إن الاتحاديين أضروا بالإسلام والمسلمين أكثر من إضرار الأعداء الحقيقيين، فقد مزقوا الدولة وأذلوا العثمانيين والمسلمين معًا وفرقوا الكلمة ولعبوا بالأمة وضيعوا من ممالك الدولة الإسلامية في خمس سنين ما لم يضيع مثله عبد الحميد وأعوانه في أكثر من ربع قرن، وقد نفروا من هذه الدولة - المصابة من أيدي أبنائها بأكثر مما أصابها الأغيار- قلوب العالم الإسلامي، وإذا كان العدو العاقل خيرًا من الصديق الجاهل، فما بالك بهذا الصديق الجاهل إذا كان زنديقًا ملحدًا لا يعتقد بالله ولا يؤمن بما به تؤمن، ولا يصدق ويوقن بما تصدق به وتوقن اللهم إلا دعوى لسانية تخالفها الأفكار والأعمال، وتباينها السيرة والحال وهو مع ذلك قد تطور بأطوار لا تلائم الجنس الذي يدعي الانتساب إليه، وتشكل بأشكال صارت وبالاً على جنسه وعليه. لئن كنا نؤاخذ الاتحاديين على السيئات التي اجترحوها، والجرائم التي ارتكبوها، والأضرار التي جلبوها على الدين والأمة والدولة، وعلى العثمانيين عامة وعلى أنفسهم خاصة فإنما ذلك لكونهم إخواننا، نحب لهم ما نحب لأنفسنا، ولا نود لهم الزيغ والضلال ولا نريد لهم الخراب والدمار، ولا نرضى لهم بالذل والصغار، ونغار عليهم أضعاف غيرتهم على أنفسهم. ولئن كنا في أسف وحزن وغم على ما أصاب إخواننا الأتراك من أيدي الاتحاديين الأغرار، وأذنابهم المفسدين الأشرار، وعلى عمل هؤلاء الاتحاديين بأنفسهم وشعبهم، والجاهل يعمل بنفسه ما لا يعمله العدو به فإنا نشكر من جهة أخرى لهؤلاء الأغرار أعمالهم الخبيثة وأفعالهم السافلة؛ لأنها نبهت المسلمين إلى وجوب ترك الاتكال على الغير وإلى السعي والعمل لملتهم وأمتهم وحماية دينهم والنظر في أمورهم وإصلاح ذات بينهم وترقية أنفسهم، وإن كان ذلك قد جاء بعد خراب البصرة. فقد قعدت هذه الملايين العديدة من المسلمين عن العمل من قبل اتكالاً على هذه الدولة التي يفتخر سلطانها - ويحق له الفخر- بخدمة الحرمين الشريفين: كعبة المسلمين قاطبة وروضة نبيهم أجمعين، والذي يحترمه المسلمون كل الاحترام ويغارون عليه أشد الغيرة، ويفدونه بالأرواح والأنفس والأموال بسبب الاتسام بسمة هذه الخدمة الشريفة، وتوهم أنها هي التي ترفع شأن الإسلام وتحفظ سلطته والحكم بشريعته، وتحمي أهله وتعزهم وتنهض بهم وترفع رءوسهم، وتفك أغلال الاستعباد عن المستعبدين، وتذيقهم نعمة الحرية الكاملة التي يتنعم بها بقية العالمين. ولما ظهر لهم الآن الصواب من الخطأ، وتبين الرشد من الغي، وأزال الاتحاديون بأيديهم الأثيمة سجوف الشكوك والأوهام، وتجلت حقيقة هذه الدولة المنكودة للخاص والعام من هذه الملايين المتواكلة - انتبهوا لحالهم - ورجعوا إلى أنفسهم وثابت إليهم عقولُهم وندموا على انخداعهم كل هذه المدة، ولات ساعة مندم، فهبوا من نومهم طائشين مدهوشين يتشبثون كالغرقى بكل ما تصل إليه أيديهم، وينظرون إلى مستقبلهم ومستقبل دينهم وأمتهم ومآل كعبتهم وقبر نبيهم بعيون ملؤها الخوف والفزع، وقلوب تحيط بها