كتب الباحثون من أهل أوربا مقالات كثيرة في مستقبل الإسلام في القرن العشرين فخاضوا فيه من الجهة الدينية والاجتماعية والجهة السياسية حتى ضربوا في كل فج، وهاموا في كل وادٍ، فمن زعم أن المسلمين سائرون إلى العدم والانقراض؛ لأنهم أعداء المدنية الحديثة القائم بناؤها على سنن الكون ونواميسه التي لا تتبدل ولا تتحول فهم بذلك أعداء الوجود ومن عادى الوجود فالعدم أولى به ومن قائل إن هذه الأمة الكبيرة لا تنقرض كما انقرض هنود أمريكا لأنهم أرقى منهم بما سبق لهم من المدنية، ولكن يزول سلطانهم فلا تبقى لهم حكومة فتخطفهم الأمم القوية ويعيشون أذلاء مستضعفين، إلى أبد الآبدين، ومن ذاهب إلى أنهم سينهضون ومن بعد غلبهم سيغلبون، واختلف هذا الفريق في هذه النهضة كيف تكون وأين توجد؟ . فظن بعضهم أن ستكون بالأخذ بمدنية أوربا وتنشأ في الهند وفارس والأستانة ومصر ورجح بعض أنها تكون بالعصبية الدينية والقوة الحربية وتنشأ في أفريقيا أو الصين. وغفل كل من المختلفين عن منبتين آخرين لمجد الإسلام المستقبل وهما أوربا وأمريكا إذا أسرع بهما العلم ونظام الاجتماع إلى الإسلام، الذي لا بد أن تنتهي تلك الأمم إليه في يوم من الأيام، أو جزيرة العرب إذا أبطأ بهما سير العرفان وسنن العمران، فظلت أوربا تطارد المسلمين وتضطهدهم حتى يأرز الإسلام برجالاته المحنكين إلى جزيرة العرب كما تأرز الحية إلى جحرها، ومن ثَمَّ ينفثون سموم التعصب في الشرق كله فما ينظر الأوربيون فيه إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون. أراني عجلت برأي قبل التمهيد له وذكرت نتيجة لمقدمات مطوية ودلائل خفية، فلا غَرْوَ أن ينكرها عليّ المسلمون قبل أن يعرفها الأوربيون إلا مَنْ بَعُدَ نظره، وغاص في أعماق المسألة فكره، فلنترك المُنْكِر في إنكاره، ولنساير المتفكر في أفكاره باحثين معه في مسير الأنام ومستقبل الإسلام. أين تذهب الأمم المتقدمة دائمًا إلى الأمام، وإلى أي غاية ينتهي سير هؤلاء الأقوام، وهل تزداد الشعوب المتقدمة تقدمًا، وتزداد الشعوب المتخلفة تخلفًا، وتزداد الأمم الحية حياة والمائتة موتًا، حتى تكون الثانية غذاء للأولى كما قال اللورد سالسبوري سياسي إنكلترا الكبير. هل تبقى هذه المدنية الأوربية مادية حيوانية تبيح الفحشاء والمنكر، وهل يجرف سيلها ما في بلاد الإسلام من بقايا العفة والصيانة والتراحم والتواصل حتى لا يبقى للمسلمين - وقد أخلقت فيهم أخلاق العمران - من الصفات ما يستحقون به رحمة الله تعالى فيكونوا من الهالكين؟ هل تظل أوربا تواثب الدين كلما قلت حاجة السياسة إليه، وعَدَت العلوم الكونية عليه، وهل يكون حظ الإسلام عند المتعلمين الآتين كحظ النصرانية عند المتعلمين الحاضرين والغابرين، يتسللون منه لواذًا، ويمرقون منه زرافات وأفذاذًا؟ هل تنبت المدنية العصرية في أرض الإسلام كما نبتت في المغرب وتنمو كما نمت وتثمر كما أثمرت سواء بسواء فيرجع المسلم القهقرى إلى القرن السادس عشر الميلادي فيبتدئ منه؟ أم يكون أول سَيْره من نهاية القرن التاسع عشر فتكون مدنيته أسرع وأعجل، ومعارفه أتم وأكمل؟ إذا أراد الناظر أن يستنبط الجواب من سيرة المسلمين الذين ولَّوْا وجوههم شَطْر المدنية، ولقفوا هذا اللَّماج من العلوم الأوربية، لا يسعه إلا أن يقول: إن حال هذه المدنية ستكون - أو هي كائنة منذ اليوم - دون حال الأوربيين وأنهم سينبذون الإسلام بأسرع مما نبذ أولئك النصرانية؛ لأن لرؤساء الدين في النصرانية دولة لها في كل فرقة رئيس عام، وموظفون يسيرون بقانون ونظام، وهم مستقلون في ذلك عن الحكام، ولذلك تيسر لهم محاربة العلم زمنًا طويلاً ولما دالت للعلم الدولة، وفاز بالنصر سالموه واستعانوا به على حفظ الدين حتى إن أزمة المدارس أصبحت في أيديهم فلم يتركوا مدرسة بدون كنيسة، ومن عجزوا عن إقناعه بقضايا الدين وإلزامه بالعمل به والدعوة إليه لا يعجزون عن إقناعه باحترامه والدفاع عنه باعتبار أنه رابطة للجنسية ولا يزال لهم من السلطان في الأمم المسيحية حتى أكفرها بالدين كفرنسا ما يُخيف الحكام منهم فيضطهدونهم. وليس للمسلمين مثل هذه الرياسة المنتظمة في فرقة من الفرق ولا في قُطْر من الأقطار وما عند الشيعة من المجتهدين ليس لهم من النظام والثروة ما للإكليروس عند النصارى ولا يرجى منهم مثلما كان من أولئك. ترى رئيس علماء الدين في مصر - وإن لقبوه بشيخ الإسلام - لا يرجع إليه بشيء من أمور المسلمين ولا يستشار في كيفية تعليمهم وتربيتهم وليس له سلطان ما على أوقافهم الخيرية، ولا إشراف على أعمالهم الاجتماعية، وكذلك شيخ الإسلام الرسمي في دار السلطنة العثمانية لا وظيفة له إلا تعيين القضاة والمفتين وعزلهم فهو موظف تحكم عليه السياسة ويعزله السلطان متى شاء وليس له من الاستقلال في علمه مثلما لرؤساء الديانة النصرانية على أن عمله للحكومة لا للأمة. وأكبر من هذا كله أن رجال الدين الإسلامي لا يعهد إليهم بشيء يستقلون به دون الحكومة ولا خدمة المساجد، فالحاكم السياسي هو الذي يجعل إمام الصلاة إمامًا وخطيب الجمعة أو الحج خطيبًا فهو عند المسلمين رئيس ديني مستقل وإن شرع لحكومته غير ما شرع الله، وصار يحكم بين المسلمين باسمه دون اسم الله ! ! ! يقول الناظر: إذا كان حال الحكام المسلمين ما نرى من البعد عن الدين وصاروا كما قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: ٢١) . إذا كان المسلمون على هذا راضين عنهم وخاضعين لهم مع علمهم بأنهم خاضعين للأجانب إما ظاهرًا وباطنًا وإما باطنًا فقط. وإذا كان علماء الدين لا يرجع إليهم بشيء من سير الأمة الاجتماعيّ والأدبيّ ولا هم ينتدبون لذلك من أنفسهم ويجعلون الأمة مضطرة إلى الرجوع إليهم، والاعتماد في تربيتها عليهم. وإذا كان المتعلمون على الطريقة الأوربية من المصريين والأتراك كثيرًا ما ينبذون الدين ظِهريًّا، ويحسبونه شيئًا فريًّا، ويستحلون الخمور، ويستمرعون مرعى الفجور، ويفضلون الظلمة على النور. وإذا كان هؤلاء المتعلمون هم الذين يتولون الأحكام، ويأخذون من الأمة بكل زمام، وإذا كان الناس على دين ملوكهم، والرعايا تبعًا لحكامهم، وناموس الاجتماع قاضٍ بتقليد الناس لأمرائهم وكبرائهم - أفلا يحق لنا أن نحكم بأن المسلمين سيكونون أسرع في ترك دينهم ممن سبقهم، فإن كان الجهاد بين العلم والدين في أوربا مدة خمسة قرون قد أنجم ببقاء الدين في نمو وسلطانه في نفوذ وعلو، فلا يمضي على المسلمين قرن أو قرنان إلا وهم في خبر كان، وإذا لاحظنا أنه ليس للمسلمين جنسية ولا وطنية تقوم مقام الرابطة الدينية، وأن الذين أحبوا