اختلف الناس هل للأفعال في نفس الأمر حقائق متقررة في نفسها، هي أهل لأن ترعى وتؤثر على نقائضها وتستتبع الرفع من شأن المنصف بها كالصدق والإنصاف وإرشاد الضُّلاَّل مثلاً، وحقائق هي في نفسها أهل لأن يُعدل عنها وتستتبع الوضع من شأن من اتصف بها من تلك الحيثية كالكذب والظلم مثلاً، فقالت المعتزلة وأكثر العقلاء وجماعة من الحنفية: نعم. والمراد بالحنفية هم المعروفون بالماتريدية نسبة إلى أبي منصور الماتريدي وكذلك أفرد من غيرهم كالإمام المحقق الشهير ابن تيمية، حتى عدها عليه السبكي مما خالف فيه الإجماع أو الأكثر. وقد دل ذلك على نزول درجة السبكي فإن دعوى الإجماع كاذبة وكذلك الكثرة مع أن مخالفة الأكثر غير ضائرة {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَو حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: ١٠٣) وللسبكي هذا مع فضله نوادر نحو هذا تنادي على من سبكه مع ابن دقيق العيد وابن تيمية، فإن هذين الرجلين لا يُلز بهما قرين، ولم ينفرد ابن تيمية فكم من الحنابلة مَنْ صنف في الحط على الأشعري وأتباعه كما تجده في التراجم للذهبي وغيره ومن جملة ما ينقم عليه هذه المسألة، فيقل القائلون بها؛ لأن المذاهب المشهورة بين مطبقة على خلاف الأشعري أو مختلفة مع تهجين المخالف له هذه المقالة، فلا يغرنك شيوعها في هذه المقلدة كالسبكي وولده، فلهم حوامل قد كررنا أسبابها إن كنت موفقًا، ومن عدل بالله غيره فقد شابه الكفار {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام: ١) والحمد لله على العصمة. وقال سائر الأشاعرة: لا، إنما تلك الحقائق معناها أن الشارع أمر بها ونهى عنها ولو عكس لانعكس معانيها. هذا تحرير محل النزاع، وأما ذكرهم العاجل والآجل عند المعتزلة فمن أكياسهم، والمعتزلة لا ينظرون إلى عاجل ولا آجل؛ لأنهم يحكمون بلزوم الرفع الذي منه المدح وكونه معرضًا للثواب، والوضع الذي منه الذم وكونه معرضًا للعقاب للطاعة والمعصية من حال فعلهما، وإنما منع الاتصال التكليف؛ لأن المكلف يصير باتصال الثواب والعقاب ملجأ إلى فعل الطاعة وترك المعصية وعدم الإلجاء عندهم شرط في التكليف، وهذا أيضًا عندهم في التكليف وهو أخص مما نحن فيه، وأما ما نحن فيه فلا يقولون بلزوم الثواب والعقاب فيه، فالغلط عليهم من جهتين: ذكر الثواب والعقاب وهما من لوازم التكليف لا من لوازم التحسين والتقبيح، والتكليف أخص. وذكر العاجل والآجل وسيأتي تتمة لهذا قريبًا. ومن المغالطة والخلط لمحل النزاع بغيره قولهم في هذا المقام: الحسن والقبيح يطلقان لمعان منها موافقة الغرض ومخالفته. وحينًا يقولون: ملائمة الطبع ومخالفته ومنها كذا ومنها كذا. وهذا اصطلاح لهم ليس بلغة كما صرح به السعد وغيره، وليس باصطلاح للخصم حتى يذكر في مقام تلخيص محل النزاع، وقد أنكر هذا ابن الملاحمي وقال: ينبغي لهم صرف فطنهم إلى محل النزاع ثم المحاجة فيه، والعجب أن ابن الحاجب وتبعه العضد أهملوا محل النزاع وذكروا هذه الأمور وأخذ السعد في الترميم والأمر أجلى من ابن جلا، والحق أبلج، والباطل لجلج، وكذلك سائر المعتزلة ينكرون هذا الاصطلاح. وإدخاله في تحرير المسألة ورد مراد الخصم إليه وشدد النكير في الغايات على الرازي في ذكر ذلك، فتنبه لهذا وإن رأيت في كتب الأشاعرة قولهم: يطلق الحسن والقبح لثلاثة معان اتفاقًا، فإنما مستندهم كلام أسلافهم من دون معرفة كلام الخصم كما مضى نظيره، وهم في كل المذاهب يجعلون نقل أسلافهم حجة على خصمهم في أنه يقول القول مع أنه يتبرأ منه، وهو مثل ما يقال في الحمصيات: (شهد عليك من هو أعدل منك) وقول قراقوش: (أندفن؟ لو نفتح على نفوسنا هذا لما اندفن أحد) كما حكاه السيوطي في رسالة صنفها لحكاياته قال: لئلا تنكر مع تطاول الزمان مع أنها محققة عنده لقرب عصره أو معاصرته له. والذي أظن أن الأشاعرة وضعت هذا الاصطلاح لئلا يتعطل معنى الإحسان والإساءة لغة؛ لأنهما من ألفاظ العرب وقد نفوا عنهما وهذا لا ينفعهم مع اعترافهم أن تلك المعاني ليست بلغوية ولكنه يكسر من سورة الاستهجان بإثبات اللاغية في اللغة لأشهر اللفظيين منها في أشهر معنيين فى إشارة لقولهم: (ما أحسن ما فعل فلان مع فلان، وما أقبح فعله مع فلان) ؛ إذ معناه الإحسان والإساءة قطعًا لا تلك المعاني التي تذكر الأشاعرة سترًا لهذه العورة. ولهذا نظائر مع كثير ممن أوقعته زلته في لازم شنيع فتبينه لذلك تقف عليه. نعم، ههنا شيء مما ينبغي صرف النظر إليه: وهو اعتراف الأشاعرة والاتفاق منهم ومن سائر الناس أن التحسين والتقبيح بمعنى الكمال والنقص ثابت في نفس الأمر وهذا يكاد يلحق الخلاف بالوفاق فإن الكمال يستتبع الرفع من شأن من اتصف به والنقص يستتبع الوضع من شأن من اتصف به، ولا شك أن من الرفع المدح للمتصف بالكمال ومن الوضع الذم للمتصف بالنقص، بل إطلاق الكمال والنقص مدح وذم، فقولنا: كامل لا يمدح وناقص يذم. مثل قولنا: كامل لا كامل، وناقص لا ناقص ويمدح لا يمدح ويذم لا يذم. ومعنى الاستتباع أنه يناسب العقول وتقبله ولا تأباه وتفرق بينه وبين نقيضه فترى ذم المحسن مناقضًا لما ينبغي عند العقل وفي نفس الأمر، ومدح المسيء كذلك كما ترى أن الذم والمدح متناقضان. وهذا هو معنى الاستحقاق عند المعتزلة ولا يريدون بالاستحقاق الوجوب والحتم وما زادوه من قيد الحتم في أي موضع فلموجب آخر لا بالنظر إلى هذا المحل وهذا صريح في كتبهم وسيأتيك إن شاء الله قريبًا زيادة إيضاح لمذهبهم. فإن أنكرت الأشاعرة الاستتباع بهذا المعنى فقد رجعت عن الإقرار بالكمال والنقص وعطلت معناهما خلصنا من محارات تحقيق مذهبهم فإنا تارة ننظر إلى هذا المعني فنحكم عليه بالوفاق، وأخرى إلى تصريحهم بنفي الحكمة بأبلغ ما يمكنهم من العبارة فيتبين بالحقيقة الشقاق، هكذا يذكر جماعة من الفريقين كالعضد وابن تاج الشريعة كما يأتي وغيرهما , وفيه عندي وقفة فإنهم إنما يثبتون الوصفين فيما هو من قبيل الغرائز كالعلم والجهل وكالصدق والكذب؛ أي: كونه شأنه الصدق وشأنه الكذب. وأما في مثل: صدق وكذب، وحصل الصدق وحصل الكذب وحصل العلم وحصل الجهل المركب مثلاً فيحتاج كونهم يقولون ذلك إلى نقل صحيح عنهم والمتتبع من كلامهم خلافه فيسلمون من المناقضة ويقرون على الخلاف وإنما التبس على الناظر ما كان بمعنى الثبوت وما كان بمعنى الحدوث فصادف بمعنى ذي صدق كمال عندهم لا بمعنى حصل الصدق وأوجده. وكيف وقد أنكروا هذا المعنى الأخير في مطلق الفعل وقالوا: معنى آكل أنه ذو الأكل لا أنه فعل كما يأتي تحقيق ذلك وهذا تحقيق بليغ قد فات العضد وأضرابه من الفريقين والحمد لله على العثورعلى الحقيقة. واعلم أن هذا محل النزاع بتمامه، ثم النزاع هل أدرك العقل شيئًا من تلك الأمور الثابتة في نفس الأمر؟ ثم هل هذه الحقيقة بعينها مما أدركه؟ نزاع آخر [١] لا ينافي الكلام في النزاع الأول خلافًا ولا وفاقًا، أما إنه لا ينافيه مع فرض الوفاق هناك فظاهر، وأما مع فرض استقرار الخلاف؛ فلأن المخالف هناك قد يتنزل ههنا. فتيقظ لهذا تسلم من الزلل إن شاء الله تعالى. وقد تضمن تصحيح التحسين والتقبيح أن البارئ تعالى مبين للحكم فقط إما بالفعل أو بالسمع وليس الحكم في ثبوته واقفًا على اختيار مختار، بل هي كسائر الماهيات المجردة، والعجب ممن أقر بهذا ثم شغفه مدح الأسلاف، وإيثار الخلق على الحق ففرع فروعًا تنادي عليه بعدم الإنصاف، ولقد أغرب في ذلك ابن تاج الشريعة، ولم يتمسك من الإنصاف بأدنى ذريعة، فإنه نصر التحسين والتقبيح نصرًا مؤزرًا، وسجل على المخالف فعل من استمسك بأوثق العرى، ومن نظره المحقق الموفق، وكلامه المنمنم المنمق، على أثر البحث (قوله) على أن الأشعري يسلم الحسن والقبح عقلاً بمعنى الكمال والنقصان. ولا شك أن كل كمال محمود وكل نقص مذموم، وأن أصحاب الكمالات محمودون لكمالاتهم وأصحاب النقائص مذمومون بنقائصهم وإنكاره الحسن والقبح بمعنى أنهما صفتان لأجلهما يحمد أو يذم الموصوف بهما في غاية التناقض، وأن إنكارهما بمعنى أنه لا يوجد في العقل شيء يثاب الفاعل أو يعاقب لأجله، (فنقول) : إن عنى أنه لا يجب على الله الإثابة أو العقاب لأجله فنحن نساعده على هذا، وإن عنى أنه لا يكون في معرض ذلك فهذا بعيد عن الحق؛ وذلك لأن الثواب والعقاب آجلاً وإن كان لا يستقل العقل بمعرفة كيفيتهما لكن كل من علم أن الله عالم بالكليات والجزئيات فاعل بالاختيار قادر على كل شيء، وعلم أنه غريق نعمة الله في كل لمحة ولحظة ثم مع ذلك كله ينسب من الصفات والأفعال ما يعتقد أنه في غاية القبح والشناعة إلى الله تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا فلم ير بعقله أنه يستحق بذلك مذمة، ولم يتيقن أنه في معرض سخط عظيم وعذاب أليم فقد سجل على غباوته ولجاجه، وبرهن على سخافة عقله واعوجاجه، واستخف بفكره ورائه، حيث لم يعلم بالشر الذي في ورائه، عصمنا الله تعالى عن الغباوة والغواية، واهدنا هداية المعداية) , انتهى بحروفه. ثم أخذ في الخبط فقال: لما أثبتنا الحسن والقبح العقليين وفي هذا القدر لا خلاف بيننا وبين المعتزلة أردنا أن نذكر بعد ذلك الخلاف بيننا وبينهم وذلك في أمرين: (أحدهما) أن العقل عندهم حاكم مطلق بالحسن والقبح على الله تعالى وعلى العباد، أما على الله تعالى فإن الأصلح واجب على الله تعالى بالعقل فيكون تركه حرامًا على الله تعالى به فالحكم بالوجوب والحرمة يكون حكمًا بالحسن والقبح ضرورة، وأما على العباد؛ فلأن العقل عندهم يوجب الأفعال عليهم ويبيحها ويحرمها من غير أن يحكم الله تعالى بشيء , وعندنا الحاكم بالقبح والحسن هو الله تعالى وهو متعال أن يحكم عليه غيره، وعن أن يجب عليه شيء وهو خالق أفعال العباد على ما مر جاعل بعضها حسنًا وبعضها قبيحًا، وله في كل قضية كلية أو جزئية حكم معين وقضاء مبين، وإحاطة بظواهرها وبواطنها، وقد وضع فيها ما وضع من خير أو شر وهو نفع أو ضر، ومن حسن أو قبح. (وثانيهما) أن العقل عندهم موجب للعلم بالحسن والقبح بطريق التوليد بأن يولد العقل العلم بالنتيجة عقيب النظر الصحيح وعندنا العقل آلة لمعرفة بعض من ذلك أو كثير مما حكم الله تعالى بحسنه أو قبحه، لم يطلع العقل على