وردت من أحد المأمورين بشيراز رسالة تحاول إثبات المهدوية لميرزا علي محمد بن أقارضا البزاز الشيرازي (مدعي البابية ومؤسس طريقتها) وما اضطررت إلى الجواب عنها إلا من شدة إصرار مرسلها , ومن اقتحام بعض الصحف المصرية في أمرهم على العمياء، وتوصيفهم عن غير دراية، وتقريب العقول الناقصة من شبايك كيدهم. إني لم أر بعد النظر في أدلة تلك الرسالة دليلاً يكتسب من الأنظار أدنى أهمية، ولا وجدت قياسًا في كتابه روعيت فيه أصول الاحتجاج غير حجة واحدة، سنجعلها مدار البحث ومحوره، حيث تناسب أبحاثنا في النبوة ... بيد أن الكاتب من لباقته وشطارته أبرز تلك الحجة الواحدة في كسوة الحجج المتعددة. (وخلاصة تلك الحجة) أن (علي محمد الشيرازي) تحدى كالأنبياء لدعواه , وأخرج للناس كتابًا يصدق ما ادعاه , فلو لم يكن نبيًّا صادقًا ناطقًا بالحق، لوجب على الله (سبحانه) أن يفضحه ويظهر كذبه , ويجازيه أسوأ الجزاء على افترائه وبهتانه على مولاه وجوبًا عقليًّا (تقتضيه قاعدة اللطف) ونقليًّا دلت عليه آيات الكتاب وبينات السنة اهـ. (وهاك جوابي عن هذه الشبهة) ينبغي لنا في هذا المبحث أن ننظر أولاً في أنه كيف يجب أن يفتضح المتحدي الكاذب.. ثم ننظر في حقيقة اللطف الواجب.. كل ذلك على وجه العموم.. ثم نتكلم في افتضاح (علي محمد) وظهور كذبه لدى العقلاء بأجلى وجوه الفضيحة. ولا ينقضي عجبي منكم أيتها الفرقة الـ ... تدعون المهدوية لصاحبكم وهي فرع من الفروع الاعتقادية في دين الإسلام ثم تستدلون على مقصدكم بدلائل النبوة وتنسبون لصاحبكم تحدي الرسالة, وأنه أظهر كتابًا أكبر من كتاب محمد صلى الله عليه وسلم وتتشبثون لمطلوبكم بشبهات النصارى على الإسلام: فأدلتكم ترمي إلى شيء ودعواكم ترمي إلى آخر يخالفه تمام الاختلاف فعرفونا وجه التوفيق ومنزع الاحتجاج ومحجة النزاع. نجعل وجدانكم الصادق أيها المنصف بيننا حكمًا فاصلاً ثم ننشدك نشيدة الباحث عن حقيقة (ونقول) هل الواجب على المولى (سبحانه) أن يفضح المتنبي الكاذب بعلامات محسوسة.. مثل أن يكتب على وجنته أو جبهته (هذا نبي كاذب) ..؟ أو يوكل عليه ملكًا يهتف أمامه بذاك النداء مدى الدهر فتقصر الحجة في الكتابة على خط واحد بالضرورة , وتقتصر في النداء على لغة واحدة فلا تتم الحجة على أكثر البشر ولا تبلغهم حقيقة الأمر قطعيًّا مع اشتراكهم وتساويهم في التكليف ويفوت الشارع بناء عليه مقصده السني من تشريع السبل , وبعث الرسل , وهل عهدت يا صاح في إحدى الشرائع من إلهك الحكيم استعمال العلامات الشخصية والصور الحسية في فضيحة متنبئ أو متحدّ كاذب..؟ كلا ثم إن الصور المحسوسة لا تعم الأعصار والأمصار , كما أن الخط واللغة لا يعرفان الأقوام المختلفة حقيقة الأمر , فلا محيص من تصديق سنة الله تعالى والاعتراف بصحة سيرته مع أدعياء النبوة حيث يميز كاذبهم عن صادقهم بوجه علمي وصورة عقلية , يفتضح بها الكاذب بين الناس أجمعين , على اختلاف ألسنتهم وألوانهم , فتحصل الغاية المقدسة وتتم الحجة على كل مكلف بأبلغ منهج وأتم صورة. حيث إن الوجوه العقلية لا تختص بقوم دون قوم ولا بأبناء لهجة دون آخرين ولا تختص بعصر ولا بمصر بل تعم ذوي العقول قاطبة في جميع الظروف والأحوال (العقل دليل في كل سبيل) . وإتمام الحجة في فضيحة المتنبئ الكاذب مما يجب أن يظهر لجميع العقلاء والعلماء الذين أضحت عقائد العامة تتبع آراءهم , وأفعالها تناط بأقوالهم {ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} (الأنفال: ٤٢) . إذن فالحري بنا أن ننظر في أمر هذا المدعي بالنظر العقلي , والطريق العلمي , الذي به يظهر المولى (سبحانه) كذبه إن كان مفتريًا عليه. (الحقيقة تكفينا فضيحة المتنبي) (وفي ذلك معنى قاعدة اللطف) قالت العدلية من المسلمين (يجب على الله سبحانه وتعالى أن يفضح المتنبي والمتحدي الكاذب بقاعدة اللطف) وخاضوا في عباب اللطف كل مخاض , لكن لي في المقام رأيًا متوسطًا أظن إصابة الحق فيه. وموجزه أن المتحدي بالنبوة يدعي لنفسه العصمة بالضرورة.. والحقائق لا تمهله دون أن تظهر كذبه: حيث إن الفاقد لفضيلة العصمة , لا ينفك (حسب المفروض) عن سهو أو نسيان , فيبدو منه خلال أعماله وأشغاله سهو في فعل , أو نسيان عن قول , سيما عندما تتراكم الأشغال عليه , ويحاط في المجامع العمومية بالشواغل القلبية , وتآثير الظواهر في مشاعره ونفسه الضعيفة , ومتى ما سها في شيء أو نسي تبين كذبه وافتضح. إن من يدعي بما ليس في ... كذبته شواهد الامتحان فيحصل المطلوب بتأثير أودعه الله في مظاهر الحقيقة (وهو أمر طبيعي) في العوالم الأدبية لا بد منه ولا محيص. وإذا تبينت محافظته على الحقائق , لم يظهر منه خطأ أو زلة في أعماله وأقواله , ولا عدول عن غايته، ولاتغيير فى مسلكه طول عمره، فذلك الصديق الذى يجب تصديقه والإيمان بما يدعيه، وهو العاصم المعصوم ولا ريب فيه. (افتضاح علي محمد عندنا) ذكر الناس في ظهور خداعه وكذبه، مظاهر وأشياء، ونشروا كثيرًا مما يزري بشأنه ويكذب دعواه، وأعلنوا خذلانه في مجالس العلماء بأصفهان وتبريز وشيزار وغيرها. واستبان انحطاطه وقصوره عن المباحث العلمية والأدبية والاعتقادية لكنني أعتمد في انجلاء حاله وتكذيبه على منهجين أرى لهما مقامًا ساميًا كثير الأهمية في عالم البحث الفلسفي عن الأديان والنبوات , وعن تعيين الأنبياء والصادقين من المصلحين. (المنهج الأول) : ظهور خطأ منه في سياسة أمره يمنعه من نجاحه بحيث يمسي المدعي للنبوة غرضًا لأسهم الملازمة من جمهور العقلاء فإن ذلك وشبهه من جملة الأمور الفاضحة , وشواهد كذبه الواضحة , يتم الحق بأمثالها حجته على رائديه. ولا يبرح عن اعتقادي أن العاقل المنصف إذا تأمل في كلمات (علي محمد) وبيانه الذي زعم معارضة القرآن به وعرف أغلاطه اللفظية , التي لا تقبل وجهًا ولا علاجًا في فنون العربية ,.... يجزم بخطأه في عالم السياسة فمجرد تصديه لمعارضة القرآن العظيم في العربية والبلاغة وهو عاجز عن التكلم بها غير محيط بأصولها وفنونها يكفينا فضيحته ولا ينفك لوم العقلاء