للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مدرسة جمعية شمس الإسلام في الفيوم

أنشأت جمعية شمس الإسلام عدة مدارس ولم يحتفل بشيء منها احتفالاً
عموميًّا إلا مدرسة فرع الفيوم. نبت هذا الفرع من عهد قريب كما يعلم قراء المنار
ولكنه نما نموًّا حسنًا وأثمر ثمرًا قريبًا بهمة أعضاء مجلس إدارته الأخيار واجتهاد
سائر أفراده الأبرار. وقد كانوا من مدة عقدوا اجتماعًا حضره صاحب السعادة مدير
الفيوم الهمام وكثير من الأعيان وجمعوا بالاكتتاب مبلغًا لشراء أدوات المدرسة وتلا
ذلك التأسيس. وفي يوم الجمعة الماضي كان الاحتفال بافتتاح المدرسة فزين بناؤها
بالرايات والأعلام وما جاءت الساعة التاسعة صباحًا حتى غص المكان بالمدعوين
من أهل العلم والوجاهة ومأموري الحكومة وبعض رؤساء وأعضاء فروع الجمعية
في سائر البلاد , وابتدئ الاحتفال بتلاوة آي القرآن الكريم وفاقًا لسنة الجمعية في
كل أعمالها , ثم لحن التلامذة أنشودة مناسبة للمقام مسك ختامها الدعاء لمولانا أمير
المؤمنين السلطان الأعظم عبد الحميد خان ومولانا العباس عزيز مصر المعظم. ثم
تقدم أحدهم إلى بهرة الحلقة فحيا الحاضرين بتحية الإسلام فقالوا جميعا: وعليكم
السلام. وأنشد أبياتًا في الحث على التربية والتعليم وإعانة المدرسة وتلاه ثانٍ
وثالث فعلا مثل فعله فصفق لهم القوم تصفيق الاستحسان , وأقبل بعدهم تلميذان
فحيا وسلما ثم تحاورا محاورة لطيفة موضوعها تفضيل التعليم والكون في المدرسة
على البطالة واللعب فأحسنا الأداء وصفق لهما الحاضرون.
ثم قام العاجز كاتب هذه السطور فألقى خطابًا مطولاً في وجه الحاجة إلى
التربية والتعليم لسعادة الدنيا والآخرة , وأننا لا نظفر بفائدتهما إلا إذا كانا على
الطريقة الدينية التي هي أقرب الطرق للغاية المقصودة. ثم رغب سعادة رئيس
الجمعية على حضرة العالم الفاضل والخطيب المفوَّه أحمد لطفي أفندي السيد وكيل
النيابة في محكمة الفيوم في أن يقول شيئًا فأجاب الدعوة وحقق الرغيبة وألقي خطابًا
وجيزًا أنبأ عن أفكار عالية وآراء سامية وتدقيق في فلسفة الأخلاق والآداب ,
والقطب الذي كان يدور عليه الكلام أن العلم يجب أن يطلب لتكميل النفس لا
لتحصيل الرزق وابتغاء عرض الدنيا لأن طلب العلم لهذا الغرض الخسيس إهانة له ,
ومن الفوائد التي اشتمل عليها خطابه قوله نقلاً عن أحد فلاسفة الإنكليز: إن حب
الذات هو علة لجميع الفضائل , وقد شرح هذا الكلام شرحًا وجيزًا ومثل له بالحب
وبين أن الإنسان لا يمكن أن يحب أحدًا إلا إذا كان في ذلك الحب فائدة لنفسه , وأن
قول بعض الناس: إنني أحب فلانًا لوجه الله، غير صحيح لأنهم يقصدون به أنني
أحبه لغير سبب ولا فائدة تعود على نفسي , وبعد ما أتم كلامه انبرى هذا الفقير
فأثنى عليه بما هو أهله , ثم أوضحت من كلامه ما تراءى لي أنه يعلو على بعض
الأفهام فقلت ما ملخصه:
المشهور عند علماء الأخلاق أن حب الذات علة العلل لجميع الرذائل , وقد
سكتوا على هذا القول إلا المحققين فإنهم قالوا: إنه علة العلل لجميع الفضائل أيضًا
يكون علة للفضائل إذا كان واقفًا عند حد الاعتدال ومتى خرج عنه إلى إفراط أو
تفريط تولّدت منه الرذائل. ومن المعروف عن الحكماء من عهد اليونان إلى اليوم
أن الإنسان لم يحب إلا نفسه وما كان له اتصال بها أو لها فائدة منه؛ فالوالد يجب
ولده لأنه بضعة منه ويتوهم أن في بقاءه بقاء له في الجملة , والولد يحب والده لأنه
هو منه ولولاه لما وجد ولأنه تعاهده بالتربية والتغذية حتى نما وشب , ويحب
الإنسان صديقه لأنه يأنس به ويطمئن إليه ويستعين به على مهماته , ويحب أستاذه
لأنه يهذبه ويكمله , ويحب وطنه لأنه ينسب إليه فيشرف بشرفه ويهان بإهانته إلخ
وكل حب يكون سببه شرعيًّا وعلته مرضية لله تعالى يطلق عليه عند الصوفية
الحب في الله أو الحب لوجه الله أي للوجه الذي شرعه ويرتضيه لا أن معناه أنه
حب لغير علة ولا فائدة كما يتوهم بعض العامة , وربما أقسم أحدهم الأيمان المغلظة
بأنه يحب فلانًا لوجه الله لا لعلة مطلقًا. وكل من يفهم معنى الإنسان يمكنه أن
يستفتي نفسه في هذا الحب وهي تفتيه بأنه لا وجود له وأن مدعيه كاذب وهذا هو
الذي عناه بالنفي الخطيب الفاضل.
ثم خطب بعض أفراد الجمعية فحث الناس على مساعدة الجمعية وتعضيدها
في عملها , وتلاه تلامذة المدرسة بإعادة الترنم والأنشودة اللطيفة.
ثم وقف هذا الفقير منشئ المنار ثالثة , وتضرع إلى الله عز وجل بأن يؤيد
بالنصر والتوفيق مولانا الخليفة والسلطان الأعظم أمير المؤمنين عبد الحميد الثاني ,
وأن يؤيد عزيز مصر عباس باشا حلمي الثاني ويوفقه لما فيه سعادة هذه البلاد.
وأن يمطر سحائب الرحمة على مؤسسي هذه الجمعية النافعة , ويأخذ بأيدي القائمين
بشئونها. وختم الاحتفال كما بدئ بتلاوة القرآن العزيز , ثم وقف سعادة الرئيس
العام فأثنى على فرع الفيوم وشكر لهم هذه الهمة والغيرة الملية ولمن حضر
الاحتفال عنايتهم بحضوره وانفض الجمع.