للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حجج منكري الكرامات

أتينا في جزء سابق على ذكر الخلاف بين المسلمين في الكرامات، ووعدنا
بذكر حجج المنكرين والمثبتين والنظر فيها، ونبدأ بذكر حجج المنكرين الخمس التي
أوردها العلامة السبكي مع ردها وسمَّاها شُبَهًا، ولا يقتضي تسميتنا إياها حججًا،
اعترافنا بحقيتها ولا عدمه؛ فإن بعض الحجج داحضة.
(الحجة الأولى) قالوا: إن تجويز الكرامة يفضي إلى السفسطة إذ يقتضي
تجويز انقلاب الجبل ذهبًا إبريزًا، والبحر دمًا عبيطًا، وانقلاب أوانٍ تركها الإنسان
في بيته أئمة فضلاء مدققين، قال السبكي: والجواب من وجوه، الأول: إنا لا نسلم
بلوغ الكرامة هذا المبلغ كما اقتضاه كلام الإمام القشيري، الثاني: نسلم
(جدلاً) لكن نمنع اقتضاءه سفسطة؛ لأنه بعينه وارد عليكم في زمن النبوة،
الثالث: أن التجويزات العقلية لا تقدح في العلوم العقلية، وجواز تغيرها بسبب
الكرامة تجويز عقلي فلا يقدح فيها. اهـ
أقول: كلام السبكي - كغيره - صريح في أن الكلام في جواز الكرامة لا
في وقوعها، ومعلوم أن العقل يجوِّز ما دون المحال، وإنما المحال العقلي هو اجتماع
النقيضين أو ارتفاعهما، وأكثر الناس يطلقون لفظ المحال العقلي على كل مستبعد غير
مألوف، وفيما أظهرته الصناعة والعلوم الطبيعية الكثير من تلك الأمور المستبعدة
التي كان يجزم الناس باستحالتها لو لم تقع فعلاً، كالتلغراف وغيره.
ومن الأمور التي تستبعد العقول وقوعها إذا هي تصورتها ما يكون له سبب
طبيعي مجهول يوجد بوجوده، واهتداء الناس إليه ومنها ما ليس كذلك، وكلا
القسمين جائز الوقوع في نظر العقل، ولكن ما كل جائز عقلاً يقع فعلاً، وقوله: إن
الكرامة لا تبلغ هذا المبلغ، هو التحقيق، وإن كان الجمهور على خلافه، وسيأتي
بيانه.
(الحجة الثانية) قالوا: لو جازت الكرامة لاشتبهت بالمعجزة، فلا تدل
المعجزة على ثبوت النبوة، قال السبكي: والجواب منع الاشتباه لقرن المعجزة
بدعوى النبوة دون الكرامة، فهي إنما تقرن بكمال اتباع النبي من الولي، وأيضًا
فالمعجزة يجب على صاحبها الإشهار والكرامة مبناها على الإخفاء، ولا تظهر إلا
على الندرة والخصوص، لا على الكثرة والعموم، وأيضًا فالمعجزة يجوز أن تقع
بجميع خوارق العادات، والكرامة تختص ببعضها كما بيناه من كلام القشيري وهو
الصحيح. اهـ.
أقول: أين هذا مما هو مستفيض بين الناس في هذه الأزمنة من أن الكرامات
صارت عند الشيوخ من الأمور الاعتيادية بحيث ينقلون عن الواحد منهم الألوف
منها، أو كما قال الأستاذ مفتي الديار المصرية في رسالة التوحيد فيهم: (يظنون
أن الكرامات وخوارق العادات أصبحت من ضروب الصناعات، يتنافس فيها
الأولياء، وتتفاخر فيها همم الأصفياء، وهو ما يتبرأ منه الله ودينه وأولياؤه وأهل
العلم أجمعون) وستقف على توضيح هذا.