جيوش الاضطراب والهلع، ولا يدرون أين يسيرون وماذا يفعلون وأي شيء من الأعمال يقدمون. ولأذكر لكم مثالاً واحدًا من أمثلة رجوع المسلمين إلى أنفسهم، وخلعهم نير الاتكال على غيرهم عن عاتقهم، ويأسهم من الدولة العثمانية والحكومة الإسلامية القائمة بها الأمة التركية. وهذا الرجوع والخلع وإن جاءا متأخرين عن وقتهما كثيرًا وربما لا تثمر المساعي اليوم ولا ينفع العمل - فإن فيهما بشارة عظيمة لأن اعتماد المسلمين على أنفسهم بعد اتكالهم على الله، واهتمامهم بشئونهم وأمورهم، والسعي والعمل لملتهم وأمتهم وتوجه أفكارهم وأنظارهم نحو حماية الإسلام ورفعة شأنه، وصيانة الشرع الشريف من العبث به لا بد أن ينفعهم إما عاجلاً أو آجلاً، وأن يحفظ لهم البقية الباقية، إن لم يُعد لهم ما كان لهم في الأيام الخالية، وكل من سار على الدرب وصل، والقنوط ليس من شأن المسلمين الصادقين، كيف وقد أخبرهم ربهم بأن العاقبة للمتقين، وأن الله ولي المؤمنين؟ تألفت في لكهنؤ من بلاد الهند جمعية نافعة جدًّا ولكنها لا تزال في طور التكوين اسمها مجلس أو أنجمن (خدام الكعبة) وقد نشر نظامها وبروجرامها بعد بيان مقاصدها وأغراضها، وكل ذلك بصورة اقتراح لطلب الموافقة عليه حضرة الكاتب الغيور، والمحامي المسلم الكبير، مستر مشير حسين القدوائي. ولما كان الوقت ضيقًا وكان النظام والاقتراح طويلاً اكتفيت اليوم بنقل مقدمة القدوائي وتمهيده الذي مهد به الكلام على اقتراحه مرجئًا نقل الاقتراح وإرساله إلى البريد التالي إن شاء الله. وهذا هو التمهيد مترجمًا عن الخلاصة التي نشرت منه في العدد ١٦ من المجلد الثاني من جريدة الهلال الأسبوعية الغراء الصادرة يوم ٢٣ إبريل سنة ١٩١٣ من كلكته: مجلس خدام الكعبة {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (الصف: ٨) لا شبهة في أن الله جل جلاله هو الحافظ لنوره، ولكن ألا نحب نحن بقاء هذه الأمانة النورانية لدينا؟ هل يختار الله غيرنا للمحافظة على هذا النور؟ ألا يبقى من يؤتمن على هذا النور من نسل الأمة المحمدية الموجودة؟ منذ سنتين ونحن في ابتلاء شديد، كم استشهد من المسلمين في طرابلس؟ وكم ذُبح منهم في البلقان؟ ولم يكتفِ الظالمون بسفك دماء إخواننا بل تعدوا إلى انتهاك حرمات الأماكن الإسلامية في البلاد التي وقعت في أيديهم فجعلوها اصطبلات واتخذوها كنائس. ولا تزال قوات البلقان المتحدة ومعها جميع الدول المسيحية في سعي متواصل لإخراج أدرنة من أيدي المسلمين، تلك البلدة المحتوية على مساجد خلفاء الإسلام سلاطين آل عثمان ومقابرهم، ولأجل تمكين الرعب من قلوبنا نحن المسلمين تطلب بلغاريا الاستيلاء على القسطنطينية التي فيها مسجد أيا صوفيا والمزار المقدس. إن ما جرى في المشهد المقدس [١] من قريب غير خافٍ على أحد، وإذا كان هكذا هيجان المسيحيين ذوي التهذيب المادي في القرن العشرين فمن يضمن لنا خلاص الكعبة المعظمة والمدينة المنورة من جريان مثل ذلك عليهما، لا قدر الله. إنا قد