للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


عاقبة الحرب
ومكانة بريطانية العظمى منها

كتبنا في أول العهد بالحرب مقالة نشرت في (ج ١٢م١٧) الذي صدر في
آخر ذي الحجة سنة ١٣٣٢ بينَّا فيها من استعداد الفريقين المتقاتلين ومن مقاصدها
ما ظهر لنا بعد سنتين أنه أصح من كل ما نشر في الصحف مخالفًا له. وقد رأينا
أن نعيد أواخر تلك المقالة للمقارنة بينه وبين كلام حديث العهد، نشر في جريدة
التيمس، وهذا نص عبارتنا في تلك المقالة:
(فجملة القول في المجموعين المتقاتلين أن إنكلترة وفرنسة وروسية
وبلجيكة والصرب والجبل الأسود أكثر من ألمانية والنمسة والعثمانية رجالاً ومالاً
وأساطيل بحرية وهوائية، ولكن ألمانية وحدها أعلى منهن استعدادًا ونظامًا، ولولا
الأسطول الإنكليزي لرجحت على الجميع رجحانًا ظاهرًا، بل لأمكنها أن تحارب
أوربة كلها وتنتصر عليها.
بيد أن هذا السبق في الاستعداد ليس مما ينتظم في سلك الخوارق والآيات بل
يمكن لدول الأحلاف أن يلحقوها به إذا عجزت في أول العهد عن بطشة فاصلة في
فرنسة. أما إذا وقف مدها عند تدويخ بلجيكة، والاستيلاء عليها وعلى بضع
ولايات من شمال فرنسة وجانب من بولاندة الروسية، فما بعد المد إلا الجزر، فإذا
أمكن للحلفاء أن يزيدوا عدد جندهم ويمدوه بما لم تستطع هي مثله عاد لهم الرجحان
عليها في البر، كما سبق لهم الرجحان عليها من قبل في البحر.
فمحل الرجاء للحلفاء إنما هو التغلب بالكثرة بقاعدة قول الشاعر العربي:
ولست بالأكثر منهم حصًى ... وإنما العزة للكاثر

أما هذا المدد الذي يكون به الرجحان البري فلا يُرجى إلا من قِبَل بريطانية
العُظمى؛ لأن الفرنسيس قد بذلوا كل ما في وسعهم، والروس-وإن كانوا أكثر
عددًا- لا يجدون من الذخائر والسلاح ولا من الضباط ما يمكنهم من تجنيد العدد
الذي تسمح لهم به كثرتهم، والإنكليز وحدهم هم القادرون على مضاعفة جنودهم،
وعلى إيجاد ما يحتاجون إليه من السلاح والذخيرة؛ لكثرة معاملهم وعمالهم ومالهم،
وليس عندهم جندية إجبارية تستغرق العمال، وتوقف حركة الأعمال، وإنما يعز
عليهم التعجيل بإيجاد ضباط أكفاء لجيش كبير يجددون تنظيمه تجديدًا، ولكن الإنكليز
أهل صبر وأناة، فما لا يدركونه في سنة يرضون بأن يدركوه في سنين، وتاريخهم
مُرة أخلاقهم في ذلك. وقد قدر لورد كتشنر ناظر الحربية القائم بتجهيز الجيوش
الإنكليزية مدة هذه الحرب بثلاث سنين.
تبين لنا مما تقدم ما يراه كل الواقفين على الحقائق من أن هذه الحرب ليست إلا
المظهر الأجلى للتنازع على السيادة والنفوذ والاستعلاء في الأرض بين الإنكليز
وأبناء عمهم الألمان، وسائر الدول تبع لهما في عللها ومعلولاتها، ومقدماتها
ونتيجتها.
دع البحث في المقدمات فقد انتهى أمرها، وسيحكم التاريخ حكمه العادل فيها،
وأما النتيجة فهي أن السيادة العُليا في الغرب والشرق ستكون لإنكلترة أو لألمانية
لا محالة، ويكون أحلافهما تبعًا لهما، فتكون لإنكلترة إذا فازت هي وأحلافها
بالنصر التام؛ لأنهم لن ينالوا ذلك إلا بها، ولا تنتهي الحرب إلا وقد انتهكت قواهن
من دونها، واستحدثت هي من القوة فوق ما كان لها؛ إذ شرعت بتأليف قوة برية
لم يكن لها مثلها في وقت من الأوقات، كما أنها تزيد الأسطول قوة على قوة،
وحينئذ تكون أعظم الدول ربحًا وأقلهن خسارة، وإذا كان من بواكر هذا الربح
مصر وقبرص والبصرة ومعظم مستعمرات ألمانية في إفريقية أو جميعها كما هو
المنتظر فكيف تكون أواخره؟
وأما إذا كان النصر التام لألمانية وأحلافها فقد طالما لهجت الجرائد الإنكليزية
والفرنسية وغيرها بأن ألمانيا حينئذ تجعل أوروبة كلها تحت سيطرتها، وتنتزع
منها جميع مستعمراتها، وأنها بذلك تسود العالم كله، ولعلنا نعود إلى تفصيل القول
في نتيجة الحرب على كل تقدير، بقدر ما تسمح به المراقبة الرسمية على الصحف
ونلم في ذلك بأماني الشرقيين عامة والمسلمين خاصة [١] .