(الحجة الثالثة) قالوا: لو ظهرت لولي كرامة لجاز الحكم له بمجرد دعواه
أنه لا يملك نحو فِلس لظهور درجته عند الله، المانعة له من الكذب في هذا النزر
القليل، لكنه باطل بالإجماع المؤيد بخبر البينة على المدعي، قال: والجواب أن
الكرامة لا توجب عصمة الولي ولا صدقه في كل الأمور، ونقل إن الجنيد سئل؛
هل يزني الولي؟ فقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: ٣٨) ، ثم
قال السبكي: وهَبْ أن الظن حاصل بصدق دعواه إلا أن الشارع جعل لثبوت
الدعوى طريقًا مخصوصًا، ورابطًا معروفًا لا يجوز تعديه ولا العدول عنه، ألا
ترى أن كثيرًا من الظنون لا يجوز الحكم بها لخروجها عن الضوابط الشرعية.
(الحجة الرابعة) قالوا: لو جاز ظهور خوارق العادات على أيدي الصالحين
لما أمكن أن يستدل على نبوة الأنبياء بظهورها على أيديهم لجواز أن تظهر على يد
الولي سرًّا، فإن من أصول معظم جماعتكم أن الأولياء لا يظهرون الكرامات ولا
يدعون بها وإنما تظهر سرًّا وراء ستور ويتخصص بالاطلاع عليها آحاد الناس،
ويكون ظهورها سرًّا مستمرًّا بحيث يلتحق بحكم المعتاد، فإذا ظهر نبي وتحدى
بمعجزة جاز أن تكون مما اعتاده أولياء عصره من الكرامات، فلا يتحقق في حقه
خرق العادة، فكيف السبيل إلى تصديقه مع عدم تحقق خرق العوائد في حقه؟
وأيضًا تكرر الكرامة يلحقها بالمعتاد في حق الأولياء، وذلك يصدهم عن
تصحيح النظر في المعجزة إذا ظهر نبي في زمنهم.
وقال في الجواب: لأئمتنا وجهان: (الأول) منع توالي الكرامات واستمرارها
حتى تصير في حكم العوائد، وإنما يجوز ظهورها على وجه لا تصير عادة،فلا يلزم
ما ذكروه، و (الثاني) - وهو لمعظم أئمتنا - قالوا: إنه يجوز توالي الكرامات على
وجه الاختفاء بحيث لا يظهر ولا يشيع ولا يعتاد؛ لئلا تخرج الكرامات عن كونها
كرامات [١] ثم قالوا: الكرامة وإن توالت على الولي حتى ألفها واعتادها فلا يخرجه
ذلك عن طريق الرشاد ووجه السداد في النظر إذا لاحت له المعجزة، إن
وافقه التوفيق، وإن تعداه التوفيق سلب الطريق ولم يكن بولي على التحقيق.
والمعجزة تتميز عمن تكررت عليه الكرامات بالإظهار والإشاعة والتحدي
ودعوى النبوة، فإذا تميزت الكرامة عن المعجزة لم ينسد باب الطريق إلى معرفة
النبي.
قال العلامة السبكي: ومن تمام الكلام في ذلك أن أهل القبلة متفقون على أن
الكرامات لا تظهر على أيدي الفسقة الفجرة [٢] وإنما تظهر على المتمسكين بطاعة الله
عزَّ وجل، وبهذا لاح أن الطريق إلى معرفة الأنبياء لا ينسد، فإن الولي بتوفيق الله
تعالى ينقاد للنبي إذا ظهرت المعجزة على يديه، ويقول معاشر الناس: هذا نبي
فأطيعوه، ويكون أول منقاد له ومؤمن به، قال: ثم ما ذكره الخصوم من اشتباه
النبي صلى الله عليه وسلم بغيره، فقد تبين لك وجه الانفصال عنه، وأنا أقول:
معاذ الله أن يتحدى نبي بكرامة تكررت على يد ولي، بل لا بد أن يأتي النبي بما لا
يوقعه الله على يد الولي، وإن جاز وقوعه فليس كل ما جاء في قضايا العقول واقعًا،
ولما كانت مرتبة النبي أعلى وأرفع من مرتبة الولي، كان الولي ممنوعًا مما يأتي
به النبي على وجه الإعجاز والتحدي أدبًا مع النبي. اهـ.
أقول: وللشيخ الأكبر في هذا المعنى كلام في الفتوحات اتّفق فيه مع السبكي،
وظاهر أن الكلام كله في التجويز العقلي، ولو كان ذلك واقعًا ما اختلف فيه، وقد
صرح السبكي بما قلنا من أنه ليس كل جائر واقعًا، ثم ذهب إلى أن هذه النظرية
ممنوعة بالنسبة لهذه الأمة؛ لأن نبيها خاتم الأنبياء، ومعلوم أن الكلام في النظريات
يكون عامًّا ومطردًا.
