للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تمثيل القصص أو التياترو

(س١) من الشيخ محمد نجيب التونتاري الأستاذ المدرس بالمدرسة الشمسية
بروسيا.
بسم الله تعالى
حضرة الأستاذ العلامة السيد الرشيد مولانا: محمد رشيد رضا - سلمه الله -
وأدام فيضه. أرجوكم حل هذه المسألة الآتية، ببيان حكمها الشرعي بيانًا فلسفيًّا،
بسبكها في القالب العصري؛ لكي يؤثر في الجميع، ولا يرتاب أحد في حكمها،
لا زلتم مرشدين ومأجورين، وهو أن النابتة العصرية بيننا، أنشؤوا في هذه الأيام
تياترو مليًّا ببلدة قزان، مثلوا فيه القصص الغرامية، فحضرت الممثلات المسلمات
فيما بينهم، وقد أنكر ذلك العلماء، وعدوه من الملاهي المحرمة، ونحن وإن لم
ننكر فائدة التمثيل، من حيث كونه عبرة وعظة، ودرسًا تاريخيًّا مليًّا.
ولكن لا يمكننا أن نكابر في مضراته المحسوسة، من ابتذال النساء، ورقصهن
مع الرجال مما ينافي الآداب الإسلامية، ويهيج الشهوات البهيمية، وقد قرر
العلماء أن المجموع الذي يتضمن المحذور، يكون محذورًا لا محالة، وأن درء
المفاسد يقدم على جلب المصالح، فبناء على ذلك، أظن أنه يجب النهي والانتهاء عن
ذلك، نعم إن سائر مجالسنا ربما لا تخلو من ضرر أيضًا، فإن مجالس العلماء بيننا
قلما تخلو من فضول الكلام، بل من الشتم والغيبة والبهتان، تلك الأمور المحرمة
قطعًا، ولكن إذ اعتادوها، أصبحوا لا يرون فيها بأسًا، ويجري الأمر من غير نكير،
وعسى أنها تصلح بصلاح العلماء، ولو بعد أمد بعيد - إن شاء الله تعالى- وقد
أورد الأستاذ الوجدي هذه المسألة في دائرة المعارف، وبسط القول في حكمها،
ولكني أحب أن أراها في صفحات المنار، بأظهر مجاليها والله الموفق.
(ج) (الحلال بَيِّن، والحرام بَيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من
الناس) كما ورد في الحديث، وهذه المشتبهات هي التي يسأل عنها ويستفتى فيها.
وما جعل هذه المسألة من قبيل المشتبهات، إلا ما يعبرون عنه بروح العصر، وهو
انفعال نفوس المتعلمين على الطريقة الجديدة، ومن يقلدونهم بجمال مدنية أوروبا،
وتوجهها إلى تقليد الأوروبيين في كل ما يسهل التقليد فيه، وأي شيء أسهل من
التقليد في الزينة، والزخرف، واللهو، واللعب؟
نهى القرآن نهيًا صريحًا عن إبداء النساء زينتهن لغير بعولتهن أو آبائهن،
وغيرهم من المحارم، فهل يشتبه بعد هذا في إبداء الزينة مع ما هو شر منها، وهو
الرقص مع الأجانب، ومطارحتهم الغرام، وتمثيل معاملتهم معاملة الأزواج تارة،
والأخدان تارة أخرى؟ لا محل للتردد في تحريم هذا العمل، وتحريم التعاون عليه،
والمساعدة لأهله، بل وفي إقرارهم عليه والسكوت عن إنكاره عليهم. ولا حاجة
إلى البحث في مفاسده فإنها بديهية. ولكن المفتونين بالتقليد يستحبون ترك هذه
الآداب الإسلامية، والحكم بأن المحافظة عليها ضارة بالمسلمين؛ لأنها تحرمهم من
منافع تمثيل القصص التي هي أنفع منها. وينقسم هؤلاء إلى قسمين:
(الأول) المارقون من الدين؛ الذين يودُّون لو يمرق منه سائر المسلمين،
فهؤلاء يهزؤون بمن يخالفهم في كل ما يسمونه تمدنًا، وإن كان مما يشكو منه
عقلاء وفلاسفة أئمتهم الأوروبيين، فهم كما قال الشاعر:
عُمي القلوب عموا عن كل فائدة ... لأنهم كفروا بالله تقليدا
وقد كثر عددهم في الترك وهم يكثرون في مصر، ولا يمكن إقناع هؤلاء
بشيء من طريق الدين، فالحلال والحرام عندهم سيان، وإنما يمكن إقناع أذكيائهم
الذين يقدرون جنسية الدين قدرها؛ بأن كذا ضار بالأمة أو نافع لها في سياستها،
ومصالحها الاجتماعية.
