للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


إحدى الكبر وكبرى العبر

خلع عبد الحميد خان. نفيه من دار السعادة. وضعه تحت المراقبة العسكرية
ضبط أمواله وذخائره وعقاره. إباحة يلدز للأمة. تولية مولانا السلطان محمد
الخامس.
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن
تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: ٢٦) .
جلت قدرة الله ونفذت مشيئته، وغلب قدره وعلت كلمته، جعل الأيام دولاً،
وجعل للدول نواميس وسننًا، فلا مبدل لسننه ولا محول لنواميس خلقه، فلا يغرنك
إملاءه للظالمين، واستدراجه للمفسدين {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ *
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ
يَأْتِيهِمُ العَذَابُ} (إبراهيم: ٤٢-٤٤) .
لا ينفع من قدره حذر، ولا ينفذ من محيط سننه سلطان البشر، فلا يهولنك ما
ترى من رسوخ الاستبداد، ولا يويئسنك ما تشاهد من غلبة الاستعباد، ولا يفزعنك
ما ترى من الحصون والأجناد، فقد مضت سنة الله بأن الشيء إذا جاوز حده جاور
ضده، وأن شدة الضغط توجب شدة الانفجار، وأن الأعمال بالخواتيم
{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: ١٢٨) ، {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (الرعد: ٢٥) .
ألا وإن مشيئته في إيتاء الملك ونزعه، وخفض الملك ورفعه، واعتزاز
السلطان وإذلاله، ليست مشيئة استبدادية مغيرة لسننه الاجتماعية، وإنما جعل لكل
شيء سببًا، ولكل أمر مقادير وسننًا، فما من أمة تفرقت كلمتها، وغلب عليها
الجهل بحقوقها، واعتقاد وجوب التقديس لأمرائها وملوكها، وكثر فيها المنافقون،
وقل فيها الصادقون، إلا وابتليت بالمستبدين ومنيت بالظالمين، يسومونها سوء
العذاب، ويقطعون بها الأسباب، فيأكلون الأموال، ويستذلون الرجال، ويجعلون
الحرائر إماء، ليتمتعوا بالمئات من النساء، ويعبثون بالشريعة والقانون، ويجنون
على الأخلاق والآداب، فيذلون أمتهم ويضعفون دولتهم، فإذا استيقظت الأمة من
سباتها، واجتمعت بعد شتاتها، وعرفت حقوقها، وغيرت ما بأنفسها من تقديس
السلاطين، وأرادت أن تجعل الحكم فيها للشريعة والقوانين , فإن الله يغير ما بها
من الذل والعبودية، فتستبدل بهما العز والحرية، من حيث يذل ظالميها، ويهلك
مذليها {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ
مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: ١١) .
لقد صدقنا وعده ووعيده، وأرانا بأعيننا مصداق كتابه، فهذا عبد الحميد خان
وأعوانه وقرناؤه وخصيانه وجواريه وغلمانه قد بغوا في الأرض، وتركوا السنة
والفرض، وعطلوا الشريعة والقوانين، واستبدوا بجميع العثمانيين، وجمعوا
القناطير المقنطرة من الأموال، وحشدوا لحمايتهم الألوف المؤلفة من الرجال،
وأقاموا حولهم المعاقل والحصون؛ ليمنعوا أنفسهم أن يصول عليها المظلومون،
{وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: ٢) .
نعم.. إن في ذلك لكبرى العبر، لمن يعقل ويتدبر {كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ
أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لإِحْدَى الكُبَرِ * نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن
يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} (المدثر: ٣٢-٣٧) فقد أدبر ليل الظلم والاستبداد، وأسفر صبح
الدستور، فميز بين الإصلاح والإفساد، وذهب الغي وجاء (الرشاد) ، وكانت هذه
الحركة العثمانية إحدى الكبر، نذيرًا للمستبدين من البشر، تعلمهم أنه لا ينفع حذر
من قدر، كما تعلم من شاء أن يتقدم أو يتأخر من الأمم؛ كيف يكون السير في
الطريق الأمم، وإنما مدار التقدم والتأخرعلى العدل والاستبداد، ورسوخ جذور
إحدى الكلمتين في البلاد، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن
قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ
الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: ٢٤-٢٧) .