هذا ما كتبناه منذ سنين وعدة أشهر، وأما ما جاء في جريدة التيمس مؤيدًا له
فهو ما نشر في جزء المقتطف الذي صدر في آخر ديسمبر من السنة الماضية
الموافق ٥ صفر الماضي، وهذا نصه بحروفه إلا ما غيرته المطبعة من تأنيث
أسماء الدول وأوربة بالتاء:
***
رأي الإنكليز في عاقبة الحرب
إن الألمان لجأوا إلى الدفاع بعد الهجوم في كل الميادين تقريبًا والحلفاء
يفوقونهم في كل شيء عددًا ومادّة ما عدا القوة العقلية، وفي يدهم زمام البحار فهم
يضيقون على الألمان تضييقًا لا يضعفه علم ولا تقوى على احتماله حمية وطنية
مهما عظمت. وما من دولة محايدة يُؤْبَه لها إلا وهي تفضل الانضمام إليهم.
وستكون العاقبة لنا حتمًا، ولكنها قد لا تزال بعيدة، فإن ألمانية لم تُقهر حتى الآن.
تجنبت بوارجها القتال قبل أن يُقضى عليها. نعم: أُقفلت أسواق المسكونة في
وجهها وأوصدت أبواب البحار أمام سفائنها؛ وقد حدث مثل ذلك لنابليون بونابرت
في معركة الطرف الأعز، ولكنه بقي في أوج مجده وبقيت ملوك الأرض تخطب
وُدّه وتتسابق إلى نيل رضاه.
والإنسان يعيش في البر لا في البحر والدولة البرية التي تتسلط على نصف
أوربة وتمتد سلطتها من البلجيك إلى الأناضول لا يمكن إذلالها بقوة بحرية؛ لأنها
لا تزال تستورد ما تحتاج إليه من البلدان الواسعة التي تحت سطوتها.
ولا مُشاحة في أن إيصاد البحار دون ألمانية قد أضر بها كثيرًا ولكن الضربة
القاضية لا تكون إلا في البر. هذا ما حدث في الماضي وما سيحدث في المستقبل
(المقتطف: وقد مثلت ذلك مجلة لندن بصورة وقف فيها الجنرال جوفر الفرنسوي
أمام أمير البحر جاليوك الإنكليزي وقال: نِعِمَّا ما فعلت، ولكن الضربة القاضية
تكون في البر لا في البحر- كما ترى في الصورة التالية) [٢] .
ولقد أخطأنا في إلقاء اعتمادنا كله على قوتنا البحرية وإهمالنا لقواتنا البرية
فكنا كالخِراف أمام الذئاب لمَّا ذهبنا لمحاربة ألمانية في فرنسا؛ لأننا اعتدنا الراحة
والرفاهة فأسأنا إلى أنفسنا وإلى أوروبة كلها بإهمالنا قوتنا البرية.
وسبيلنا الآن أن نعلم أن قوة ألمانية الحربية لم تضعف حتى الآن ولا دليل
على أنها لا تستطيع مواصلة الحرب وإمداد جنودها بالرجال والسلاح سنة أخرى أو
سنتين.
من المحتمل أن قيادة جيوش الألمان جعلت منذ الربيع الماضي تُخفي عدد
قتلاهم وجَرحاهم ولا تذكر إلا القليل منه حالَمَا رأت أننا نعنى بذلك ونبني عليه
أحكامنا. ولها غرض آخر وهو أن لا يعلم الشعب الألماني ما حل برجاله. ومع
ذلك فإنها لم ترسل إلى ميدان القتال حتى الآن إلا القليل من مُجندي سنة ١٩١٧، ولم
ترسل أحدًا من مجندي سنة ١٩١٨. وهي تستطيع أن تجند كل سنة نحو نصف
مليون من الشبان. وكثيرون من الجرحى يُشفون ويعودون إلى ميادين القتال. وقد
يكون عندها الآن مليونان من الرجال المستعدين لحمل السلاح وإنجاد الجنود
المقاتلة.
ولا جِدال في أنها خسرت هي والنمسا خسارة فادحة في الصيف الماضي،
ولكن خسارتهما هذه لا تستلزم أن يطرحا سلاحهما حالاً ويطلبا الصلح ناهيك عن
أن التزامهما خطة الدفاع تقلل خسارتهما من الرجال وتمد أجل الحرب كثيرًا.
فلا ينبغي لنا أن نتوانى بل يجب علينا أن نزيد همة وإقدامًا ونوالي الهجوم
نحن وحلفاؤنا ونُكثر من سبك المدافع والقنابل وإعداد الجنود ونستعين بكل رجال
الإمبراطورية البريطانية. وما دامت حكومتنا قد أقرت التجنيد الجبري، ووزعت
إدارة الأعمال على الأكْفَاء من الرجال فلا يهمنا بعد الآن من يدخل الوزارة أو من
يخرج منها.
