجمعهم على الذكر ولا يتكلم
بالتصوف ولا الوعظ.
تغمده الله تعالى برحمته الواسعة وأحسن عزاء أنجاله ومحبيه.