للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تقريظ المطبوعات

(اللص والقاضي)
عن محمد بن مقاتل الماسقوري قاضي الري قال: كان محمد بن الحسين
يكثر الإدلاج إلى بساتينه فيصلي الصبح، ثم يعود إلى منزله إذا ارتفعت الشمس
وعلا النهار، قال محمد بن مقاتل فسألته عن ذلك، قال: بلغني في حديث عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (حبب إلي الصلاة في الحيطان)
وذلك أن أهل اليمن يسمون البستان الحائط، قال محمد بن الحسين: فخرجت
إلى حائط لأصلي فيه الفجر؛ رغبة في الثواب والأجر، فعارضني لص جريء
القلب، خفيف الوثب في يده خنجر كلسان الكلب، ماء المنايا تجول على فرنده،
والآجال تحول في حده، فضرب يده إلى صدري، وَمَكَّنَ الخنجر من نحري،
وقال لي بفصاحة لسان وجراءة جنان: انزع ثيابك واحفظ إهابك، ولا تكثر
كلامك، تلاق حمامك ودع عنك اللوم، وكثرة الخطاب، فلا بد من نزع الثياب.
فقلت له: يا سبحان الله، أنا شيخ من شيوخ البلد، وقاض من قضاة المسلمين،
يُسمع كلامي ولا تُرد أحكامي، ومع ذلك فإني من نقلة حديث رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - منذ أربعين سنة، أما تستحي من الله أن يراك حيث نهاك. فقال:
يا سبحان الله، أنت أيضًا أما تراني شابًّا ملء بدني أروق الناظر وأملأ الخاطر
وآوي الكهوف والغيران، وأشرب القيعان والغدران، وأسلك مخوف المسالك،
وألقي بيدي في المهالك، ومع ذلك فإني وجل من السلطان، مشرد عن الأهل
والأوطان، وأخشى أن أعثر بواحد مثلك وأتركه يمشي إلى منزل رحب، وعيش رطب، وأبقى أنا هنا أكابد التعب، وأناصب النصب، وأنشأ اللص يقول:
تُري عينيك ما لم تَرَ إياه ... كلانا عالم بالترهات
قال القاضي: أراك شابًّا فاضلاً ولصًّا عاقلاً ذا وجه صبيح ولسان فصيح،
ومنظر وشارة، وبراعة وعبارة. قال اللص: هو كما تذكر، وفوق ما تنشر. قال
القاضي: فهل لك إلى خصلة تعقبك أجرًا، وتكسبك شكرًا، ولا تهتك مني سترًا؟
ومع ذلك فإني مسلم الثياب إليك، ومتوفد بعدها عليك، قال اللص: وما هذه
الخصلة؟ قال القاضي: تمضي معي إلى البستان، فأتوارى بالجدران، وأسلم إليك
الثياب، وتمضي على المسار والمحاب. قال اللص: سبحان الله! تشهد لي بالعقل
وتخاطبني بالجهل ويحك، من يؤمِّنني منك أن يكون لك في البستان غلامان جلدان
علجان، ذوا سواعد شديدة، وقلوب غير رعديدة، يشداني وثاقا، ويسلماني إلى
السلطان، فيحكم في آراءه، ويقضي علي بما شاءه، قال له القاضي: لعمري، إنه
من لم يفكر في العواقب فليس له الدهر بصاحب، وخليق بالرجل من كان السلطان له
مراصدًا، وحقيق بأعمال الحيل من كان لهذا الشأن قاصدًا، وسبيل العاقل أن لا
يغتر بعدوه؛ بل يكون منه على حذر؛ ولكن لا حذر من قدر، ولكن أحلف لك ألية
مسلم، وجهد مقسم، أني لا أوقع بك مكرًا، ولا أضمر لك غدرًا.