الامتياز فيهم والانتفاع منهم بدعوتهم إلى الوطنية لم ينجحوا؛ لآن تأثير الدين لم يجعل لهم تأثيرًا بل عدّهم الذين يفهمون حكم الإسلام وأسراره أعداء للإسلام، وإن كانت أسماؤهم أسماء المسلمين - فلنا إن نحكم بأن المسلمين سيفقدون بانحلال الرابطة الدينية كل استقلال، ويكون مصيرهم إلى الزوال، فلا تفيدهم سعة البلاد، ولا كثرة التعداد؛ إذ لا كثرة مع فقد الرابط العام، كما لا يكون العقد بغير نظام. هذا ما يقول الناظر بإحدى عينيه، إلى ما بين يديه، وأعني بإحدى العينين العين التي تنظر إلى السوءى دون الحسنى وإلى منافذ الخوف دون أبواب الرجاء وأعني بما بين اليدين الظاهر الشائع من حال الأمم دون الخفي الذي لا يرى إلا بالتحديق، وبنفوذ أشعة البصر من الحجاب الصفيق، ذلك أن كل إنسان يدرك مما يشاهده ويمر به ما هو مستعد لإدراكه وينبو طرفه عما سواه وإن كان واضحًا جليًّا. فما بالك إذا كان ما يعلو استعداد الناظر الحسير خفيًّا سرُّه، مجهولاً عنده أمره. إنّ سير الأمم يشبه سَيْرَ الظل لا نعد له الخطوات، وانتقالها يحاكي انتقال النجوم السيارة لا تدركه لا وقد فات، والوليد يُعذر إذا أنكر سير الظل وجزم بأنه واقف؛ لأنه لا يرى حركته، والجاهل بعلم الفلك يُعذر إذا أنكر بديئًا أن السيارات تسير من الغرب إلى الشرق؛ لأنه يراها تغيب في جانب الغرب فهو يرى أثر حركة الأرض؛ لأنه قريب يكون كل يوم ولا يلاحظ سبب تأخر طلوع القمر كل ليلة فضلاً عن غيره من السيارات، كذلك يُعذر الماجن إذا جاء باريس فعكف فيها على الحانات والمواخير وإذا قال إن غاية مدنية أوربا إباحة الفواحش والفجور ولا غاية وراءها ويُعذر كَلِيلُ النظر إذا جاء مصر فرأى فيها كل شيء دون ما كان يسمع إذا حكم على مستقبلها بضد ما كان يحكم به وهو بعيد عنها ويئس من مستقبل الإسلام بالنسبة إليها. يعذر باليأس إذا دخل الأزهر فرآه كعالم الخيال لا أثر لحال الناس في علمه ولا أثر لعمله فيما عليه الناس في سيرهم ورأى أن الآثار القلمية التي تصدر عن مصر ليست منه في شيء ولا هي مرضية في الغالب عند أهله وإنما جل علمهم مناقشة في أساليب المؤلفين وتدقيق في تحليل عبارات كتب مخصوصة اختاروا تدريسها، ثم رأى أن أهله غير محترمين عند طبقة من طبقات الأمة حتى إن الحوذي (سائق المركبة) ليسخر من المجاور في الأزهر ومن العالم أيضًا إلا بعض الوجهاء الذين يحترمون لمناصبهم التي بقيت لهم أو لثروتهم وقليل ما هم. ويُعذر به إذا غادر الأزهر إلى المدارس فرأى فيها العناية باللغة الإنكليزية أضعاف العناية باللغة العربية، ورأى التلامذة يتلقون تاريخ الدين عن المدرسين الأوربيين، ورأى علم الدين كالرسم الدارس، لا يحفل به المدرس ولا الدارس، وظن لذلك أن الإنكليزية سوف تستبدل بالعربية، ويُعذر به إذا شاهد الجريدة الهزلية البذيئة تطبع منها ألوف من النسخ فتباع بالنقد يدًا بيد ويتهافت عليها القارئون والقارئات من جميع الطبقات، يلغون بها مقهقهين ولا مثار للقهقهة والكركرة، ولا للإهلاس والهرنفة، ثم يرى قراء المجلات العلمية والتهذيبية على قلتهم يلوون ويمطلون ولا يخرج منهم حقها إلا نكدًا. ويعذر به إذا لاحظ حال تلامذة لمدارس وبلا أخبارهم، واكتشف ضمائرهم وأسرارهم، فرأى أكثرهم مشغولين بالسفاسف فاسدى التربية