وأسبابهاوما اقترفه الإنكليز من الفظائع فيها لصاحب الإمضاء كلكته لا يجهل أحد له إلمام بتاريخ الهند الحديث الثورة العامة التي نشبت في البلاد ضد الحكم الإنكليزي سنة ١٨٥٧م، فكل مَن اطلع على تاريخ الهند تستوقف نظره هذه الثورة وتوغر صدره على الهنود، فيتهمهم بالهمجية والبربرية؛ لأن التاريخ يبين له ما ارتكبه الهنود (الثوار) من الفظائع والمنكرات، ويريه أنهارًا من الدماء الإنكليزية التي أراقها هؤلاء المتوحشون. ولكن هذا التاريخ إنما دوَّنته الأقلام الإنكليزية المتعصبة التي اشتهرت بتشويه الحقائق، إن كان من وراء ذلك كسب للاستعمار. وهو بالحقيقة ليس بتاريخ بل دعاية استعمارية إنكليزية أُريد بها تبرير استيلاء إنكلترا على القطر الهندي العظيم. بيد أن الحق لا يعدم أنصارًا، ولا يمكن إخفاؤه إلى آخر الدهر، فقد وجد أناس منصفون في الإنكليز أنفسهم برزوا للدفاع عن الحق، ولبيان ما ارتكبه إخوانهم من الفظائع خلال الثورة الهندية وقبلها وبعدها، وقد ظهر حديثًا كتاب ألفه مؤرخ هندي دوَّن فيه شهادات هؤلاء المنصفين من الإنكليز، فأحببنا أن نلخص منه فصلاً لقراء المنار الأغر؛ ليكونوا على حذر من كتب التاريخ الإنكليزية المتداولة عن الثورة الهندية [١] فنقول: للثورة الهندية أسباب كثيرة، ولكن هنالك سببين مشهورين، هما أساس لغيرهما: (أولهما) أن الشركة الهندية الشرقية (إيست إنديا كمبن) أخذت تبلع وتضم جميع المقاطعات الهندية واحدة بعد الأخرى إلى ممتلكاتها، فخافت الهند على ضياع حريتها وأخذت تنظر إلى الشركة بنظر الريب والشك (وآخرهما) قهر الجنود الهندية على استعمال الخراطيش المدهونة بشحوم الخِنزير والبقر. وقد كتب عن هذه الخراطيش (أنيس) ، وكان إذ ذاك القائد العام لقوات الشركة ما يأتي: (لقد فتشت تلك الخراطيش التي كانت محل الريب فوجدت أن عذر الجنود في امتناعهم عن استعمالها كان مبنيًّا على الحق، وما كنت أتوقّع أن شحم الخنزير والبقر يوضع في الخراطيش، فأقول - ولا أبالي بلائم -: إن الشركة لم تحترم عواطف الهند الدينية) . إن هذه الخراطيش التي قهر الجنود على استعمالها كانت مدهونة بشحم البقر والخنزير، وكانت توضع في البنادق بعد قطعها بالأسنان؛ لأن بعض الأجزاء منها متين إلى درجة أنه ما كان يمكن استعمالها إلا بعد أن تقطع بالأسنان. ومن المعلوم أن الديانة الوثنية تحترم البقر كل الاحترام، والدين الإسلامي يحرم الخنزير، فحين أكرهت العساكر على استعمالها غضبت غضبًا شديدًا وهاجت وماجت، فعصى ٨٥ جنديًّا منهم في بلدة (ميرت) وأبوا استعمال الخراطيش، فساقتهم السلطة الإنكليزية إلى المحكمة العسكرية، فحكمت على كل واحد منهم بسجن عشر سنوات بدلاً من تسكين هيجانهم ومعاملتهم باللطف والإقناع، ولو اكتفى الإنكليز بذلك لما حسب له حساب، ولكنهم لجُّوا في طغيانهم، وعاملوا هؤلاء الجنود معاملة سافلة جدًّا، وقد صوّر أحد الكُتاب الإنكليز ذلك المنظر البشع قائلاً: (سِيقَ ٨٥ جنديًّا إلى المحكمة العسكرية، تحت مراقبة الآلات النارية، وحكم عليهم بهذا الحكم القاسي، ثم عُريت أبدانهم عن الملابس العسكرية ووضعت في أرجلهم الأغلال والسلاسل من الحديد، فكان منظرًا هائلاً حتى إن رفقاءهم الناظرين إليهم عن بُعد