قال له اللص: لعمري، لقد حسّنت عبارتك ونمّقتها، وخشّنت إشارتك
وطبقتها، ونثرت خيرك على فخ ضيرك، وقد قيل في المثل السائر على ألسنة
العرب: (أنجز حر ما وعد) (أدرك الأسد قبل أن يلتقي على الفريسة لحياه ولا
يعجبك من عدو حسن محياه) ، وأنشد
لا تخدش وجه الحبيب، فإنا ... قد كشفناه، قبل كشفك عنه
واطلعنا عليه والمتولي ... قطع أذن العيار، أعير منه
ألم يزعم القاضي أنه كتب الحديث زمانا، ولقي فيه كهولاً وشبانا، حتى فاز
ببكره وعونه، وحاز منه معنى متونه وعيونه، قال القاضي: أجل. قال اللص:
فأي شيء كتبت في هذا المثل الذي ضربت لك فيه المثل، وأعملت الحيل؟ قال
القاضي: ما يحضرني في هذا المقام الحرج حديث أسنده، ولا خبر أورده، فقد
قطعت هيبتك كلامي، وصدعت قبضتك عظامي، فلساني كليل، وجناني عليل
وخاطري نافر، ولبي طائر، قال اللص: فليسكن لبك، وليطمئن قلبك، اسمع ما
أقول، وتكون بثيابك حتى لا تذهب ثيابك إلا بالفوائد. قال القاضي: هات. قال
اللص: حدثني أبي عن جدي عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال، قال:
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمين المكره لا يلزمه فإن حلف وحنث فلا شيء
عليه) وأنت إن حلفت حلفت مكرهًا، وإن حنثت فلا شيء عليك، انزع ثيابك.
قال القاضي: يا هذا قد أعيتني مضاة جنانك، وذرابة لسانك، وأخذك عَلَيَّ الحجج
من كل وجه وجانب، أتيت بألفاظ كأنها لسع العقارب، أقم ههنا، حتى أمشي إلى
البستان، وأتوارى بالجدران، وأنزع ثيابي هذه، وأدفعها إلى صبي غير بالغ، تنتفع
بها أنت ولا أتهتك أنا، ولا تجري على الصبي حكومة؛ لصغر سنه وضعف متنه،
قال اللص: يا إنسان، قد أطلت المناظرة، وأكثرت المحاورة، ونحن على طريق
ذي غرر، ومكان صعب وعر، وهذه المراوغة لا تنتج لك نفعا، وأنت لا تستطيع
لما أرومه منك دفعا، ومع هذا فتزعم أنك من أهل العلم والرواية، والفهم والدراية،
ثم تبتدع وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الشريعة
شريعتي، والسنة سنتي، فمن ابتدع في شريعتي وسنتي فعليه لعنة الله) قال
القاضي: يا رجل، وهذا من البدع. قال اللص: اللصوصية بنيَّة بدعة، انزع ثيابك، فقد أوسعت من ساعة مجالك، ولم أشدد عقالك، حياء من حسن
عبارتك، وفقه بلاغتك، وتقلبك في المناظرة، وصبرك تحت المخاطرة. فنزع
القاضي ثيابه ودفعها إليه، وأبقى السراويل. فقال اللص: انزع السراويل؛
كي تتم الخلعة. قال القاضي: يا هذا دع عنك هذا الاغتنام، وامض بسلام، ففيما
أخذت كفاية، وخل السراويل فإنها لي ستر ووقاية، لا سيما وهذه صلاة الفجر قد
أزف حضورها وأخاف تفوتني فأصليها في غير وقتها، وقد قصدت أن أفوز بها
في مكان يحبط وزري، ويضاعف أجري، ومتى منعتني من ذلك، كنت كما
قال الشاعر:
إن الغراب وكان يمشي مشية ... فيما مضى من سالف الأحوال
فأضل مشيته وأخطأ مشيها ... فلذاك كنوه أبا المرقال