شيء منه بل معرفته موقوفة على تبليغ الرسل، لكن البعض منه قد أوقف الله عليه العقل على أنه غير مولد للعلم بل أجرى عادته أنه خلق بعضه من غير كسب وبعضه بعد الكسب؛ أي: ترتيب العقل المقدمات المعلومة ترتيبًا صحيحًا على ما مر أنه ليس لنا قدرة إيجاد الموجودات. وترتيب الموجودات ليس بإيجاد، انتهى. ولنتبعه شيئًا فشيئًا حتى يتبين غلطه ولغطه في مذهب المعتزلة ومذهبه. والتصدي لقول فرد إبطالاً وتصحيحًا لا ينبغي، إلا أن هذه المذاهب قد استقرت والرجل يتكلم فيها على أهل ذلك المذهب جميعًا فيكون تخصيص كلام معين أقرب إلى الإنصاف، وإيضاح الاهتداء من الاعتساف، فإذا انضم إلى ذلك كون الرجل من مشاهير ذلك المذهب، ثم كون ذلك الكلام في كتاب متداول معروف بالكمال متلقًّى بالقبول من الفحول كهذا الكتاب الذي ذكر هذا الكلام فيه وهو (التنقيح) وشرحه (التوضيح) كلاهما له كان أفضى إلى مطلوب طالب الحق فنقول: (قوله) : أحدهما أن العقل حاكم عندهم مطلق على الله تعالى وعلى العباد. (قلنا) : ما تريد بقولك: حاكم؟ أتريد به أنه مدرك للحكم الثابت في نفس الأمر الذي أقررت فيه آنفًا وبلغت في نصرته كل مذهب؟ فإن الأحكام الخمسة ترجع إلى الحسن والقبح كما ذكرت أنت الآن فلا بد لك من الإقرار بهذا وإلا ناقضت نفسك، أم تريد أن العقل محصل للحكم ومنشئ له في نفس الأمر فلم يقل بهذا أحد، أم تريد - وهو الأقرب من غرضك - أن البارئ تعالى إذا أخرج فردًا من ماهية الحسن والقبح إلى الوجود فكما يلزم أن يسمى بمطلق الفعل فاعلاً يلزم أن يسمى بفعل العدل عدلاً وكذلك نقيضه، فإن كان نزاعك لهم من حيث المعنى (فإن كنت تريد أن صفة العدل ونحوه ثابتة في نفس الأمر فإن فعله العبد ثبتت واستقرت وإن فعله البارئ تعالى خرج عن صفة نفسه كما يأتي من تحقيق كيفية اتصاف الفعل بالأحكام ثم بعد خروجه عن صفة نفسه يحكم فيه البارئ تعالى بأحد الأحكام قلنا [٢] : حاصل هذا الأمر مناقضة كلامك الأول وزيادة جهالة من إخراج الشيء عن صفة نفسه وجعل صفات النفس من الممكنات الذي لم يقل به عاقل فيما يعرف؛ فإن صفات النفس واجبة وإلا لما كان للنفس وكان مذهب الأشعري الذي بالغت في تهجينه أقرب إلى المعقولات؛ لأنه لم يثبت للفعل صفة ألبتة وإنما قال: مستتبعات الأحكام بمحض اختيار المختار، وحكم الواحد القهار. وإن كان نزاعك للمعتزلة في إطلاق الألفاظ فالأمر قريب وهذا بحث عملي وقد جروا على مقتضى اللغة العربية وقد جاء في القرآن ما ظاهره معهم {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام: ٥٤) {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: ٤٧) {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً} (الفرقان: ١٦) {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ} (مريم: ٧١) . (فإن ادعيت منعًا عقليًّا أو شرعيًّا كان بحثًا غير هذا وصفت القاعدة عن اللغط وسوء المناظرة. والمعتزلة قد أطلقوا لفظ واجب على الله وقبح منه ولم يطلقوا باقي الألفاظ المأخوذة من ألفاظ الأحكام وأنت قست لفظ حرام وللألفاظ خصوصات تنشأ عنها إيهامات لاعتراف نظرائهم شرطوا في إطراد الحقيقة في حق البارئ تعالى إن لا قوهم خلاف الصواب فلا ينبغي أن يتقول عليهم ما لم يقولوه. ومن نظر تعليله لكلام المعتزلة بقوله: أما على الله تعالى فلأن الأصلح واجب وأما على العباد فلأن العقل