منه على هذه الفلتة الكبيرة يلومونه من جهات متعددة: (١) لماذا يا مسكين لم تقنع بدعوى كونك إمامًا أو بابًا إليه كما كنت عليه في مبدأ أمرك حتى ادعيت النبوة واحتجت إلى إظهار الآيات والمعاجز وعرضت بنفسك للفضحية. (٢) لماذا اخترت يا مسكين من بين المعجزات معارضة القرآن الذي أعجز أساطين الفصاحة. (٣) إن لم تطاوعك النفس إلا في معارضة القرآن فلماذا عارضته بالعربية حتى يصبح أمرها عليك من كل باب تأتيه من حيث أنك أجنبي عنها نشأت على اللغة الفارسية في إيران وما سبرت أفانين العربية وآدابها ... تعجز عن أداء جملة لا تلحن فيها , وتعارض قرآنًا خرت لبلاغته الأدباء سجدًا إلى الأذقان , وخضعت دونه رجال الإصلاح والسياسة وعلماء البيان , تعارضه ببيانك المشتمل على أغلاط بعيدة الإحصاء في فنون العربية من تصريفها والأعاريب والبلاغة في التركيب خاليًا عن طريف معنى ولطيف حكمة. ولو أنك يا مسكين لفقت كتابك من فقرات وجمل بلغتك الفارسية لصنته من قدح العلماء في ألفاظه وتراكيبه , وانحصرت دوائر اللوم في أغلاطك المعنوية خاصة , وكان لك في ذلك ولصحبك مندوحة وتخفيف مشقة , وكنت في راحة من جانب ألفاظه لا تلجأ إلى مضيق الاعتذار (ورب عذر أقبح من ذنب) عن ألحانك (بأن الألفاظ كانت أسيرة الإعراب فأطلقها) ولا يلتجئ زعيم قومك اليوم تصحيحًا لأغلاطك إلى قوله: (إن ولي الله لا يكون أسيرًا لأصول اللغات وإعراب الكلمات) اعتذر به (ميرزا أبو الفضل) الكلبايكاني في كتابه بعد اعتراض شيخ الإسلام التفليسي عليه بأغلاط البيان وألحانه: وإنني لا أعدوه وسألتك يا صاحبي ولا أحتطب لك من كلماته في هذه الوجيزة من هنا ومن هناك وإنما أذكرك ببعضب كلماته التي انتخبتها أنت لنا وأتحفتنا بها في رسالتك إلينا فمن ذلك قوله: (تالله قد كنت راقدًا هزتني نفحات الوحي وكنت صامتًا أنطقني ربك المقتدر القدير لولا أمره ما أظهرت نفسي قد أحاطت مشيأته مشيأتي وأقامني على أمر به ورد على سهام المشركين امرءًا قرأ ما نزلناه للملوك لتوقن بأن الملوك ينطق بما أمر من لدن عليم خبير) . ومن ذلك قوله: (كنت نائمًا على مضجعي مرت علي نفحات ربي الرحمن ويقضتني من النوم وأمرني بالنداء بين الأرض والسماء ليس هذا من عندي بل من عنده يشهد بذلك سكان جبروته وأهل مدائن عزه فوا نفسه الحق لا أجزع من البلايا في سبيله ولا عن الرزايا في حبه ورضائه قد جعله الله البلاء غاديه لهذه الدسكرة الخضراء) . وبالإجمال فإنها فلتة عظيمة سياسية وحقيقية؛ صدرت منه بمشيئة الله تعالى رغمًا على مشيئته ليصبح الحق أبلج , ويمسي الباطل لجلج , وما صرعه الحق هذه الصرعة الفاضحة ولا أكبه بعثرته الواضحة , إلا من جنايته العظمى على الحقيقة المقدسة , وهتك حرمة الإسلام وما أبدى فيه من.... (المنهج الثاني) ثبات المدعي واستقامته في مسلكه الخاص الذي دعاه الناس إليه من مبدأ أمره إلى منتهاه لا يحول عنه ولا يزول في حال ضعفه وقوته سالكًا فيه بقوله وفعله عن شجاعة أدبية (كيف يميل عن الحقيقة من نالها أو يعدو الحق صاحبه وما وراء عبادان قرية) . فهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم جرى على سنة الأنبياء من قبله , فادعى الرسالة من ربه في مبدأ أمره , واستقام عليها حتى فارق صحبه , فكانت الرسالة لا غيرها دعواه وخطته من قبل أن يبلغ المسلمون عدد الأصابع ... ثم اتسعت بلاده وعلت كلمته وفاق المؤمنون به عشرات الألوف وصارت الأموال والكنوز تجبى إليه من أقطار الأرض: ولم تكن مع ذلك دعواه إلا الرسالة التي كان يدعيها في أول أمره. وما أورثه ارتقاء شأنه ونفوذ سلطانه , فرقًا في أخلاقه ودعاويه , ولا في معيشته وسيرته , ولقد كان يروج منه (ولا ريب) أن يدعو الناس بعد ذلك إلى تقديسه والاعتراف بألوهيته (والعياذ بالله) أو يأكل أطيب المأكول ويتخذ لنفسه أجمل وسائل العيش والتنعم من اتساع سلطته ونفوذ كلمته وتملكه القلوب والمشاعر. لكنه صلّى الله عليه وسلم كان يزداد تواضعًا وزهدًا كلما ازداد قدرة لئلا يهابه الناس فيقدسوه تقديس الرعية لسلطانها المستبد. وأمّا (علي محمد) فلا يجد المرء بعد الفحص أقل ثباتًا منه في مسلكه ودعواه , فإنه ادعى البابية في مبدأ أمره ويعني من البابية أنه الباب بين الشيعة وبين إمامهم (المهدي المنتظر) (عج) يبلغهم أحكام الشريعة عنه (ع) كما كان نواب المهدي (عج) في القرن الثالث يعرفون بهذا الاسم والصفة وكانوا هم الأبواب إليه والنواب عنه، فكانت البابية أو دعوى (علي محمد) ولأجل ذلك عرف أصحابه بهذا الاسم والعنوان من مبدأ أمرهم إلى الآن. ثمّ عظمت وطأته , وانتشرت دعوته , وشاهد ازدحام الناس على نفسه , فادعى الإمامة والمهدوية لنفسه , وإنه هو الإمام المنتظر عند الشيعة بعينه , ولا يخفى عليك اختلاف المسلكين وتفاوت الرتبتين. ثم ارتقت كلمته وكثر أتباعه لأمور اتفاقية لا يسع المقام ذكرها، واستشعر من تابعيه , قبول كل ما يدعيه , فادعى النبوة وأظهر كتابًا زعم نسخ القرآن به والمعارضة معه ... ويحكى عنه الربوبية أيضًا مستدلاً بتوافق اسمه في العدد أعني (علي محمد) لاسم (رب) فإن كلاً منهما ٢٠٢ في حساب (أبجد) الجملي.... ولم يثبت بعد ذلك حتى قتله (ناصر الدين) شاه إيران بعدما عقد المؤتمرات لأجله , أظهر العلماء كذبه وعجزه في الأبحاث العلمية. ومن طلب تاريخه فليراجع كتاب (باب الأبواب) أو مفتاحه لمنشئ جريدة (حكمت) الفارسية المصرية. وليت شعري ما كان يدعي بعد هذه الدعاوى لو أمهله الدهر وساعدته العامة؟ (نعم) لا يستقيم سويًّا على صراط مستقيم من حاد عن الحق * ويضطرب الرأي ممن لم يفز بحقيقة * ولا يثابر على خطة من لم يكن على يقين * فهلا يكفيك اضطراب رأيه الظاهر من تلوناته وتقلباته في خطته شاهدًا على خطأه وزلَله , أم نسيت ما قدّمناه في صدر البحث تمهيدًا لخواتيمه , والسلام على من اتبع الهدى. ... ... ... ... ... ... ... ... من نجف بالعراق ... ... ... ... ... ... ... هبة الدين الشهرستاني ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ مجلة العلم