كانوا يتململون ويتأسَّفون على هذه المعاملة الوحشية، وكان بين المحكوم عليهم مَن خدموا الإنكليز خدمات جليلة، وأظهروا شجاعة فائقة في كثير من المعامع [٢] . (وقد احتجوا على هذه القسوة، ورجوا من قائدهم أن لا يرميهم بمثل هذا الذل والإهانة، فلم يصغِ إلى تضرعاتهم، ولما لم تنجِّهم ولولتهم وبكاؤهم من العذاب المبين وتحققوا أن (لا حياة لمَن تنادي) توجهوا إلى رفقهائهم الشاخصين إليهم وصاحوا بأعلى صوتهم: (أليست فيكم غيرة وطنية؟ أليس عندكم شيء من عاطفة الأخوة والمروءة؟ نحن إخوانكم نُهان ونذل ونخزى وأنتم شاخصون؟ فنزلت هذه الصرخات المؤلمة على قلوب رفقائهم كالصاعقة، فتأثروا بها أيما تأثر، ورأوا أن يساعدوهم على الفور، ولكن وجود الآلات الجهنمية حال دون إرادتهم، فكظموا غيظهم، إلا أن الفعلة الشنيعة نفَّرت جميع الجنود الهنود من الإنكليز، فثاروا عليهم ثورة عامة بعد أن كانوا يضحون حياتهم في سبيلهم) . وقد صرح (أرورد كينج) الوالي العام للهند يومئذ بما يأتي: (لقد كان هذا الحكم الجاف القاسي بعيدًا عن الإنسانية إلى درجة أنه لا يوجد له نظير في العالمين، فكان وحده سببًا لإيقاد نار الثورة) . وقد صدق الوالي، فإنه في اليوم الثاني من المحاكمة؛ أي في ١٠ مايو سنة ١٨٥٧ م ثار الفرسان وفرقتان من المشاة، وتوجهوا إلى السجن، ففتحوا أبوابه عنوة وأطلقوا سراح الجنود المسجونين، ثم طفقوا يحرقون بيوت الإنكليز ويقتلونهم حيثما وجدوهم، وبعد ذلك توجهوا كلهم إلى (دهلي) وفعلوا هنالك ما فعلوه من القتل والنهب. ولا عجب فقد جرت العادة أن الأمة المقهورة إذا اضطرت إلى أخذ الثأر من قاهريها فقدت توازنها العقلي، ولجأت إلى الأعمال الهمجية دون تبصر، ولكن الإنكليز المتحضرين لم يكونوا أقل همجية من هؤلاء الجنود الجهلة [٣] ؛ قال فرينك تين في تاريخه ما يأتي: (كانت هذه المحاربة بين أمتين متوحشتين متجاوزتين حدود العدل والإنسانية، وكان همهما الوحيد القتل والنهب والسلب، وقد بلغا في الظلم والعدوان حدودًا متناهية يستحسن أن يسدل الستار عليها) . إن التاريخ الإنكليزي قد وارى سوآت الإنكليز، ولكنه قسا كل القسوة على الهنود، فذكر كل ما فعلوه وما لم يفعلوه، فملأ صحائفه بمئات من القصص المخترَعة لتهييج عواطف الإنكليز وحمْلهم على الانتقام من الهنود المساكين إلى آخر الدهر، وإني أقتبس من الكتاب بعض الحوادث التي أخفاها التاريخ الإنكليزي عمدًا: حادثة بشاور ألقي القبض على ١٢٠ من الجنود يوم ١٥ يونيو سنة ١٨٥٧ م بمدينة بشاور ولم يكن أحد منهم ارتكب جناية ما ولكنهم اضطروا إلى الالتحاق بالثوار اضطرارًا، فماذا فعل بهم الإنكليز؟ ! تعرف ذلك مما يلي: كتب القائد (نكلسن) إلى (إدوارد) مدير بشاور: (إني أشفع لديك للعفو عن ٥٥ جنديًّا من هؤلاء الجنود؛ لأن ضباطهم أكدوا لي أنهم بريئون من الخيانة. ولم يشتركوا في الثورة اشتراكًا فعليًّا، وأما الباقون من ١٢٠ - فاربطهم على أفواه المدافع، اجعلهم رمادًا) فأجاب لارنس: (إنهم لا يستحقون العفو؛ لأنهم وُجدوا في صفوف الأعداء، ومع ذلك لا أريد أن أهلكهم جميعًا، ولكن أريد أن أجازيهم جزاءًا مرًّا حتى يكونوا عبرة للآخرين. أريد أن أقتل ثلثهم، وأنتخب لهذا أشرارهم أو الذين