عندهم يوجب الأفعال ويبيحها. فمن نظر هذا حكم على الرجل إما بعدم معرفة مذهب المعتزلة وإنما يتكلم بحسب الوهم وإما بأنه حين سدد نظره إلى اللجاج طاشت الحرارة في دماغه فلم يدر ما قال. وهذا أقرب؛ لأنه كلام لا يفعله عاقل ولهذا الصنع نظائر في كلام المجادلين فتنبه له. واعلم أن المعتزلة اختلفوا فيما بينهم في معنى الوجوب على الله تعالى فقالت البصرية: معناه في حق غيره وهو في حقه أحق وأولى. فإن قلت: فمن لوازم الوجوب والقبح والثواب والعقاب وذلك لا يعقل في حق البارئ تعالى قلت: هما من لوازم التكليف، والتكليف عندهم طلب البارئ تعالى الفعل المتصف بالحكم من المكلف مع مشقة تلحق المكلف ومع إرادة المُكَلِّف تعالى. وقولنا: طلب ليس من عباراتهم. إنما يقولون: إعلام البارئ المكلف شأن الفعل الموصوف ... إلخ، والذي ذكرناه أولى فالتكيف غير معقول في حق البارئ تعالى والتكليف إنما يكون من البارئ تعالى ولا يصح من غيره؛ لأن التكليف مصلحة خالصة؛ أي: جلب منفعة أو دفع مضرة ولوازمه عندهم الثواب الدائم والعقاب الدائم، والعالم بكل مصلحة وكل مفسدة والقادر على الوفاء كما يريد هو البارئ تعالى، وهذا كله صريح في كتبهم شهير لمن له أدنى معرفة فيها، وإنما التجاسر على الرواية وعدم المبالاة هو الذي كثر الشقاق، وسلى عن الوفاق، ولا يخلو مذهب من عدم إنصاف الخصم وإن اختلفوا قلة وكثرة، فاتق الله أيها الناظر وقدر أنك قد وقفك بين يديه وسألك عن هذا ولا تغتر وخذ قول أهل المذاهب من كتبهم فبالتجربة أنهم لا ينصفون في النقل وأصله أنه لا يحتفل بقول من عزم على خصومته فيجهل قوله فيجهل عليه فالله الله {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء: ٣٦) . وحاصل مذهبهم أن المدح والذم من لوزام التحسين والتقبيح، والثواب والعقاب من توابع التكليف. والبصرية يوجبون الثواب ويحسنون العقاب فقط وللبارئ تعالى أن يسقطه عقلاً، ولزوم الثواب وحسن العقاب وهما المحسنات للتكلف عندهم كما مضى، ومعنى الاستحقاق عندهم أنه يحسن لا أنه يجب، والبغدادية يقولون يجب الثواب وجوب جود بمعنى أن صفات الكمال تقتضي توفر دواعي الحكيم إلى فعله وما خلص الداعي إليه وجب أن يفعله الحكيم ومع هذا يطلقون أن الثواب تفضل؛ أي: ليس له جهة وجوب في نفسه. فاعرف مذهبهم فكم غلط عليهم إخوانهم البصريون فضلاً عن غيرهم ويكفي في حسن التكليف عنده سابقة الإنعام، ويقولون بوجوب العقاب ولا يجوزون العفو عقلاً؛ لأنه لطف للمكلفين واللطف واجب عندهم فمذهب الفريقين في الثواب والعقاب متعاكس، هكذا حكاية مذهب البغداديين، وقالوا عنهم: إنه لا يحسن العقاب إلا حسن ولا يحسن إلا إذا انتفع به الغير، وتعميم الانتفاع يحتمل اللطف وغيره كالتشفي فتحرر أنه قد يقع مقتضى العقاب وهو العصيان ويقع شرط حسن وقوعه وهو يتضمن الانتفاع وقد يخلوعن الشرط؛ إذ لا ملازمه بين المقتضي المذكور وشرط حسن الوقوع فيجب حينئذ أن لا يقع، اللهم إلا أن يقولوا: لا يُمَكِّن المكلف من العصيان إلا مع العلم بحصول الشرط المذكور. وهذا بعيد ويحتاج إلى نقل عنهم معتبر فتعميم منع العفو غير سديد وحكايته عن البغدادية كما ترى. والظاهر الغلط عليهم في بعض كلامهم فهذا كثير الوقوع في حكاية المذاهب، وإن كان ذلك في كتب إخوانهم البصرية فإن كثيرًا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض فليحفظ هذا فإنه نفيس جدًّا. (قوله) العقل عندهم يوجب الأفعال ويبيحها ويحرمها. قد عرفت سقوطه مما مضى وأنه لا معنى له إلا بالمعنى المتفق عليه بين الحنفية والمعتزلة. (قوله) وعندنا الحاكم بالحسن والقبح هو الله تعالى. (قلنا) ما تريد بالحاكم المبّين للحكم الثابت في نفس الأمر؟ فذلك قول المعتزلة حتى شنع عليهم الأشاعرة بأن البارئ تعالى عندكم كالقاضي والمفتي وسيأتي لزوم هذا على قول الجميع، أم تريد أنه محصل للفعل صفة الحسن والقبح فقد كنت قررت ثبوت ذلك لا باختيار المختار وأن الاختيار مؤخر عنه عند ذكر أن الله يأمر بالعدل والإحسان في هذا الكلام؟ أم تريد أن البارئ تعالى هو الملزم لنا أن نأتي الحسنى ونترك القبح فذلك قول المعتزلة وهو المراد بالتكليف عندهم. فأخبرنا ما هذا الخلاف بينك وبينهم؟ (قوله) ثانيهما: أن العقل عندهم موجب للعلم بالحسن والقبح بطريق التوكيد بأن العقل يولد العلم بالنتيجة عقيب النظر الصحيح: (قلنا) هذا مجازفة عليهم أو بُهت لهم ولم يقل منهم أحد أن العقل يولد العلم وهم متفقون أن العلوم الضرورية يخلقها الله تعالى ابتداءً وأما النظرية فاختلفوا فيها، فقال بعضهم مثل مقالتك هذه: يخلقها الله والنظر شرط عادي فقط. وقال أبوالحسين: ليس النظر يولد العلم إنما الناظر يستفصل بنظره ما أجمل عند العقل فعند العقل ثبوت حكم الكبرى عمومًا فينظر في نسبة الوسط منها فيجده فردًا من أفرادها؛ فيلزمه ثبوت حكم الكبرى للصغرى وهو النتيجة، فنقول مثلاً: هذا الضرر العاري عن نفع ودفع واستحقاق ظلم وعند عقله أن كل ظلم قبح فتظهر له النتيجة وهي اتصاف هذا الضرر العاري عن نفع ودفع واستحقاق بالقبح، ولهذا قال مختار في (المجتبى) وهو تلميذ تلميذه: (النظر تجريد الغفلات، لا ترتيب المقدمات) وما حكيناه عن أبي الحسين هو ما حكاه تلميذه ابن الملاحمي في كتابه (الفائق) وقد ذكر الطريقة التي تسميها المعتزلة إلحاق التفصيل بالجملة فصرح بما ذكرناه وهذه الطريقة عند المعتزلة هي البرهان عند المنطقيين إلا أن متكلمي المعتزلة يقدمون الكبرى التي دلالتها عموم على الصغرى التي دلالتها خصوص ثم يقولون: والخاص لاحق بالعام، أو التفصيل لاحق بالجملة. القول الثالث: قول من قال بالتوليد فقالوا: النظر معنى يتولد عنه العلم عند كمال شرائط النظر. ولم يقل أحد: إن المولد له العقل كما ذكر وإنما العقل آلة للإدراك فقط عند الجميع. (قوله) وعندنا أن العقل آلة لمعرفة بعض من ذلك؛ إذ كثير مما حكم الله تعالى بحسنه أو قبحه لم يطلع العقل على شيء منه بل معرفته موقوفة على تبلغ الرسل لكن بعض منه أوقف الله عليه العقل. (قلنا) هذا غير مذهب المعتزلة [٣] ولم يقولوا: إن العقل يستقل إلا بأحكام يسيرة كوجوب شكر المنعم ودفع الضررعن النفس وإنصاف الغير وكالظلم والعبث والكذب. وأما ما رميتهم به بمضمون هذا الكلام وما قبله وأوهمت أنهم يدعون معرفة جميع الأحكام بعقولهم وأنهم مثلاً يدركون وجوب صوم آخر يوم من رمضان وحرمة صوم أول يوم من شوال وأن عقولهم غنية عن تبليغ الرسل ولا فائدة لها عندهم حتى يتحقق الخلاف بينك وبينهم؛ لأنك إنما فضلت نفسك عنهم بذلك؛ فإن كنت تحكي عن قوم تختص أنت بمعرفتهم يسمون معتزلة فلا يعنينا التعرض لك ولهم. وإن كان المراد بهم هؤلاء المشاهير: واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والجاحظ والنَّظَام وأبو الهذيل والكسبي وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وأبو الحسين الخياط وأبو عبد الله البصري وأبو علي هاشم والقاضي عبد الجبار وأبو الحسن والخوارزمي وغيرهم ممن لا يحصى عددهم ولا يستقل بدراية مذهب رواية ولا تخفيه زاوية. فهذه مصنفاتهم ومقالاتهم المتواترة عنهم وبين ظهراني أتباعهم في بطون كتب الأشاعرة قد بينوها وكرروها وطووها ونشروها كالخريت الفخر الرازي وغيره ولم يفتر عليه أحد ما ذكرت اللهم إلا أن يروي ذلك عنهم مغمور مسجل على نفسه بالغباوة والجهالة فيكون سلف لك في هذه الضلالة عصمنا الله عن الأهواء ووفقنا لما هو أقرب للتقوي آمين. إذا تقرر هذا فلنقدم على حجج الفريقين تنبيهًا على كيفية صيرورة الفعل متصفًا بالحسن والقبح؛ فإنه من تمام تحرير محل النزاع لتتوارد الحجج على أمر معروف، ومحل مكشوف. اعلم أنهم يحكون خلافًا بين الجبائية وسائر المعتزلة، ويقولون: إن الجبائية يقولون: يحسن ويقبح لوجوه واعتبارات. والبغدادية يقولون: لعينه. ويحكي بعض الأشاعرة عن بعض المعتزلة أنه لصفة من صفاته. والأقرب أنه خلاف في العبارة وبيانه أن مراد الجبائية بالوجه الذي وقع عليه الفعل الوجه الذي له دخل في تحسين الفعل وتقبيحه، ولأجله سمي حسنًا أو قبحًا؛ إذ مطلق الفعل وحده أو مع ألف وجه لا يصير ويسمى لأجله حسنًا وقبحًا. لا يعتبره عاقل قطعًا ككونه حركة مثلاً إلى جهة اليمين في وقت الضحى في قعر المنزل وغير ذلك. وإلا للزم كون كل فعل حسنًا وكونه قبحًا، وهو معلوم البطلان. والبغدادية لا يقولون: إن مطلق الفعل قبح قبح ولا هو مع وجه ملغى. كذلك لما ذكر فتبين أنه مطلق الفعل متركبًا مع وجه أو وجوه لها دخل في صيرورته وتسميته حسنًا وقبحًا. وأنا أنبهك على وجه غلطهم وهو أنهم يأخذون الفعل متركبًا مع وصف ملغى أو غير تام كالسجدة مثلاً ثم يقولون: لو كانت السجدة حسنة أو قبيحة لنفسها لما كانت طاعة للرحمن وكفرًا إن كانت للشيطان. والجواب: أن مراد البغدادية بالفعل ليس السجدة مطلقة ولا هو مع القيود التي صارت بها سجدة بل ذلك كله مع قيود أخر صار بها عبادة للرحمن ومتى كان كذلك لم يخرج عن كونه عبادة إلى كونه كفرًا إلا بنقصان قيد وزيادة آخر. والمقيد بقيد غير للمقيد بآخر، وكذلك القول في لطم اليتيم تأديبًا وظلمًا وغير ذلك، وحاصله: أن الظلم مثلا بعد تمام كونه ظلمًا لا يخرج عن كونه قبيحًا ما دام كذلك فلذا قالوا: إنه ذاتي أي: ما دام الظلم مستجمعًا لما صار به الفعل ظلمًا، فلا يخرج عن القبح فتأمل هذا فإنه بحث نفيس بديع، وهو مما ترك الأول للآخر والحمد لله وحده. ثم اعلم أنه ليس من ضرورة مطلق الفعل الحسن والقبح إن أريد بالحسن ما له مزية راجحة على مزية الطرف الآخر. والمعتزلة يطلقون الحسن على ما عدا القبيح. حتى المباح بمعنى ما لا حرج في فعله وتركه؛ فعلى هذا لا يخلو فعل عنهما ثم المطلق قد يتقدم بقيد أو قيود ولا يتحصل منها إلا اسم مثل مطلق السر؛ فإنه مع الأحكام لمطلق الفعل. وقد يتقيد بقيد يتحصل له به اسم وحكم مثل كونه عدلاً وظلمًا وصدقًا وكذبًا. ثم الوجوه والاعتبارات التي يتحصل بها الحكم هو شيء مقدور وضابطه: ما حكم وأدرك العقل عند الحسن والقبح. ثم قد يزيد على تلك الوجوه المعينة وجه أو وجوه. فإذا اعتبر المجموع فتارة يتأكد الحكم الأول فقط مثل الزنا في المسجد في