قال اللص: القاضي -أيده الله تعالى- يرجع إلى خلعة غير هذه، أحسن منها
منظرا، وأجود خطرا، وأنا لا أملك سواها، ومتى لم تكن السراويل في جملتها،
ذهب حسنها، وقل ثمنها لا سيما والتكة مليحة وسيمة، ولها مقدار وقيمة، فدع
ضرب الأمثال واقنع عن ترداد المقال، ما دامت الحاجة ماسة إلى السروال. ثم
أنشد:
دع عنك ضربك سائر الأمثال ... واسمع، إذا ما شئت فصل مقالي
لا تطلبن مني الخلاص، فإنني ... أُفتي متى ما جئتني بسؤال
ولأنت إن أبصرتني ذا ... قول، وعلم كامل وفعال
جارت عليه يد الليالي فإنني ... أبغي المعاش بصارم ونصال
فالموت في ضنك المواقف دون ... أن ألقى الرجال بذلة التسآل
والعلم ليس برافع أربابه ... أولا، فقد مسه على البقال
ثم قال: ألم يقل القاضي أنه يتفقه في الدين، ويتصرف في فتاوى المسلمين؟
قال القاضي أجل. قال اللص: فمن صاحبك من أئمة الفقهاء؟ قال القاضي:
صاحبي محمد بن إدريس الشافعي، قال اللص: أسمع هذا وتكون بالسراويل،
حتى لا تذهب عنك السراويل إلا بالفوائد؟ قال القاضي: أجل. يا لها من نادرة، ما
أغربها، وحكاية ما أعجبها، قال: حدثني أبي عن جدي عن محمد بن إدريس
يرفعه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة العريان جائزة، ولا
إعادة عليه) تأول في ذلك غرقى البحر، إذا سلموا إلى الساحل، فنزع القاضي
السراويل، وقال خذها وأنت أشبه بالقضاء مني، وأنا أشبه باللصوصية منك، يا
من درس على أخذ ثيابي موطأ مالك وكتاب المزني. ومدَّ يده؛ ليدفعه إليه فرأى
الخاتم في إصبعه اليمنى فقال: انزع الخاتم. فقال: إن هذا اليوم ما رأيت أنحس
منه صباحا، ولا أقل نجاحا، ويحك ما أشرهك وأرغبك، وأشد طلبك وكلبك،
دع هذا الخاتم، فإنه عارية معي، وأنا خرجت ونسيته في إصبعي، فلا تلزمني
غرامته.
قال اللص: العارية غير مضمونة ما لم يقع فيها شرط عندي، ومع ذلك أفلم
يزعم القاضي أنه شافعي؟ قال: بلى. قال اللص: فلم تختمت في اليمنى.
قال القاضي: فأنا أعتقد ولاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله
وجهه - وتفضيله؛ على كل المسلمين من غير طعن على السلف الراشدين،
وهذا في الأصول اعتقادي، وعلى مذهب الشافعي في الفروع اعتمادي، فأخذ اللص
في رد مذهب الرفض، وجرت بينهما في ذلك مناظرة طويلة، رويناها بهذا
الإسناد، انقطع فيها القاضي، وقال بعد أن نزع الخاتم ليسلمه إليه: خذ يا فقيه، يا
متكلم، يا أصولي، يا شاعر، يا لص. اهـ (من طبقات الشافعية الكبرى) .
***
(شرح عقيدة السفاريني)
للشيخ محمد بن أحمد السفاريني الأثري الحنبلي (رحمه الله تعالى) عقيدة
منظومة اسمها: (الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية) بلغني أن الشيخ حسن
الطويل (عليه الرحمة) ، قال لما اطلع عليها ما معناه: إن هذه أول عقيدة
إسلامية اطلعت عليها. ولناظمها شرح مطول عليها سماه (لوائح الأنوار البهية
وسواطع الأسرار الأثرية) .