(الثاني) المؤمنون بأصل الدين، الراغبون في التوفيق بينه وبين المدنية
الحديثة؛ بالتساهل في بعض أحكامه والتأويل لبعض نصوصه، كما فعل أهل
الكتب الدينية من كل أمة، في كل زمان يغلب عليه روح خاص، يسري في
الكبراء والخواص، وهؤلاء هم الذين يحاولون الموازنة، بين منافع (التياترو)
ومضاره التي يعترفون بأن أهمها هتك النساء المسلمات لصيانة الحجاب،
ومخالفتهن للنصوص الصريحة في الكتاب، وهؤلاء يسهل إقناعهم بالدلائل الدينية
والعقلية جميعًا.
هؤلاء هم الذين يقولون: إننا لا نرتاب في عصيان المرأة؛ بإبداء خفي زينتها
في المتمثَّل (ملهى التمثيل) ورقصها مع الرجال، ولا في عصيان من يغريها بذلك،
ولكن التمثيل الذي يوجد فيه العاصيات والعاصون لله عمل نافع في نفسه،
فالمعصية فيه قاصرة على أهله، ولا حرج على المؤمنين في شهوده؛ بنية الاستفادة
من الغرض والمقصد منه، دون نية الإسعاد على الوسيلة المحرمة، كما أنه لا
حرج على من يشاهد الصور والتماثيل، وإن كان صانعوها آثمين في عملهم.
ولعل هذا أقوى ما نبين به شبهتهم في شهود التمثيل، وما هو بالذي يقنع
الفقيه فيفتي بنفي الحرج؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح عند التعارض.
فكيف تباح المفسدة اليقينية لأجل مصلحة وهمية؟ إن أمكن إثبات حصرها في
التمثيل، فلا سبيل إلى إثبات معارضتها لمنع المسلمات من هتك حرمة الشرع
والخروج عن أدب الدين؛ إذ يمكن أن يكون هذا التمثيل المفيد من الرجال خاصة،
وإن كان لا بد من وجود النساء، فيمكن استخدام غير المسلمات فيه كما يفعلون في
مصر، وهؤلاء النساء غير مكلفات بفروع الشريعة عند الحنفية ومَنْ وافقهم، ولا
يحرم النظر إليهن بغير سوء، أو يمكن للنساء المسلمات فيه أن لا يبدين زينتهن إلا
ما ظهر منها، وهو الوجه والكفان، وأن لا يرقصن مع الرجال، ولا يأتين بمنكر
آخر معهم، فالحرص على إتيانهن في المتمثل بكل ما يأتي به غير المسلمات، لا
يمكن أن يكون لأجل المصلحة المزعومة، التي بنينا هذا الإلزام على التسليم بها
جدلاً.
فثبت أن الغرض من ذلك تغذية الشهوة واتباع الهوى؛ تقليدًا للأوروبيين في
شيء فيه إثم لكم ولهم، ومنافع لهم لا لكم؛ لأنهم جروا في هذا التمثيل على جعل
لهوهم ولعبهم الذي لا خروج فيه عن عاداتهم وآدابهم المُقَومَة لشعوبهم، مشتملاً على
بعض الفوائد والعبر، بعد الارتقاء في العلوم والآداب، وسائر مقومات الاجتماع، فإن
كنتم مقلديهم ولا بد، فاعفونا من التحريف والتأويل في الدين، فما أنتم إلا عون عليه
لأولئك المارقين.
وأما المارقون من الدين من حيث هو دين، الراضون به من حيث هو رابطة
اجتماعية كالجنس، واللغة. فيقال لهم: إن تحويل النساء عن الآداب، والعادات
الإسلامية اتباعًا وتقليدًا لغير المسلمين مبدأ لقطع الرابطة الإسلامية، وهدم هذه
الجنسية، فليس ضررها محصورًا في عصيان بعض النساء لأمر الله، وجرأتهن
على انتهاك محارمه؛ إذ يستحيل أن لا تعصي امرأة من الأمة ربها قط، ولا شك
أن معصية بعضهن بما ذكر، لا تستلزم عصيان سائرهن به؛ إذ جعل كل امرأة
ممثلة محال، فلا خوف على الأمة من عصيان قليل من أفرادها، وإنما الخوف
عليها محصور في: الانتقال من طورإلى طور؛ بتأثير روح أجنبي غايته تحويل
المسلمين عن دينهم وجنسهم، وجذبهم إلى غيرهما بالإقناع والاستحسان، حتى
يكونوا غذاء له، ومادة تمده في نمائه وبقائه.