وستنتهي هذه الحرب حينما تتأكد ألمانية أنها تخسر كثيرًا بإطالتها ولا تستفيد
شيئًا منها، ولكن ما من أحد يعلم متى يكون ذلك. من المرجح أن أُولي الأمر في
ألمانيا علموا الآن هذه الحقيقة ولكن يصعب عليهم أن يجاهروا بها قبلما تدور الدائرة
على قُوادهم في معركة كبيرة فاصلة لا سيما وأن الشعب الألماني قد استهوي وأُقنع
أن الفوز في يده فيصعب عليه أن يصدق الآن ما يناقض ذلك) .
(المقتطف)
واستطرد الكاتب إلى ما يجب على الأمة الإنكليزية فِعله بعد أن يعقد النصر
للحلفاء فقال:
إن الحرب ستنتهي يومًا ما فكيف يكون حالنا حينئذ؟ إذا اعتبرنا قوانا البرية
والبحرية وخيرات بلداننا فسنصير أعظم دولة حربية في المسكونة، ونكون مُعتمد
حلفائنا ونمتلك ما مساحته مليون ميل مربع من مستعمرات الألمان، ويكون عندنا
جيش محنَّك من الجنود والضباط يعد بالملايين، ويزيد تفوقنا البحري عما كان قبل
الحرب، وتتحقق الأمم كلها أن إمبراطوريتنا مرتبطة بعضها ببعض، عراها لا
تنفصم، وشعوبها لا تُقهر، وفِعالها خليق بماضيها المجيد.
ولقد كان ضعفنا العسكري شوكًا في جنب جنودنا في السنوات الأخيرة وهو
من أكبر الأسباب لنشوب هذه الحرب إلا أن ذلك قد مضى وانقضى. ولكننا قد
نخسر كل ما اكتسبناه الآن إذا قامت فينا وزارة تطلب أن نطبع سيوفنا سككًا
ورماحنا مناجل قبل أن يحين الزمان الصالح لذلك. فيجب علينا أن نكون على حذر
مدة خمسين سنة إلى أن تزول هذه الحرب وما أثرته في النفوس ويعود الأمن
والسلام إلى نصابيهما.
وعلينا أن نحذر الغرور الخمول؛ لئلا نضيِّع ثمار الظَّفَر، فقد أُعطينا زعامة
حلفائنا فصارت زعامة أوروبة لنا بحق مكتسب، فلا ينبغي لنا أن نحل محل ألمانية
فنكون قوة حربية مستبدة مثلها؛ لأننا أصحاب البوارج والرجال والأموال ونتوخى
التفوق الحربي على غيرنا. بل يجب أن يكون غرضنا النفع العام وخدمة نوع
الإنسان. أما البحر فيجب أن يبقى لنا التفوق فيه، وأما البر فيجب أن يكون عندنا
من القوة ما يكفي لحماية ثغورنا وبلداننا مهما اختلفت تصاريف الزمان. ولا نخدعنّ
أنفسنا بأن القوة البحرية كافية وحدها كما فعلنا فيما مضى.
يجب أن نمرن شبابنا كلهم على استعمال السلاح، لا لكي يضرموا نار الحرب
به بل لكي يمنعوا إضطرامها ويحملوا كل أملاكنا ومستعمراتنا ويحفظوا تاريخ
أسلافهم المجيد.
والفوز في الحروب والتغلب على المكارم مغروسان في نفوسنا حتى إن
جنودنا الذين دارت الدائرة عليهم في أول الحرب واضطروا أن يعودوا القهقرى أمام
العدو لم يكن يخطر لهم أن يتفكروا إلا بأن الفوز سيكون لهم أخيرًا، وقد قامت هذه
العزائم كل مدة الحرب وستبقى أشرف ميراث نورِّثه لذريتنا من بعدنا) .
(المقتطف)
هذا ولم نكد ننتهي من كتابة هذه السطور حتى طير إلينا البرق أن ألمانية
عزمت أن تجعل بلادها كلها معملاً للأسلحة والذخائر الحربية أو أن تحسب البلاد
كلها محلاًّ تجاريًّا كبيرًا وتستخدم كل ما في بلادها من الأيدي العاملة ومعدات العمل
لخدمة الجيش، وأن لا تكتفي باستخدام الرجال والأسرى بل تستخدم النساء أيضًا،
ويقال: إنها عزمت على تجنيدهن أيضًا. وأن إنكلترة قررت إنشاء إدارة للتموين
يرأسه رجل مطلق التصرف يحق له أن يرغم الناس على الاقتصاد، وأنها حظرت
على السكان إتلاف المواد الغذائية واستعمال السُّكَّر في الكماليات، وطحن الدقيق
على الأسلوب الذي يزيل منه المادة السمراء فتقل تغذيته. اهـ ما نقلناه عن
المقتطف من ترجمته وتعليقه.
ومَن قابل ما نقله عن جريدة التيمس التي هي أعظم الجرائد الإنكليزية مكانة
ومعرفة بما قلناه في أول العهد بالحرب في شأن ظَفَر إنكلترة وحلفائها يجده شيئًا
واحدًا.