جمع فيه المؤلف أقوال السلف والخلف، ومذاهب الفرق في مسائل الاعتقاد،
وبين رجحان مذهب السلف على غيره، مؤيدًا ذلك بالدلائل النقلية، وكذا العقلية،
فيما يستدل على مثله بالعقل، واقتبس جل تحقيقاته فيه من كلام الإمامين الجليلين:
شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم، عليهما الرحمة والرضوان، فجاء
كتابًا حافل الري، جامعًا لما لم يجمعه غيره من المأثور والمروي، كثير الفوائد، جم
الأوابد والشوارد، لا يكاد يستغني عنه طالب السعة والتحقيق في العقائد الإسلامية،
أو يحيط بما في كتب ابن تيمية وابن قيم الجوزية. نعم إنه ينكر عليه كثرة الروايات
والأقوال المأثورة في أشراط الساعة، ونحوها من المسائل التي ليست من العقائد
الدينية، ومنها ما لا يصح له سند، ولكن من يعلم أنه لا يجب عليه أن يعتقد ما لا
يقوم عليه البرهان، لا يضره إيراد ذلك، وقد ينفعه الاطلاع على تلك الأقوال،
فيستخرج من مجموعها ما يحق الحق ويبطل الباطل.
وجملة القول: إن هذا الكتاب لا يستغني عنه بشيء من كتب العقائد التي
يتداولها طلاب العلم، وكلها من وضع المتكلمين الذين جروا على طريقة فلاسفة
اليونان، ليس فيها بيان لمذهب السلف يجلي حقيقته، ويوضح طريقته، بل فيها ما
يشعر بأن مذهب السلف هو التمسك بالظواهر من غير فهم ثاقب، ولا علم راسخ،
وأن الخلف أعلم منهم، وهيهات هيهات لذلك، بل السلف أفهم، وأعلم، وأحكم، وما
خالف المتكلمون فيه السلف فهو جهل مبين، أو نزغات شياطين، وبمثل هذا الكتاب
تعرف ذلك.
رغب في نشر هذا الكتاب بعض محبي العلم والدين؛ من العرب الكرام
المخلصين، فأرسل إلينا نسخة خطية منه، فطبعنا له عنها عددًا معينًا، جعله وقفًا
لله - تعالى - يوزع على طلاب العلم السلفيين في بلاد مختلفة، وطبعنا منه على
نفقتنا طائفة من النسخ زيادة عن النسخ الموقوفة، بإذن الطابع الواقف، وهي تباع
بمكتبة المنار بشارع درب الجماميز بثمن قليل بالنسبة حجم الكتاب، وحسن ورقه
وطبعه.
جعل الكتاب جزأين، صفحات الأول ٣٨٨ والثاني ٤٤٨، ووضعنا له فهرسًا
مرتبًا على حروف المعجم؛ لتسهيل مراجعة فوائده الكثيرة المطوية في مباحثه
المختلفة، وجدولاً للخطأ والصواب، فدخل ذلك مع ترجمة المؤلف في ٣٨ صفحة
فمجموع صفحات الكتاب ٨٦٤ ورقة كورق المنار، وثمن النسخة منه غير مجلدة
عشرون قرشًا صحيحًا، ما عدا أجرة البريد.
***
(الوجيز في القانون الجنائي)
عمر بك لطفي من أشهر علماء القوانين في هذه الديار، أتقنها علمًا وتعليمًا
وعملاً، فقد كان مدرسًا بمدرسة الحقوق، ووكيلاً لها زمنًا طويلا، والآن تحسبه
مدرس شرف فيها، وهو الآن يشتغل بالمحاماة وبتدريس القانون الجنائي بمدرسة
البوليس.
وقد ألف في هذه الأيام كتابًا في القانون الجنائي سماه (الوجيز) ، فحسبنا في
تقريظه أن نقول: إنه من تأليفه، وفي الدلالة على وجه الحاجة إليه إلحاح طلاب
المدرستين الحقوق والبوليس عليه، بطلبه وإيداعه ما ألقاه من الدروس عليه.