استفدنا درسًا وافيًا في عدم الاعتماد على قوة أخرى أو دين آخر، فيجب علينا أن نفكر ونعمل للمحافظة على مواضعنا المقدسة وخدمتها. إخواني، لا أريد بهذا القول الدول المسيحية بل أريد أن أنبهكم إلى أن الواجب عليكم من الآن أن لا تتركوا أمر الأماكن المقدسة لشعب من شعوبكم أو طائفة من طوائفكم، أتْراكًا كانوا أو إيرانيين، فإن هؤلاء عديمي الحيلة لا يقدرون على الأعداء الكثيرين، سواء كانوا منفردين أو مجتمعين، ولا يمكن لقوة أن تقابل عشر قوات، ألا وإن الحق في نظر التهذيب المادي هو الشدة والقوة، إن العثمانيين يجودون بالأرواح: نساؤهم ترمل وأولادهم تيتم، وديارهم تخرب، ومزروعاتهم تتلف وتنتهب، فماذا يمكنهم أن يفعلوا وحدهم مع ذلك؟ لقد صار من الصعب العسير على السلطان صيانة قبور أجداده من أيدي الأعداء وإساءاتهم، وقد وجهت القوات المسيحية بأجمعها ضغطها عليه، فما الذي يطمئنه على صيانة الكعبة المعظمة والمدينة المنورة وبيت المقدس وكربلاء إذا اجتمع عليها الأعداء؟ وهل في قدرته وإمكانه حفظها من أيديهم؟ لا أدري لمَ يترك المسلمون فرض حماية الأماكن الإسلامية المقدسة واحترامها لذمة الأتراك وحدهم؟ أيها المسلمون، إما أن تتركوا من الآن قولكم: إنا معكم مسلمون، وإما أن تستعدوا على بكرة أبيكم من الآن لحماية وخدمة أماكن دينكم المقدسة وأن تتخذوا للوصول إلى ذلك ذرائع نافعة، وتدابير قويمة ثابتة، وأن لا تدَعوا الإسلام ذليلاً في أعين أحد. إن المسلمين اليوم مع ما هم عليه من الهيجان لم يقدروا على صيانة مساجد طرابلس وبرقة وسلانيك من انتهاك حرماتها. إنا إذا كنا نحترم أماكننا المقدسة حقيقة، وإذا كنا نحب ديننا محبة صادقة، وإذا كنا نرغب في حفظ الحرم المحترم من القذائف، وإذا كنا نود صيانة قبر أشرف العالمين نبينا وهادينا من حملة الأعداء، إذا كنا لا نريد أن تكون حال قبر شهيد كربلاء كحال قبر الإمام الرضا، وإذا كنا لا نتحمل تسليم بيت المقدس إلى مخالب بلغاريا أو روسيا - فمن الواجب اللازم علينا إذن أن نختط لأنفسنا خطة ثابتة للمحافظة على الأماكن الإسلامية المقدسة وخدمتها وحمايتها، وذلك يفرض علينا جميعًا الاعتناء بإبقاء أماكننا المقدسة على حالة جيدة سارة، وأن نيسر سبل تردد المسلمين إليها، وأن نعتني بالمحافظة على الصحة وغيرها فيها، حتى يستدل من ذلك على عظمة الدين الإسلامي وقدسيته وعلو شأنه وسيطرته وجلاله، وحتى لا يتجرأ أحد من الملل الأخرى على النظر إلى تلك الأماكن المقدسة بنظرة الازدراء أبدًا. ... ... ... ... ... ... ... عبد الحق البغدادي ... ... ... ... ... نائب أستاذ العربية في كلية عليكره الإسلامية (المنار) إننا ننتظر ترجمة الاقتراح لنبدي فيها رأينا التفصيلي، وأما الرأي الإجمالي فهو الاستحسان والتحبيذ، فإن هذا في جملته عين ما اقترحناه في آخر المقالة الخامسة من مقالاتنا: عبر الحرب البلقانية وخطر المسألة الشرقية. (راجع آخر ص١٩٢ من هذا المجلد) . ((يتبع بمقال تالٍ))