لقد ذهبت هذه العبرة بأعذار اليائسين من روح الله، وتعلات القانطين من
رحمة الله الذين يتركون العمل، ويتفيئون ظلال الكسل، إذا غلقت في وجوههم
الأبواب، وتقطعت بهم الأسباب؛ جهلاً بعناية الله بالإنسان وسننه في نظام الأكوان
فها نحن أولاء قد رأينا عبد الحميد خان قد غلق جميع الأبواب التي يتصورالتوصل
منها إلى خلعه، وقطع جميع الأسباب التي يتخيل أنها تفضي إلى أخذه، حتى إنه
منع الاجتماع والجمعيات، وحجرعلى كثير من الألفاظ والاصطلاحات، فأبطل من
المحاكم الشرعية لفظ الحجر والجنون، وأن يحكم بالحجرعلى مجنون، ومنع لفظ
المخالعة والخلع [١] منها، ومما يطبع من كتب الشرع؛ لأنه يذكر بلفظ الخلع
(بالفتح) ، كما أبطل من جميع المطبوعات أمثال هذه الكلمات؛ عبد الحميد،
سلطان. (إلا عند ذكره) مراد. رشاد. ثورة. حرية. جمعية. مبعوثان ... إلخ
إلخ، وكان لمراقبي الجرائد في ذلك من الأمر والنهي والإثبات والمحو، ما يضحك
الثكلى، ويبكي اليائس الذي جاءته البشرى، وأمر بحذف دعاء القنوت من كتب
التعليم، وكلمة خلع النعلين مما يطبع من كتب الفقه والحديث؛ لئلا يخطر خلعه في
البال، عند ذكر خلع النعال، أو يسبق فهم المتعلمين أو المصلين، أن كلمة
(ونخلع من يفجرك) في القنوت، توجب خلع الفجارمن السلاطين، هكذا رأيناه قد
اتقى كل شيء إلا الله {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ} (القصص:
٨١) ، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (البقرة: ٢٧٠) .
عز عليه أن يسلب بالدستور والحرية ما كان ينتحله من صفات الربوبية؛
ككونه يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ولا حدود
لأمره ونهيه، يحمد على السراء والضراء: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: ٢٣) يعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويصل ويقطع ويفرق ويجمع،
ويخفض ويرفع، يسلب من يشاء ما يشاء، ويقتل من أراد متى أراد، ويبعد من
يكره، ويقرب من يحب، فرأى بعد الدستور أن أمر الشريعة والدستور فوق أمره،
وأن نفوذ جمعية الاتحاد والترقي فوق نفوذه، وأن الألسنة والأقلام التي كانت
مكرهة على ترتيل آيات إطرائه ترتيلاً، والتسبيح بحمده بكرة وأصيلاً، صارت
تسمي أعماله ووقائع عصره بأسمائها، بعد أن كانت تطلق عليها أسماء أضدادها،
إذ كانت تسمي الظلم عدلاً، والنقص فضلاً، والجهل علمًا، والسفاهة حلمًا،
والباطل حقًّا، والكذب صدقًا، والإفساد إصلاحًا، والخسر فلاحًا والتخريب عمرانًا،
والإساءة إحسانًا، إلى غير ذلك.
راعه أن يكون بشرًا يوصف بصفات البشر، وأن تكون رعيته من جنسه لا
من الغنم والبقر، فضاق بهذا الدستور صدرًا، وعجز عن مبارزته جهرًا، فلجأ إلى
الكيد والاحتيال، وفتح ما ادخره لمثل هذا اليوم من كنوز الأموال، فألف بها
الجمعية المحمدية، وبث دعاتها في العاصمة وجميع الولايات العثمانية، فطفقوا
يوسوسون لعامة المسلمين: أن الدستور مناف للدين، وأن جمعية الاتحاد تريد بث
التعطيل والإلحاد، وتحويل الحكومة الإسلامية إلى حكومة أوربية، بل بثوا فتنهم
في الجيش فشقوه نصفين، ودبروا مكيدةً لإيقاع المذابح بين العنصرين: (المسلمين
والنصارى) ، {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الجِبَالُ} (إبراهيم: ٤٦) أما لو وقعت الواقعة، وقرعت الدولة هذه القارعة؛
لرجت الأرض رجًّا، وبست البلاد بسًّا [١] فكانت هباء منبثًّا [٢] ولكن لطف الله بهذه
الأمة، وأراد إنقاذ هذه الدولة فانهتك الستر، وانكشف السر، وظهرت بوادر الثورة
على الدستور في القسطنطينية، قبل أن تصل دعاتها إلى جميع الولايات العثمانية،
فقتل الثائرون بعض أعضاء مجلس النواب، ودمروا على نادي جمعية الاتحاد،
فتبروا ما علوا تتبيرًا، وكادوا يدمرون المعاهد تدميرًا، فأرز [٣] أهل التدبير إلى
سلانيك وهي مصدر الدستور، ومطلع هذا النور، واستصرخوا ذلك الجيش
المنصور، فلباهم سليل الفاروق، مبادرًا إلى فتح فروق، والقضاء الأخيرعلى
الاستبداد، واصطلام آخر جرثومة له في البلاد، والتنكيل بما له من الأحزاب
والأنصار {سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ القَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ
وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (الرعد: ١٠) [٤] .
