{كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: ٢١٦) . ظهرت أمارات الحرب بين الدولتين الإسلاميتين العربيتين، فساور العالم الإسلامي الروع مما يخشاه من سوء عاقبتها، وكتبنا في ذلك مقالنا الأول الذي عنوانه الحديث النبوي (ويل للعرب، من شر قد اقترب، أفلح مَن كف يده) ونشرناه في بعض الصحف اليومية بغير إمضائنا، ثم في المنار، واتصلت المكاتبة في موضوع شر الحرب المقترب بين الكاتب والإمامين فكان جواب كل منهما أنه لا يريد الحرب، ولن يكون هو المضرم لنارها باختياره، وكان كل منهما يكتب واثقًا من نفسه بما يقول عنها راجيًا أن يكون أخوه مثله، بيد أنه كان من المشكوك فيه أن يكون أمر الإمام يحيى بيده، كما أن أمر الإمام عبد العزيز بيده؛ إذ كان يُقال ويُكتب ويُنشر أن قوة اليمن الحربية بيد ولي عهد الإمام وقائدها العام، الأمير أحمد سيف الإسلام، وأنه مخالف لوالده في الرأي، وأنه حربي بالطبع، وأنه كان هو المعتدي على جبل العرو من قبل وعلى نجران من بعد، وأنه هو المحرض لآل الإدريسي على الانتقاض على الملك عبد العزيز في الثورتين السابقة واللاحقة، وأنه هو المؤوي للمفسدين من أعضاء الحزب الحجازي، ومحل الرجاء للمفسدين في القطر المصري، وأنه هو المتصل بالدساسين من أصحاب الطمع الأجنبي، ولولا ذلك لم يُسَيِّر صاحب المملكة العربية السعودية الجيش في إثر الجيش إلى حدود المملكة الشرقية والغربية. أما والجيوش قد حُشرت، والمفاوضات البرقية بين الإمامين قد عُطلت، والنُذر قد تواترت، والقسي قد أوترت، وأعصاب الأوتار (الثارات) قد وترت، فالحرب قد وقعت، وكان وقوعها أمرًا طبيعيًّا لا مفر منه. وكان سببه الباطن دم فاسد في بنية الأمة العربية هو علة مرضها، والمانع من اتفاقها واتحادها، ولا شقاء لها إلا بخروجه منها، وإنما كان يُخشى أن يخرج معه دم حياتها، باعتداء الأجانب على استقلالها، ونقص أرضها من أطرافها. كنت أخشى من شر اشتعال الحرب خطرًا واحدًا، هو التدخل الأوربي باحتلال جيش إيطالية لثغور تهامة اليمن، وإحداث إنكلترة لحدث شر منه لحفظ الموازنة، وهو الاستيلاء النهائي باسم شرق الأردن على خليج العقبة، فلما أعلن كل من الدولتين الحياد اعتقدت أن ما كنا نكرهه من هذا القتال، هو مصداق لقول الله تعالى الذي جعلته عنوانًا لهذا المقال، وأنه لا خير في منعه إلا بعد خروج الدم الفاسد الذي هاج فأحدثه، وإمكان جعل جزيرة العرب في حالة استقرار ثابتة، كما أشرت إلى هذا في مقالاتي السابقة. الإمامان مسلمان تقيان شديدا الحذر من الطمع الأجنبي؛ ولكن بين شعبيهما خلافًا في المذاهب: هؤلاء سنية سلفية، وهؤلاء شيعة زيدية اعتزالية، بل يقال إن أكثرهم جارودية غالية، لا كما نعرف في الكتب عن الزيدية المعتدلة، وبين حكومتيهما خلافًا في السياسة والحدود الدولية في العسير، ونجران. هؤلاء يقولون: إن كلاًّ منهما يمانية لحمًا ودمًا، ويؤيدهم الإمام نفسه، وما كان يماطل ويماحل في عقد المحالفة إلا لأجله، وهؤلاء يقولون: إنها سعودية في الحق الواقع والتاريخ الحديث، وزد على ذلك أن الإمام يحيى يقول ويكتب وينشر أن كل بيت في اليمن يحمل ثأرًا دمويًّا على الدولة السعودية يطالبه بالإذن له بأخذه بالقوة الحربية، وقد بدأ اليمانيون بالاعتداء المرة بعد المرة، وكل من الفريقين يعتقد أنه أقوى من الآخر، وقد أعقب ذلك كله أن زحفت الزحوف، وتقابلت الصفوف، وبدأت المعارك بالفعل، والمفسدون ينفثون فيها؛ فيزيدونها ضرامًا، أفيعقل كفها بدعوة محبي الصلح، وأن يكون عقده على دخل ودغل، وعلم بما هنالك من غل وسخيمة، خيرًا للعرب، ولجزيرتهم، ولجامعتهم الإسلامية والعربية؟ لا لا. كلا، إن صلحًا كهذا إن أمكن، ووقع كان هدنة مؤقتة يخشى أن ينقض في وقت يكون فيه خطر الحرب أكبر، وأن تكون معاهدته مما نهى الله عنه بقوله: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً} (النحل: ٩٢) الآية كما بيناه في الجزء الماضي. فالواجب إذًا أن تكون هذه الحرب شفاء من مرض الأمة بالفعل، أو بالإعداد والتهيئة على الأقل، وأن ينبني الصلح على أساس قوي، ولن يكون إلا بعد ظهور تفوق قوة على أخرى، وأن يكون الأقوى حكيمًا حليمًا لا يبغي عظمة ولا إرهاقًا للآخر، وهذا عين ما وقع، وقد عرض ملك العربية السعودية إلى إمام اليمن شروطه التي لا يغمد السيف بدونها فقبلها، وأرسل مندوبه إلى الحجاز لوضع المعاهدة المطلوبة؛ فوُضعت في هذا الشهر، وعسى أن تكون كافلة لما أشرنا إليه مما يغسل أدران الماضي، ويضع الأساس للوفاق والإخاء الدائم في المستقبل. ذكرنا في الجزء الماضي ما يراه ويصرح به بعض أولي الرأي من توحيد الحكم والدولة في الجزيرة، وقلنا: إنه منتهى الكمال الشرعي والسياسي إن أمكن. وكان يجب توخيه إذا أراد الفريقان السير بالحرب إلى آخر طاقتها كالحرب الأوربية الكبرى، وهو ما كان يُظن بالملك عبد العزيز السعودي بالقياس على حروبه السابقة، وصرح به أحد الكتاب العارفين بشؤون البلاد وزعمائها في جريدة يومية مشهورة؛ ولكنني قلت لهذا الكاتب ولغيره مشافهة في مكتبي إن الذي أعلمه من اختباري الشخصي لعبد العزيز أعزه الله أنه لا يريد الاستيلاء على اليمن، ولا إزالة حكم إمامها، ولو كان يريد ذلك لكان كما قيل لا يصده عنه صد، ولا يقف دونه عند حد، وقد فتح له بابه، وتمهدت له أسبابه بالوصول إليه (كما فعل في الحجاز) أو بالعجز النهائي عنه. أما كونه قد تمهد له سبيل هذا، ويسرت له أسبابه، فهو ما عرفه الشرق والغرب. وأما كونه لا يريده، وإن اعتقد أنه قادر عليه، فله سبب معقول هو عين السبب الذي صرفه عن محاولة الاستيلاء على قطر آخر مهد له طريقه من قبل، وهو أن أعباء ملكه تثقل عليه، فتنوء به أن يحملها، ويقوم بما يجب لها من حفظ الأمن وتعميم العدل، وإقامة العمران ونشر العلم، وما يقتضيه ذلك من كثرة الرجال والمال، وهو يصرح بهذا على مسامع الناس. ومن المعلوم أنه أقام الركن الأول من هذه الأركان في جميع مملكته على أكمل وجه، وهو حفظ الأمن الذي يتوقف عليه غيره، وأن الرجال الذين يعتمد عليهم فيه هم أهل نجد وحدهم، وليس فيهم من أهل الكفاية العلمية والمرانة العملية من يقوم بسائر مصالح الدولة، فقلة الرجال هي العائقة عما يعوز البلاد من ضروب الإصلاح، وحسب أهل نجد الآن حفظ الأمن، وإطفاء الفتن في داخلها، وحمايتها من الاعتداء على حدودها، وأهل نجد لا يَفْضُلون غيرهم من عرب الحجاز، وعسير، والشام إلا بعقيدتهم السلفية، واعتصامهم بما يعلمون من أحكام الإسلام الشرعية إيمانًا وإذعانًا، وطاعة لربهم، ثم لإمامهم سرًّا وجهرًا، فشجاعتهم وثباتهم مستمدان من عقيدة التوحيد الخالص من شوائب النفاق والوثنية والمنافع الشخصية. ومن أركان سياسة هذا الإمام فيهم المحافظة على عقيدتهم وأخلاقهم وآدابهم في محيط بيئتهم، وليس من المصلحة تفريقهم في مملكة واسعة الأطراف، مختلفة المذاهب والآداب والآراء، وهم في حاجة إلى تعليم جديد يرشحهم لما اشتدت حاجة بلادهم إليه في هذا العصر من تنظيم القوى الحربية الفنية التي لا ينفع في رد العدوان الخارجي عن البلاد غيرها، ومن تنظيم القضاء والإدارة، وتفجير ينابيع الثروة، مع هذه المحافظة على عقائدهم وأخلاقهم التي يفسد بدونها كل شيء. قد استولى الجيش النجدي على تهامة اليمن بدون عناء كبير؛ لأن أهلها ساخطون على حكومة الزيدية، فكانوا إلبًا واحدًا معه عليها، ويمكنه أن يحفظها بقوتهم ومالهم من اعتداء جيش الإمام عليها، وأن يهاجم صنعاء بها؛ ولكن ذلك يعقب ازدياد التعصب المذهبي بين السنة والزيدية، والمصلحة الإسلامية العربية تقتضي إزالته، أو تخفيفه تمهيدًا لإزالته، وتحقيق الوحدة الإسلامية العربية في موضعه، فمراعاة هذا في الصلح أدنى إليها من طلبها بالغلب والقهر، وهذا هو الذي يريده الملك عبد العزيز الفيصل ويحاول إقناع الإمام يحيى به، فإذا كان قد اقتنع به كما يظهر لنا، وزالت ضغائن الخلاف التي صرحنا بها آنفًا، فستبنى قواعد الصلح على أساسه، ويكون وسيلة إلى ما كنا نسعى إليه ونمهد له منذ ثلث قرن ونيف، وقد أشرت إلى قوة الرجاء فيه، والله هو المسؤول وحده في إتمامه. ((يتبع بمقال تالٍ))