قصيري الآمال لا همَّ لأحدهم إلا أن يكون موظفًا في الحكومة لا ليرفع شأن أمته ولا ليخدم مصلحة بلاده ولكن ليكون رزقه مضمونًا فلا يتكلف عناء الأعمال، وإن كان وراءها نعيم الاستقلال - ويعذر به إذا رأى الأغنياء والوجهاء لا همَّ لهم إلا التمتع باللذات تنبسط أيديهم في الإسراف والمخيلة، وتنقبض عن الأعمال الجليلة ويكون أعذر باليأس والقنوط إذا رفع بصره إلى الحكام والأمراء ورآهم ألعوبة في أيدي الأجانب. وقد أخذتهم الفتن من كل جانب. هذا ما يراه الطرف القصير والبصر الحسير، ويبني عليه حكمه الجائر ولكن الإسلام يسير من وراء مدى طرفه سيرًا طبيعيًّا، ويتقدم تقدمًا تدريجيًّا، يسير بلغته وعلومه سير الظل الوارف وينتقل انتقال الكواكب من الغرب إلى الشرق في الباطن ومن الشرق إلى الغرب في الظاهر بل كل واحد من الخافقين يسير نحو الآخر كلما خطا المسلم إلى المدنية الأوربية المسرفة خطوة، خطا مثلها الأوربي إلى الإسلام أو أبعد منها أو أقرب ولا ندري وهما في مبدإ السير أيّهما يكون الأسبق إلى تحكيم الإسلام في هذه المدينة المسرفة المائلة ليرجعها إلى الاعتدال الذي هو غاية الكمال الممكن؟ ولكننا نعلم أن التلاقي هو نتيجة هذا التقرب المستمر وإن ذلك لواقع ما له مِن دافع. ندع الكلام الآن في الحركة الإسلامية العامة إلى التقدم في كل قطر من الأقطار وتقرب الشعوب المسلمة بعضها إلى بعض ونداء الشيعي والسني السلفي والمتمذهب إلى الإصلاح، وفي امتداد هذا النداء تأثيره، وفي الجمعيات الإسلامية وفي ترقي لغة الدين (العربية) وتقدمها السريع من غير نصير من الحكومات الإسلامية أو الجمعيات الإسلامية بطبيعة العلم والعمران فيها؛ لأن هذا أغرب عند أكثر القارئين من الأول. كانت أوربا في القرون الماضية تعتقد أن الإسلام دين وثني نشأ بالسلب والنهب والاعتداء وإباحة الفواحش والمنكرات وأنّ أهله قومٌ متوحشون يتقربون إلى أصنامهم وأوثانهم بسفك الدماء وكانوا يبنون على هذا الاعتقاد أنه يجب على أوربا السعي باستعبادهم أو محوهم من بلادهم ليسلم سائر الناس من شرورهم. والشواهد على هذا كثيرة في كتبهم فعندهم كتب كثيرة مؤلفة في سوء حال الإسلام والمسلمين ألفها القسيسون والسياسيون لتنفير الشعوب الأوربية من العالم الإسلامي حتى إنهم ترجموا القرآن الحكيم ترجمة مبدلة محرفة، بل ألفوا كتبًا وضعية منها ترجمة للقرآن، لو قرأ المسلم منها ما سموه سورة الفاتحة (وهي التي لا يجهلها مسلم) ولم يذكر له أن هذا ترجمة القرآن لما خطر في باله القرآن عند قراءتها مطلقًا؛ لأنه ليس فيها معنى جملة واحدة من جمل الفاتحة الشريفة. ولو شئتَ أنْ أسردَ الشواهد من كلام الأوربيين في ذمّ الإسلام ونبيّه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام لاحتجت إلى تأليف مستقلّ. وأهون وصف وصفه به الفيلسوف رينان الفرنسي [١] في كتابه (ابن رشد) قوله فيه: (دين الخنازير أو القوم المنهمكين في الشهوات) . ومن التحريض عليه؛ تلك الكلمة الخبيثة التي جاءت في مقال للموسيو هانوتو وهي الاقتراح على فرنسا بأن تهدم الكعبة المشرفة، وتنقل قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قصر اللوفر في باريس. ومَن أراد الزيادة على ذلك فليقرأ كتاب (الإسلام) للكونت هنري دي كاستري