عبأ (محمود) الأمة، و (شوكة) الملة، تلك الكتائب الشعواء، وهي
كالقضاء المنزل من السماء، فكان هو منها كما قال شوقي من قبل في مدح جيش
عبد الحميد تبعًا لمدحه:
يقود سراياها ويحمي لواءها ... سديد المرائي في الحروب مجرب
يجيء بها حينًا ويرجع مرةً ... كما تدفع اللج البحار وتجذب
ويرمي بها كالبحر من كل جانب ... فكل خميس لجة تتضرب
وينفذها من كل شعب فتلتقي ... كما يتلاقى العارض المتشعب
ويجعل ميقاتًا لها تنبري له ... كما دار يلقى عقرب السير عقرب
فظلت عيون الحر حيرى لما ترى ... نواظر ما تأتي الليوث وتغرب
تبالغ بالرامي وتزهو ما رمى ... وتعجب بالقواد والجند أعجب

أو كما قال اليوم يخاطب هذا الجيش، مفتخرًا بعمله في أخذ عبد الحميد
وخلعه:
يا أيها الجيش الذي ... لا بالدعيّ ولا الفخور
يخفى فإن ريع الحمى ... لفت البرية بالظهور
كالليث يسرف في الفعا ... ل وليس يسرف في الزئير
الخاطب العلياء بالـ ... أرواح غالية المهور
عند المهيمن ما جرى ... في الحق من دمك الطهور
يتلو الزمان صحيفة ... غراء مذهبة السطور
في مدح (أنورك) الجري ... وفي (نيازيك) الجسور
(ياشوكت) الإسلام بل ... يا فاتح البلد العسير
وابن الأكارم من بني ... (عمر) الكريم على (البشير)
القابضين على الصليـ ... ـل كجدهم وعلى الصرير
هل كان جدك في ردا ... ئك يوم زحفك والكرور
فقنصت صياد الأسو ... د وصدت قناص النسور
وأخذت (يلدز) عنوة ... وملكت عنقاء الثغور
نعم.. كرَّ الفاروقي بجيشه وعيون الأمم الأجنبية شاخصة إليه، وقلوب
الشعوب العثمانية محومة عليه، وزحف على الآستانة مصوبًا مدفعه ممتشقًا حسامه
، فلقيته جنود عبد الحميد، وكانت الحرب كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود، فطل الأخ
دم أخيه، وخرق القريب صدر قريبه، فكانت جنودنا كما قال البحتري:
إذا اشتجرت يومًا ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها
ولكن شتان ما بين الباعثين، وما أبعد ما بين الداعيتين، ففريق ينصر الملة
بنصر الشورى والدستور، ويحمي الأمة بحماية مجلس المبعوثين. وفريق ينصر
الاستبداد بنصر ذلك الشبح البال، والمسرف العال، والخؤن الغال {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ
بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} (آل عمران: ١٣) .
أيد الله الحق على الباطل، ومكن جند الدستور من تلك الحصون والمعاقل،
حتى كأن قائده يحمل سيف جده عمر، الذي كتب الله له النصر والظفر، فكان هو
الفاروق الفاصل، بين العدل والظلم، والحق والباطل، وقد أعجب أهل الحرب في
أوربا بسرعة حركته، وحسن تعبئته، كما أعجب أهل السياسة بإحكامه للنظام،
وحفظه للأمن، وفرح العثمانيون بنصر الله الدستورعلى الاستبداد، وحكم الشورى
على حكم الأفراد {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ
* يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (غافر: ٥١-٥٢) .