يشكون ضباطهم منهم، فإن لم يكمل العدد من هؤلاء أكمله من الشيوخ، وأما الباقون فأعاقبهم بالسجن لمدد مختلفة أقلها السجن ٣ سنوات) . وقد كتب (اللورد رابرت) إلى والدته عن هذه الحادثة - وكان يومئذ ضابطًا في الجيش -: (جئنا من جيلم إلى بشاور ماشين على الأقدام، وصرنا نقتل الثوار ونجردهم من أسلحتهم، وعندما أهلكناهم بالمدافع ارتعب الآخرون من بطشنا، وشدة شكيمتنا، أجَل؛ إن هذه لَقسوةٌ ولكن لا مناص لنا منها، ولقد أردنا أن نقنع بهذه الأعمال القاسية أشرار المسلمين، بأننا بعون الله نبقى على الهند متسلطين [٤] . حادثة البنجاب سِيق رجل من الثوار إلى مدفعة كان فيها بارود زيادة عن المعتاد، فأطلق عليه النار فطار جسمه ممزقًا كل ممزَّق. وأشار الجنرال (نكلسن) في كتاب له إلى (إدوارد) قائلاً: يجب علينا أن نسن قانونًا يبيح لنا أن نحرق أو نسلخ جلود الثوار وهم أحياء؛ لأن نار الانتقام التي تتأجج في صدورنا لا تخمد بالشنق وحده، ثم إن الأمم الشرقية اعتادت أن لا تحسب للحكومات حسابًا ولا تخاف جانبها إلا إذا كانت ذات سطوة قاهرة) [٥] . وكتب مدير (أَمْرِتْسَر) في ذلك العهد: (كان جميع الضباط في بنجاب يبدءون بالفظائع لإيقاع الرعب في قلوب الأهالي؛ لكيلا يتجرءوا على أخذ الثأر منا) . وذكر (لمامسن) للسر هنري كاتن عن بعض المسجونين المسلمين ما ترجمته: أتاني ذات ليلة عسكريٌّ؛ فقال لي بعد التحية العسكرية: (لعلك تريد أن ترى المسجونين؟) فقمت حالاً إلى السجن، فرأيتهم مربوطين على الأرض يتنفسون آخر أنفاسهم، وكان على أجسامهم آثار الكي بالنُّحاس المحمي على النار، فرقَّ قلبي لحالتهم التعسة، فأخرجت المسدَّس، وصرت أطلق النار عليهم واحدًا بعد آخر؛ لأخلصهم من هذا العذاب الأليم، فلما سمع (كاتن) عن هذه الحادثة المؤلمة سأل (لمامسن عما فعل مع الذين ارتكبوا هذه الأفعال الشنيعة؟ ! فأجاب (لمامسن) أنه لم يعاقبهم بشيء! الهمجية في القتل والنهب لقد كان كل عسكري هندي في ذلك الوقت متهمًا بالاشتراك في الثورة ومسئولاً عن قتل أولاد الإنكليز ونسائهم، سواء كان جانيًا أو غير جانٍ قريبًا أو بعيدًا، حتى إن الإنكليزي الذي كان قتل في دهلي يُسأل عنه مَن كان في بنجاب أو بشاور ويعذَّب أشد العذاب. وقد ذكر اللفتنينت مجدن حادثة تفتت القلوب لفظاعتها، فقال: (وأثبت ذات مرة أن الإنكليز والسيخ كانوا يطعنون عسكريًّا هنديًّا بالحراب إلا أن طعنهم لم يقتله فجمعوا الحطب وأشعلوا النار فيه، فلما اشتد ضرم النار ألقوا الهندي المسكين فيها وظلوا ينظرون إليه بفرح وسرور عظيمين!) . وأيد هذا القول المستر رسل المكاتب الخصوصي لجريدة (لندن تيمس) وزاد عليه: (إنني رأيت عظام الجنود المحروقة في ذلك المكان) . وقد احتج (رسل) هذا على تلك الأفعال الهمجية الخارجة عن الإنسانية، فكتب في مذكراته: (إن الانتقام من الجنود على طريقة همجية، مثلاً وضع المسلمين في جلود الخنازير ثم الخياطة عليهم وإدخال شحم الخنزير في أفواههم قبل قتلهم، وقهر الهندوس على أكل لحم البقر لأعمال شنيعة تشمئز منها الإنسانية كل الاشمئزاز ولا بد أنها تنتج النتائج السيئة عاجلاً أو آجلاً!) [٦] ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (عثمان..)