الذي عرّبه أحمد فتحي بك زغلول وطبع بمصر سنة ١٣١٥. هذه إشارة إلى اعتقاد أوربا في الإسلام وقولها فيه، وأما العمل فما زال الأوربيون يسومون المسلمين الخسف في كل بلاد لهم استولت عليها دول أوربا حتى خافت إنكلترا ثم روسيا وطأتهما عنهم من عهد قريب فأذنت روسيا لهم بطبع المصاحف وكتب الدين وأعطتهم شيئًا من الحرية يتمتّعون به الآن وكان ممن سعى بذلك لدى القيصر السيد جمال الدين الأفغاني - رحمه الله تعالى - وهذه إنكلترا التي كانت ولا تزال أبعد أمم أوربا وحكوماتها عن التعصب وأقربهن إلى التسامح كانت قاعدة الوظائف عندها في الهند أن تكون للإنكليز، فالأوربي فالوثني فالمسلم، فما كان يوظف مسلم إلا إذا لم يقبل الوظيفة التي يتولاها أحد من هؤلاء. انقلبت الحال بعد هذا في الاعتقاد وفي القول والعمل وفي السياسة فقد أقبل العدد الكثير من الأوربيين على دراسة لغة القرآن وعلوم الإسلام فظهر لهم فضل هذا الدين في الجملة وألَّفوا كتبًا كثيرة في فضله وصار أكثر الباحثين فيه يعتقدون بأن نَبيَّه كان يدعو إلى هذا الدين معتقدًا بأنه مُلْهُمٌ من الله ومؤيد من لدنه سبحانه وتعالى، وأنّ ما جاء به إصلاح عظيم للبشر عقائده نافعة وأخلاقه محمودة وشريعته عادلة. ثم إن منهم من اجتهد في كشف الشبهات التي يوردها علماؤهم على الإسلام وهي منه حقيقة كإباحة تعدد الزوجات بشرطها والرخصة في الطلاق والجهاد. وإن لبعضهم من الأجوبة عن هذه الأمور المنتقدة في نظر قومهم أشد الانتقاد ما لا تجد مثله لعالم من علماء المسلمين. وقد قام بعض بعض القسيسين منهم يحاول الجمع بين الديانتين كإسحق طيلر الذي نشرنا بعض خطبه ومقالاته من قبل. لم يقف التحول عند حد اعتقاد بعض الباحثين وأقوال بعض المؤلفين بل قضت طبيعة الاجتماع بالعمل ببعض ذلك ومخالفة دينهم إليه؛ لأنه ظهر لهم أنه ضرورة لا بد منها وذلك كالطلاق الذي صار مشروعًا عندهم وشائعًا فيهم. وكذلك ظهرت فيهم بوادر الحاجة إلى تعدد الزوجات حتى قام مِن الكاتبات مَن يدعو إليه في الجرائد - راجع مقاله (الرجال والنساء) ص ٤٨١ م ٤ - وكأنك بهم وقد عادوا إلى ذلك بعد حين وسيجدون في الإسلام الطريقة المثلى لحل المشكلة الاجتماعية الكبرى التي من آثارها الفوضوية والاشتراكية وتعصب العمال الذي تفاقم خطبه في هذه الأيام. إن ما كشفه العلم في الخلق والتكوين يوافق ما ينطق به القرآن. إن الآيات الكونية التي يفصلها القرآن في إثبات الألوهية هي أقرب إلى العلم الحاضر والفلسفة الحاضرة منها إلى فلسفة اليونان؛ إن الوحي الذي يطالب القرآن بالإيمان يمكن أن يقبله حتى العالم الماديّ من غير حاجة إلى إبطال مسألة ثابتة من مسائل علمه أو فلسفته. إنّ الأخلاق التي يدعو إليها القرآن هي أخلاق الاجتماع والعمران والعزة والسلطان، إن أصول الأحكام والشرائع السياسية والمدنية والقضائية والحربية في الإسلام منطقية على ما ثبتت فائدته للأمم الغربية وفيها ما لم يَصِلُوا إليه، ولو عرفوه لعوّلوا عليه. إن لكل داء من أدواء العمران وكل مرض من أمراض الاجتماع البشري دواء شافيًا في القرآن يعرف ذلك الراسخون في فقه القرآن من علماء الاجتماع، وإن من هذه الأدوية ما ينفع بدون الإيمان ومنها ما لا يتم إلا به كدواء الزكاة لأدواء المسألة الاجتماعية الكبرى كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (الإسراء: ٨٢) ، وإن المدينة الكاملة التي تسير إليها الأمم الراقية لا تكون إلا بدين يجمع هذه الأصول الإنِّية التي أجملناها الآن، وقد جاء في المنار بعض التفصيل لها وسنزيدها تفصيلاً إذا أمهلنا الزمان. إن المسلمين الأولين أخذوا هذه الأصول بالإيمان والتسليم فأسرعت إليهم بالسيادة والسعادة ولكن لم يلبث العلم بها أن ذهب وحل محله التقليد الأعشى فتركوا الأخذ بحكمة القرآن إلى أقوال مقلَّديهم ولا غناء فيها عن كتاب الله تعالى فجهلوا في مجموعهم فقه هذه الأصول وزادوا عليها لإيضاحها ما أخفاها فساروا إلى الوراء، يخبطون خبط العشواء، ولمّا تكمل مدينتهم، ألا ترى مقلّديهم في العقائد كيف تركوا في العلم الإلهيّ طريق القرآن، إلى نظريات اليونان تأثرًا بذلك الزمان، ألا ترى مقلّديهم في السياسة والأحكام كيف تركوا أصول القرآن وما يوضحها من السنة واستبدوا بالعمل. ألا ترى الأمة بين هؤلاء الرؤساء، من الملوك والعلماء، فقدت الاستقلال الاجتماعي وعوملت معاملة السوائم من الأنعام؟ هذا هو سبب ضياع أثر تلك الأصول في سبيل الوصول إلى المدنية الكاملة. الأوربيون يسيرون الآن إلى الإسلام من طريقه، فقد بدأوا بالبحث في الآفاق فعرفوا من آيات الله فيها ما لم تعرفه الأمم من قبلهم وثنّوا بالبحث في أنفسهم فاهتدوا إلى كثير من سنن الله تعالى في قواها وفي عملها الحيويّ والاجتماعيّ، ثم إنهم يقرنون العلم دائمًا بالعمل، بل لا علم عندهم إلا أنْ يفهموه وقد أنشأوا في هذه السنين يدربون لغته ويدرسون بقوة واجتهاد وقام فيهم من أنفسهم دعاة إليه وقد كاد يأتي فيهم تأويل قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: ٥٣) . أما نحن المسلمين فإننا نعترف بالتقليد أنه الحق ولكننا تركنا من عدة قرون البحث في الآفاق وفي أنفسنا الذي علق عليه كتابنا تبين الحق! والآن توجه الكثيرون منا إلى علم الآفاق وعلم النفس تقليدًا للذين سبقونا، فإذا ضللنا في هذا السير الجديد فإننا نقلدهم من بدايتهم فنترك الدين وآدابه وليس عندنا شيء يقوم مقامه كما كان عندهم فنكون من الهالكين ويكونوا هم السابقين إلى الإسلام فلا يزالون يُقْبلون عليه ونحن مُدْبرون عنه إلى أنْ يصلوا ببحثهم واجتهادهم إلى الحق ونحن عَْرة في طريقهم وعند ذلك نرجع إلى تقليدهم في الدين كما قلدناهم في مبادئ العلم وما تبعها من التعطيل وما تقليدهم إلا اجتهاد فنتعلم منهم كيف نَفْهَمُ ديننا برؤية آيات الله في الآفاق وفي أنفسنا لا بِقَوْلِ فلان ورأي عِلاّن. وأما إذا اهتدينا في هذا السير واندفعنا إلى هذا العلم بإحساس الحاجة إليه إلا بالتقليد وأخذناه كاليابان من حيث انتهى إليه لا من حيث بدأ منه وسبقناهم إلى ما نحن أجدر به من إحياء لغة القرآن وفهم الدين من القرآن، وما يبينه من السنة النبوية فيجب أن نسبقهم إليه، ونساعدهم عليه، ونسير بعد أن يفهم بعضنا بعضًا متعاضدين متساندين، حتى نصل جميعًا إلى الحق اليقين، ونكون السابقين وسائر الأمم من اللاحقين، ويظهر فينا معنى حديث أنس عند الترمذي وغيره (أمتي كالمطر لا يُدرى أوله خير أم آخره) ويأتي فينا جميعًا تأويل قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} (التوبة: ٣٣) .