سقطت (يلدز) ذات الحصون المشيدة، والملاجئ المتعددة بعد أن حاصرها
جيش الدستور، وقطع عنها الزاد والماء والنور، وفيها أربعة آلاف من النساء
والغلمان والخصيان والأعوان، والحرس الداخلي والحجاب، والخدم والكتاب،
والسواس والحوذية، والأريسيين والبستانية، كانوا يأكلون كل يوم ما تشتهيه
الأنفس من أصناف الألوان، ويتمتعون بما أحبوا من بنات ألحان ومعتقات الدنان،
وقد استعد عبد الحميد فيها لكل شيء إلا الحصار، فإنه لم يكن في الحسبان -
وسبحان من لا يشغله شأن عن شأن - أراد أن يجعلها كجنة الخلد، فإذا هي يوم
الحصار دون جنة آدم في الأرض، فقد قال الله لآدم: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ
تَعْرَى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى} (طه: ١١٨-١١٩) وقد جاع وظمئ
في جنة عبد الحميد حتى الغادات، وصار من فيها كالسوائم يقتاتون بورق النبات،
نعم.. ذاقت يلدز طعم الجوع بعد أن كانت مئات الموائد توزع من فضلاتها على
الجموع، وتجيع الألوف من الجنود وغير الجنود، وذاقت لباس الخوف والرعب،
بعد أن كانت تخيف جميع الشعب، فصارت عبرة للمعتبرين، ومثلاً للآخرين
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل: ١١٢)
ولما ضيق عليها الحصار، ارتفع الصراخ والعويل، ممن قال فيهن شاعر
النيل:
أين الأوانس في ذراها ... من ملائكة وحور
المترعات من النعيم ... الراويات من السرور
العائرات من الدلال ... الناهضات من الغرور
الآمرات على الولاة ... الناهيات على (الصدور)
الناعمات الطيبات ... العرف أمثال الزهور
الذاهلات عن الزمان ... بنشوة العيش النضير
المشرفات وما انتقلن ... على الممالك والبحور
أمضى نفوذا من (زبيدة) ... في الإمارة والأمير
بين الرفارف والمشارف ... والزخارف والحرير
في مسكن فوق السماك ... وفوق غارات المغير
بين المعاقل والقنا ... والخيل والجم الغفير
سموه (يلدز) والأفو ... ل نهاية (النجم) المنير
دارت عليهن الدوائر ... في المخادع والخدور
أمسين في رق القبيل ... وبتن في أسر العشير
ما ينتهين من الصلا ... ة ضراعة ومن النذور
يطلبن نصرة ربـ ... ـهن وربهن بلا نصير
ولماذا صار ربهن عبد الحميد بلا نصير، ولا ولي ولا ظهير. الجواب من
سورة الشورى التي كان يمقتها: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (الشورى: ٨) ، ومنها {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ
* وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (الشورى: ٣٠-٣١) .
بعد أن ضيق جيش الدستور على يلدز الحصار، خيرها بين التسليم وبين
السيف والنار، فعلم ذلك العاهل، أنه جاء الحق وزهق الباطل، فأمر بالتسليم
مدعيًا إيثار السلام على الحرب والصدام، وأن العسكر المهاجم كالحرس من أولاده
لا فرق بين الداعم والهادم لاستبداده، فسلم من كان فيها من الجيش سلاحه وذخائره
مأسورًا، ثم خرج منها مذمومًا مدحورًا، وخرج وراءه رؤساء الموظفين والكتاب
والقرناء، فالخصيان والخدم فالنساء، كان عسكر الدستور يخرج كل فريق،
فيعرف غير النساء منهم فردًا فردًا، ويحصيهم بالمقابلة على الجداول التي بيده عدًّا
ثم يرسلهم محفوظين إلى المواضع التي أعدها لهم، إلى أن يصدر الحكم العمري
الفاروقي فيهم، بل ذلك حكم الله وسننه في نظام الاجتماع {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ
وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر: ١٨) وصدق عليهم بعد إباحة يلدز للأمة، ما نزل في
فرعون وقومه {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا
فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا
كَانُوا مُنظَرِينَ} (الدخان: ٢٥-٢٩) .