مَثَل المُقَلِد مع المُقَلَد: كَمَثَل الطفل مع الرجل، يحسب الطفل أن كل ما يفعله
الرجل مفيد له، إذا هو حاكاه فيه ساواه في فائدته منه، فإذا رآه يدخن حاول
التدخين مثله ما لم يمنعه مانع، وربما كان في التدخين هلاكه؛ إذ لا يحتمل بدنه من
سم الدخان ما يحتمله بدن الكبير المعتاد عليه، وما كل ما يفعله الرجل نافعًا له، وما
كل نافع له ينفع الطفل والدارج، ولا اليافع والشارخ، وقد تكون وسيلة المنفعة
الواحدة للرجل غير وسيلتها هي للطفل، فالتغذية منفعة ووسيلتها للطفل اللبن.
وللدارج الطعام اللطيف، وأما الرجل الأيِّد فإنه يستفيد من الطعام الكثيف من الغذاء
ما ربما يكون ممرضًا لمن دونه.
هكذا شأن الأمم الجاهلة الضعيفة مع الأمم العالمة القوية، تظن الأولى أن كل
ما تفعله الثانية مفيد لها فتحاول تقليدها فيه، غير شاعرة بأنها تقلد على غير بصيرة
تامة، ولا اكتناه للمقاصد البعيدة - وإنما الأمور بمقاصدها -، فتقع في الخسران
المبين من حيث ترجو الفلاح العظيم، كما نقلدهم الآن في الأزياء، والعادات التي
تزيد في ثروتهم، وتذهب بثروتنا. والآداب التي ترسخ بها جنسيتهم من حيث
تضعضع جنسيتنا، وأهم هذه العادات ما أدى إلى تركنا للدين، وإرخاء عنان التفرنج
للنساء في التهتك والخلاعة.
تدخل المرأة النصرانية المُتمثل ولا شعور عندها، بأنها قد أحدثت في جنسيتها
حدثًا، أو جاءت في دينها أمر فَرِيَّا. وأما المسلمة فإنها تشعر إذا فعلت ذلك، بأنها قد
انسلخت من قديم مرغوب عنه، ودخلت في جديد مرغوب فيه، ويسري هذا الشعور
منها وممن تربى مثل تربيتها إلى سائر نساء قومها، ورجالهم الذين يألفون عملها،
ويقرونه.
أنقلدهم بهذا؟ ولا نقلدهم في تربية النساء الدينية، التي نرى أقوى شعوبهم،
وأعزها، وأعلمها كالجرمانيين، والسكسونيين، هم أشد عناية بها ممن دونهم، بلغ
من رسوخ الشعور الديني عند نسائهم: أن المرأة التي يقذفها الفقر في مهواة البغاء،
تعلق صورة المسيح أو أمه في بيتها؛ لإحياء ذكرى الدين في قلبها، فإذا همت بالمنكر
فيه، حولت وجه الصورة إلى جهة الجدار استحياءً وأدبًا.
إذا صح أن هذا التياترو يفيد مسلمي روسيا في آدابهم وأخلاقهم، مثل ما يزعم
الإفرنج أنهم يستفيدون منه؛ فما هذه الفائدة المدعاة إلا من الأمور التي تسمى
تحسينية أو كمالية؛ أي: مما يطلب وراء الضروريات والحاجات التي لم يستكملوا
شيئًا منها. وقد دعاني إلى رؤية هذا التمثيل العربي بمصر بعض الفضلاء أول مقدمي
إليها، وبعد رؤيته سئلت عن فائدته. فقلت: إنني لم أر له فائدة وراء التسلية إلا
تمرين أسماع من يحضره من العوام على كلام عربي، هو وسط بين كلامهم وبين
العربية الفصحى. ثم رأيت أن بعض القصص لا تخلو من فائدة وعبرة.
أقول هذا وأنا أعلم أن المقلدين، يضيع عندهم البرهان إن خوطبوا به، فكيف
ولا سبيل إلى مخاطبتهم بما يفهمون. وقد كان يكون هذا مفيدًا، لو كان للمسلمين
زعماء عقلاء يدبرون أمرهم، ويديرون بالرأي والروية مصالحهم، ولكنهم أضحوا
فوضى، لا سراة لهم إلا أننا نرجو الخير من بعض العلماء وأصحاب الصحف.
فنسأل الله أن يوفقهم لخير الإرشاد، وينفع بهم العباد.