طبع الجزء الأول من الكتاب على ورق جيد، فكان ٣٧٨ صفحة، وثمن
النسخة منه ثلاثون قرشا، وهو يباع في إدارة مجلة المجلات العربية وفي المكاتب
الشهيرة.
***
(لطائف السمر في سكان الزهرة والقمر)
ألَّف ميخائيل أفندي بن أنطون الطقال الحلبي كتابًا سماه (لطائف السمر في
سكان الزهرة والقمر، أو الغاية في البداءة والنهاية) وهو كتاب خيالي الوضع،
أدبي المغزى، من أحسن ما كتب أهل هذا العصر عبارة وموضوعا، تقرأ
الصفحات منه، ولا تكاد تعثر بشيء من الأغلاط التي اعتادها كتابنا عامة، وأهل
الصحف منهم خاصة، ولا تقف عند معنى ينكره الأدب الصحيح، أو يمجه الذوق
السليم، وفي بعض فصوله كثير من مفردات اللغة التي يحتاج إليها الكتَّاب، وهم في
غفلة عنها؛ لقلة بحثهم واطلاعهم في الغالب. وقد طبعه وجعل ثمنه ريالا، وإننا
نورد لك فصلاً منه في تربية الطفل قال:
الفصل الأول من الباب الرابع
في الطلق والولادة وتربية الطفولة
قال والدي: كل امرأة عندنا (أي في الزهرة) خصوف [١] لا تجر [٢] ولدها،
وهي تأكل، وتشرب، وتضحك، ولا تشكو، ولا تئن، ولا تتوجع شكوى وأنين
وتوجع بني آدم، بل تضع كأنها تمغص مغصًا ليس بشديد، لا تحتاج إلى قابلة؛
لأنها لا يهددها خطر، إننا لا نُظائر [٣] لأننا نقول من رضع من غير أمه فقد تخلق
بأخلاقها، إن المرأة بعد أن تحجم للمولود: أي بعد أن ترضعه أول رضعة،
ترضعه في كل ساعة حترتين (والحترة الرضعة الواحدة) ، حتى إذا بلغ الشهر
السادس من عمره، أرضعته في ثلاث ساعات مرة، فإذا زادت منعت، وعدت
جاهلة بين نسائنا، وهذا يحدث قليلاً أو لا يحدث، لا تعجوه [٤] ولا تجدعه [٥] . إن
المرضع عندنا لا تأفل [٦] والرضيع لا يحصأ [٧] .
لا تضع الأم ولدها في سرير يهز، فقد عرفنا أنه تنجم عنه أخطار عظمية،
وربما كان سبب هلاك الطفل منها، إن الاهتزاز الشديد يؤثر في مجموع عصبه،
ويحدث له القيء، وغير ذلك من الأمراض، هذا إذا كان معافى. فإذا كان عليلاً
متألمًا من حالة عصبية دماغية، أو معدية، أو غيرها، ازداد تألمًا بالهز، وتمكنت
منه العلل.
وقد علم أن كثيرين أصيبوا منه بالشوص والحول، هذا إذا لم يسقط الطفل من
سريره؛ لأن في سقوطه الوبال عليه، ومن المعلوم أن الطفل إذا هزز سريره؛ لا
ينام في أول الأمر إلا بعد أن يأخذه دوار، وربما كان التهزيز يمدد منه الرقبة، ويلوي
الرأس، وفي كلا الأمرين خطر عظيم عليه.
تلفه والدته بلفائف من المرن، لا تقمطه قمطًا شديدا؛ لئلا يلوي الساقين
والقدمين والساعدين واليدين؛ ولئلا يضغط. تضعه في سرير ثابت، وتضع عليه
لحافًا من المرن، يمنعه من التحرك القوي.