رمضان مثلاً وقد يتصف المجموع بحكم مخالف لحكم المزيد عليه. والمزيد عليه باق على ما هو عليه فإنه مع الزيادة مغاير له مع عدمها؛ فلا بعد ولا إحالة في اتصاف كل منهما بغير ما اتصف به الآخر. فإذا حكم العقل مثلا بحسن الصدق وقبح الكذب ثم فرضنا أنه جاء دليل عقلي أو شرعي بأن الكذب الذي فيه عصمة نبي واجب، والصدق الذي به هلاكه حرام؛ لم ينقض ذلك علينا قاعدة الحسن والقبح، بل ولا هذه الصورة التي أدرك حكمها العقل. إنما أدرك حسن صدق غير مقيد بكونه يهلك به نبي، وقبح كذب غير مقيد بكون ينجو به نبي، يحكى عن بعض البوادي أنهم يبيتون الضيف مع أزواجهم ومحارمهم ويقولون: هم أكرم الناس وأقراهم للضيف. فهؤلاء ضموا إلى إكرام الضيف هذه الخسة وسمَّوا المجموع بإكرام الضيف والذي يفعل ذلك إنما يسمى ديوثًا ونحوه. وإكرام الضيف إنما هو جزء فعلهم هذا وهو إكرام الضيف فيما عدا هذه الخسة. ومع تناهي فعلهم هذا في القبح لا يخرج إكرام الضيف من كونه من أشرف الخصال وأفضلها. ولا يكاد فعل يخلو عن مفسدة ولو مجرد المشقة وفوات الدعة ولا عن مصلحة ولو اللذة وإطلاق عنان النفس فإنها ما منعت من شيء إلا اشتاقت إليه ولكن يعتبر الأرجح ويضمحل عنده المرجوح، وهذا يحتاج إلى معاودة التأمل وعدم الاستعجال مع نقاوة غريزة وذهن صاف سيَّال. فإن قلت: هذا يخالف قولهم: قبح الكذب لكونه كذبًا والظلم لكونه ظلمًا والعلة موجودة بتمامها مع كل عارض مقدر في الكذب؛ لأن حقيقته مقررة لا تزول إلا بزواله بخلاف الظن. (قلت) إنما حكمنا بقبح ما أدرك العقل قبحه بضرورته. وأما تصيدكم العلة ثم إلحاق ما لم تدركه الضرورة العقلية؛ فلا يفيد اليقين لعدم القطع بعدم الفارق، وإنما غايته الظن الذي الأصل منعه ما لم يدل على الاستغناء به دليل فدعه {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: ٣٦) {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: ٣٦) {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: ١٢) فما يؤمننا أن يكون هذا منه وما لم تلجئنا الضرورة العقلية؛ فلا علينا أن نكل أمره إلى خبر الشرع، ونذعن له بالطاعة والسمع، فكل ما لم تضطرنا إليه الضرورة العقلية، فنحن فيه سمعية. وهذا أوسط الأمرين بين تقريط الأشاعرة وإفراط المعتزلة. فإن قلت: فهل يجوز تساوي طرفي الفعل في كون كل منهما مصلحة؟ وإذا جاز فهل يجوز أن يأمر الحكيم بأحدهما معينًا؟ وإذا جاء فما المخصص حينئذ؛ لأنك قدمت أن الترجيح بمحض الاختيار؟ وإن جاز في حق القادر نظرًا إلى الذات فإنه يمتنع بالغير لمكان الحكمة. قلت: جواز استواء الطرفين في المصلحة لا مانع منه وأمر الحكيم بذلك كذلك. والمرجح حينئذ محض الاختيار كالهارب يختار إحدى الطريقين بلا مرجح، والذي قدمنا منعه هو حيث لا داعي إلى الفعل يرجح في نفس الأمر؛ لأنه يكون عبثًا. وهو ممتنع الوقوع حكمة في حق الحكيم، وعادة فقط في حق غيره. كما يأتي تحقيق ذلك في أواخر مسألة التحسين والتقبيح إن شاء الله تعالى. وأما هذا فقد قام الداعي في كل من الطرفين على حدة فلا مانع من تخصيص أحدهما بمحض الاختيار، وترى أناسًا ينقضون من فرق بين المسلمين ويغلطونهم، وإنما الغلط عند من لا يفرق. وإذ قد أتينا على غرضنا من تحرير محل النزاع وما يتعلق به؛ فلنذكر المعتمد من حجج الفريقين وبالله الاستعانة. (لها تتمة) ((يتبع بمقال تالٍ))