وقد وضع الفاروقي فروق تحت الأحكام العرفية، وشكل فيها المحاكم العسكرية
لمحاكمة منفذي الفتنة الحميدية؛ لإبطال حكومة الشورى الشرعية، وإعادة الأحكام
الشخصية الوثنية، وهذا أمر لا بد منه، ولا تقوم المصلحة العامة إلا به، والقتل
بهذه الأحكام العسكرية، هو من قبيل ما يطلق عليه الفقهاء اسم الأحكام السياسية،
وقد صرحوا بأنه يجوز قتل الثلث لإصلاح الثلثين، فإن قيل: إنها أحكام ربما
تصيب بعض البرآء، قلنا: وقد يقع مثل ذلك في أحكام القضاء {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ
تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الأنفال: ٢٥) .
وقد كان من أمر الولايات العثمانية عندما علمت بكيد عبد الحميد خان للحكومة
الدستورية: أن كتبت إلى مجلس الأمة بوجوب خلعه، ونفض اليد من بيعته،
وإعلامه بأن الجنود مستعدة لمحاربته، والأهالي يتطوعون مع الجيش لمساعدته،
فلما أمن المجلس بأس ذلك السلطان، اجتمع المبعوثون والأعيان، واستفتوا شيخ
الإسلام، في خلع عبد الحميد وتولية رشاد، وهذه ترجمة الاستفتاء والفتوى بالعربية:
(إذا حذف زيد أمير المؤمنين بعض المسائل الشرعية المهمة من كتب
الشرع المقدسة، ومنع ومزق وأحرق الكتب المذكورة، وبذَّر وأسرف في بيت
المال بدون مسوغ شرعي، وقتل وسجن ونفى رعاياه بدون سبب شرعي وتعود
ارتكاب غير ذلك من المظالم الأخرى، ثم بعد أن أقسم بأن يرجع إلى الصلاح حنث
بيمينه، وأصرعلى إحداث فتن عظيمة تخل تمام الإخلال بانتظام أمور المسلمين
وأحوالهم، وحرض على المذابح، وإذا كانت الأخبار تتوالى من جميع أنحاء البلاد
الإسلامية طالبة خلعه؛ تخلصًا من ذلك الجور، وكان في بقائه ضرر محقق، وفي
زواله صلاح ملحوظ، فهل يجب تنفيذ ما يرجحه أرباب الحل والعقد وأولو الأمر؛
من إلزامه التنازل عن السلطنة والخلافة أو خلعه؟
(الجواب) : نعم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه الفقير السيد
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد ضياء الدين
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عفي عنه
بعدما تناول هذه الفتوى شيخ الإسلام التي هي أصح فتوى صدرت في هذه
الأزمان؛ لرد الشأن فيها إلى أولي الأمر، كما أمر القرآن، اختار أولو الأمر من
المبعوثين والأعيان، أن يخلعوا السلطان عبد الحميد الثاني؛ لأنه ثبت لديهم أنه
يصدق عليه ما ذكر في الاستفتاء من المظالم والمخازي، وأن يبايعوا بالخلافة
والسلطنة محمد رشاد أفندي ولي عهد المملكة. وهذه ترجمة قرار المجلس بالعربية.
في الساعة السادسة والنصف من يوم الثلاثاء، وهو السابع من شهر ربيع
الآخر سنة ١٣٢٧ الموافق ١٤ نيسان سنة ١٣٢٥ (مالية) ؛ تقرر في جلسة
المجلس الوطني العثماني المؤلف من مجلسي الأعيان والمبعوثين خلع السلطان عبد
الحميد الثاني، وإسناد السلطنة والخلافة إلى ولي العهد محمد رشاد أفندي باسم
(محمد الخامس) ، وذلك بناء على اختيار الخلع على التنازل الاختياري بالاقتراع
وهما الحلان المبينان في الفتوى المذيلة بتوقيع شيخ الإسلام محمد ضياء الدين
أفندي المتلوة في الجلسة.
ثم إن المجلس أرسل وفدين؛ لتبليغ قراره للسلطانين؛ ليعلما أن الأمر لأولي
الأمر، لا لرجل واحد يسمى ولي الأمر؛ لأن الله تعالى أسند في كتابه إلى الجمع،
ولم يسنده قط إلى الفرد؛ وليكون لأول عبرة للمستبدين الظالمين، والآخر سلفًا
ومثلاً للدستوريين الآخرين، فبلغ الوفدان القرارين ولسان الحال، يرتل قول الملك
المتعال {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ
وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: ٢٦) .