(الحجة الخامسة) قالوا: لو كان للكرامات أصل لكان أولى الناس بها
الصدر الأول، وهم صفوة الإسلام، والمفضلون على الخليقة بعد الأنبياء، عليهم
السلام. وقد أجاب السبكي عن هذه الحجة بسرد الكرامات المأثورة عن الصحابة
عليهم الرضوان بعد مقدمة أثبت فيها أن الكرامة لا يجوز إظهارها إلا لسبب ملزم
وأمر مهم، وبين لكل كرامة ذَكَرها سببًا في إظهارها , وإننا نعد لك تلك الكرامات
عند ذكرحجج الإثبات عدًّا، ونتبعها تأييدًا أو رَدًّا، وأما البحث في إخفاء الكرامة
فسنخصه ببحث نذكر فيه كلام السبكي وغيره.
هذا ما أورده السبكي من حجج منكري الكرامات، وهناك حجتان هما أقوى
من هذه الحجج كلها، وهما مخصوصتان في حال كون الكرامات أمورًا خارقة
لنواميس الكون، ومخالفة لسنن الله تعالى في الخلق، ولا يردان على من يقول: إن
الكرامة هي الأمر الخارق للعادة دون السنن الكونية، كالمكاشفة وشفاء المريض
بالرقى، ونحوهما مما له أسباب نفسية وسنن روحية اختص بها بعض العباد من
دون الكافة كما ألمعنا إلى هذا في بيان الخوارق والكرامات، ونلحق الحجتين بما
مضى في العدد وهما:
(الحجة السادسة) أن الله تعالى قد أقام نظام هذا الكون على سنن ثابتة
مطردة كما بيناه في المقالة الأولى من هذا البحث، وقال تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ
اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: ٤٣) وهذا نص قطعي لا
يعارَض إلا بقطعي مثله من مشاهدة - وهي إنما تكون حجة على المشاهِد فقط - أو
تواتر صحيح، والمثبتون يدعون هذا التواتر، وستعلم ما فيه.
(الحجة السابعة) : عقلية، وتقريرها أن غاية ما يقال في خوارق العادات أنها
ممكنة عقلاً بالإمكان الخاص، والممكن ما يكون وجوده بوجود علته، وعدمه لعدمها،
فمن قال: إن شيئًا يوجد بدون سبب، فقد أخرج الممكن عن معناه، وكذب المشاهد
من نظام الكون، فإن قيل: إن الله الذي جعل لكل شيء سببًا قادر على أن يوجد
الكرامة بدون سبب كما أوجد المعجزة التي ثبتت قطعًا، نقول: نعم إنه قادر وأوجد
المعجزات على غير المعروف في نظام الكون، ولكن مثل هذا الأمر الذي جاء على
خلاف الأصل لا يقاس عليه، والسر في المعجزة ظاهر، فلا ينافي الحكمة والنظام
مجيئها بغير سبب، بل ذلك مما اقتضته الحكمة، ومن فوائده تقرير أن النبوة لا
تنال بالاكتساب , ولا يتوصل إلي آيتها بالأسباب، فإن قيل: إن الحكمة في الكرامة
في معنى الحكمة في المعجزة، نقول: كلا، فقد كان كلما طال الأمد على أمة بعد
بعثة رسول فيها، يرسل الله تعالى إليها رسولاً آخر، فلا يحتاج إلى كرامة الولي
لإذعان النفوس وخضوعها لسلطان الدين، وأما خاتم النبيين فإن معجزته باقية إلى
آخر الزمان، ومهما منحُ الأولياء من الكرامات لا يُمنحون مثل القرآن، وكيف
يحتاج القرآن وما تواتر من حالة النبي التي كانت من أعظم الخوارق وأظهرها إلى
التعضيد بخارقة يجب سترها؟ هذا ملخص الحجة وما يقال فيها، وإذا أمكن إثبات
الكرامات بدليل قطعي كالتواتر الصحيح، أو النص القرآني الصريح، فهناك حجة
الإثبات الناهضة التي تدع كل حجة على الإنكار داحضة، والموعد لبيان هذا
الجزء التالي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))