دخلوا على عبد الحميد الجبار، الحقود المنتقم القهار، وهو في مأمنه الذي
ملأه بالمسدسات، وجعل فيه الملاجئ والمغارات والمُدَّخَلات، وله في كل حجرة
منه تمثال يمثله في حال من الأحوال، فمنها النائم على السرر المرفوعة، ومنها
المتكئ على الأرائك الموضوعة، ومنها المكب على كتابته، ومنها الممثل لقراءته
يحتاط بذلك لخيانة الجنود والأحراس، وغفلة الرقباء والأرصاد، حتى إذا ما دمر
عليه محتال، يحاول الفتك والاغتيال واتفق أن اهتدى إلى بعض حجراته التي يأرز
إليها في خلواته، يغره التمثال فيهجم عليه، فينفذ رصاص المسدسات الحميدية من
بين كتفيه، وإن عبد الحميد لا يخطئ المرمى، فقد تمرن على الرمي حتى صار
كبني ثعل أو أرمى دخلوا عليه فما وارته مخابئه ولا حمته مسدساته، ولا دافعت عنه
رجاله، ولا أغنت عنه أمواله، بل غلب على هذا المخلوع الجبن الخالع، فإذا هو
خاضع خانع، قد خرس لسان مقاله وقرأ لسان حاله {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ * مَا
أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (الحاقة: ٢٧-٢٩) يتمنى لو كانت مكيدته
قضت على الدستور، وجعلت زعماءه وأنصاره من سكان القبور، ثم طلب أن يبقوا
عليه كما أبقى على أخيه مراد، ويحسنوا إليه لأنه بريء مما وقع من الفساد! ! ،
وطفق يلوك أباطيل الأعذار، ولو كان صادقًا لما انتهى إلى هذا (القرار) {أَمْ
نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: ٢٨) .
لماذا خضع وذل عبد الحميد وهو الجبار العنيد لذلك الوفد الذي لم يكن معه
غير ثلاثة من ضباط الجند؟ أتواضعًا كتواضع الخلفاء، أم هي شنشة الجبناء، إن
قدروا بغوا وعتوا، وإن عجزوا ذلوا وعنوا؟ أهذا هو السلطان المستبد، القاسي
المتكبر، الحريص على حياته، المحافظ بقوة الدولة ومالها على شخصه، هو
بعينه عبد الحميد، الذي دخل عليه وفد مجلس الأمة من غير معارضة ولا تفتيش،
فوقف أمامهم خاضعًا ضارعًا متوسلاً، يسألهم الإبقاء عليه، وترك روحه العزيزة
بين جنبيه؟ !
سبحانك اللهم ما أجل حكمتك، وما أعدل سنتك، ما أصدق وعدك ووعيدك،
فقد بينت لنا أن العاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وقلت {أَوَ لَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ
قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} (غافر: ٢١) .
أين تلك القوة القاهرة، أين تلك الإرادة النافذة، أين تلك العظمة والكبرياء،
أين ذلك الشم والإباء، أين ذلك المسرف الغال؟ ، أين ذلك المعجب المختال، أين
السلطان عبد الحميد، الذي ظن أنه يبقى فعالاً لما يريد، فلم يكن يقبل أن يوجد في
المملكة من يقول: هذا نافع في السياسة وهذا ضار، وهذا حلال في تصرف الإدارة
وهذا حرام. أين السلطان عبد الحميد، الذي جعل نفسه هو الملك وهو الأمة، هو
القانون وهو الشريعة، الذي كان يرى أن الملك ملكه، والزمان غلامه، والناس عبيده
أو عباده، وأن له الحق أن يحرف كتب دينهم، وأن يغير أسفار تاريخهم وتاريخ
غيرهم. وإن عليهم أن يقابلوا إساءته بالشكر، وظلمه بالرضا والحمد، أين
السلطان عبد الحميد، الذي كان لا ينزل إلى موكب صلاة الجمعة في الأسبوع، إلا
بين صفوف من الجيوش كالبنيان المرصوص، فيحرم الصلاة على الألوف
من المسلين لأجل صلاته، التي يجعلها عنوانًا على خلافته، فيتزلف إليه فيها
بآيات معينة من القرآن، لا يتجرأ أن يتلو غيرها قارئ ولا خطيب ولا إمام،
ولو قرأ قارئ على مسمعه آية من الآيات التي تنذر الظالمين بالهلاك والدمار،
وتؤذنهم بالزوال والبوار، لأخذ منه باليمين، ولقطع منه الوتين، أو زجه في
ظلمات السجن، أو نفاه من الأرض. أين عبد الحميد الذي كان يزور الخرقة
النبوية الشريفة تذكيرًا للمسلمين بأنه هو الخليفة، فتحرس له الجنود طريقه إليها
طول السنة، فإذا قرب الموعد، أخليت من جانبيها الفنادق والدكاكين والأمكنة،
وغلقت الأبواب والنوافذ والكوى، وحشرت الجنود تملأ ما بين الرجا إلى الرجا؛
لئلا يطمع أحد بالدنو إليه، أو يكون في مكان أعلى منه {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ
وَمَا كَسَبَ} (المسد: ٢) ، ولا وقاه ما أكدى وما وهب، ولا نفعه رأي ثقاته،
ولا سلاح حماته، بل سلمت فئته الباغية المغرورة، لفئة الدستور المنصورة،
وذم هو عمل منفذي فتنته، وتبرأ منهم، وزعم أنه كره عملهم. ولكن عجز
عنهم {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ
لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا
لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ العِقَابِ} (الأنفال: ٤٨) .
بعد أسبوعين من خلع عبد الحميد، أنفذ الفاروقي حكم أولي الأمر بنفيه إلى
سلانيك، وأُخْرِجَ معه من دار السعادة اثنان من صغار أولاده، وإحدى عشرة امرأة
من جواريه ونسائه، وجيء به إلى محطة سكة الحديد تخفر مركبته مركبات الجنود
وأرسل كذلك مخفورًا في قطار مخصوص، ولما وصل إلى محطة سلانيك، اختار
ركوب إحدى مركبات الأجرة، إلى أن وصل إلى الدار التي أعدت له، وهي دار
ألاتيني باشا قائد الشرطة، وقد أحضر له ولمن معه طعام ذلك المساء من أحد
مطاعم السوق، وطلب قميصًا فاشتريت له أيضًا من السوق، وكان في عامة أوقاته
كاسف البال، كثير الهواجس والأفكار، وقد تضرع إلى القائد الذي استقبله بأن
يضمن له حياته، فهدأ القائد اضطرابه وسكن روعه، ولو كان عبد الحميد صاحب
عزة وإباء، لما حرص في مثل هذه الحال على البقاء , ولا أقول لفعل ما فعلت
الزباء، على أن البخع والانتحار؛ إذا كان محرمًا في الإسلام، فشدة الحرص على
الحياة ليست من شأن أهل الإيمان، فقد قال تعالى في الذين لا يؤمنون:
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ
سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أْن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة: ٩٦) .
أما مولانا السلطان محمد الخامس، فقد بويع في ذلك اليوم بنظارة الحربية
باختيار أولي الأمر ونواب جميع الأمة العثمانية، فإن كان قد قال في حفلة المبايعة:
إنني أول ملك في عهد الدستور والحرية، فإننا نقول: إن مبايعته أول مبايعة
جرت على الصورة الشرعية، فقد كان سلفه يأخذون الملك بمجرد الإرث، وهو قد
ناله باختيار أهل الحل والعقد، وقد بويع بالمصافحة كما بويع الخلفاء الراشدون، لا
بلثم الراحة، وتقبيل الأذيال، كما جرى عليه أسلافه المستبدون، وأول من بايعه
الشريف حيدر بك من أعضاء مجلس الأعيان، ثم الصدر الأعظم وشيخ الإسلام،
ثم نقيب الأشراف، فرئيسا مجلسي الأعيان والنواب، فأعضاء المجلسين، فالأمراء
والضباط، ثم من حضر من خيار الناس، وقد صرح مولانا عقب مبايعته، بأن
كل رغبته ورجائه في سعادة أمته، وبعد عدة أيام حلف في نظارة الحربية يمين
التزام الشريعة والدستور، والمحافظة على حقوق جميع الأمة العثمانية، ثم حلف
أيضًا في مجلس نواب الأمة، كما استحلفهم على الإخلاص لها وله، فأقسموا
طائعين، وأطاعوا مختارين، ودعوا له مخلصين، والأمة من ورائهم تقول آمين،
والعاقبة للمتقين {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ} (الرعد: ٢٩) .
ونسأله تعالى: أن يجعل لسان حال سلطاننا الأواب، هذه الآية الكريمة من
الكتاب {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر: ٣٨) .