لا تتركه وحده، ولا تقدم إليه ما يمتصه؛ ليلتهي به عن الرضاع، يخرج من
غرفته في كل يوم ثلاث مرات، إلى محل طيب الهواء نقيه، وبعد خروجه تفتح
النوافذ؛ ليبدل هواءها، غير أنه يحترز عليه من البرد والحر، لا تسلمه أمه إلى
أحد، ولا تتخذ له مربية؛ فإن الوالدة أحن على الولد من غيرها، وأشد انتباهًا إليه،
وأحرص عليه. لا تقبله، ولا يقبله أحد؛ لئلا تنتقل إليه حيوانات فم المقبل
الضارة. لا يضحك تضحيكًا شديدا؛ لئلا تغثى نفسه [٨] أو يغمى عليه، بل يترك
ليضحك حينما يشتهى ويريد ضحكًا طبيعيًّا.
لا تلاعبه أمه بخفضه ورفعه، ولا تقبض يده بيدها، وترفعه أو تجره. لا
تضغطه بضمه إلى صدرها، ولا تجعل ملاعبته إلا بقدر جسمه، لا بقدر جسمها.
إذا لاعبته وانزعج أو كاد، تركته حالا؛ ليستريح ويرتاح [٩] .
لا تطعمه إلا بعد أن يسن [١٠] وتقوى أضراسه وأنيابه معًا؛ فإن الأسنان وحدها
لا تستطيع طحن الطعام وتنعيمه، فإن أطعمته أصيب بعلة الأسنان المعروفة
عندكم تقريبا. وبعد الأسنان ونبات الأضراس وخروج الأنياب، تؤكله والدته أكلاً
خفيفًا لطيفا، لا يقاسي في مضغه تعبًا لئلا يبلعه. لا تطعمه إلا قليلاً حينما ترى
منه اشتهاء وإقبالاً على المطعم، فإذا آنست منه قلة في الاشتهاء، رفعت الطعام
وأخفته.
إذا أبصر شيئًا ضارًّا ولو قليلاً ورغب فيه منعته، واجتهدت في تحويل فكره
عنه، ونقله إلى غيره فينتقل. لا يسمع أصواتًا عالية مرتفعة على غرة، مزعجة
كانت أو غير مزعجة، ولا تعرض عليه المتحركات السريعة الانتقال والتغير؛ لئلا
تزيد في تحريك عينيه، ولا يحد أحد نظره إليه، ولا ينظره وهو قطوب عبوس؛
ليسكته ويسكنه بالإرهاب، بل يُسكن بالكلام بالرقيق، ويلهى بالمناغاة [١١] إذا كان
الصوت رخيما لا نبرة فيه، فإنه يأنس بهما، ويطيب خاطره. فإذا ربي هذه
التربية، فلا خوف عليه أن يقصع [١٢] بل ينمو قويًّا: صحيح الجسم، والعقل. إذا
أخذ في الكلام، قوَّمت أمه لسانه. إننا لا نعرف الرتة [١٣] واللثغة [١٤] واللكنة [١٥]
والفأفأة [١٦] والتمتمة [١٧] والرأرأة [١٨] واللجلجة [١٩] والخنخنة [٢٠] والمقمقة [٢١]
والهتهتة والهثهثة [٢٢] والتعتعة والثعثعة [٢٣] واللفف [٢٤] والليغ [٢٥] ولا نعرف
التبع [٢٦] .
إن الوالدة مؤاخذة بعيِّ ولدها، وحصره وفهاهته، فتنبهه على كل كلمة غير
فصيحة.
كلامنا فصيح بليغ، فكلنا لسن [٢٧] في بيان وتبيان [٢٨] اهـ.
***
(القواعد المنطقية)
كتاب مطول في علم المنطق، ألفه بالفرنسية (الأب تونجورجي اليسوعي) ،
ونقله إلى العربية (الخوري جرجس فرج صفير الماروني) متصرفًا بعض التصرف
في الترجمة، كما قال في مقدمته. وقد تفضل بإهداء الكتاب إلينا مع رقيم،
يرغِّب إلينا فيه بمطالعته وانتقاده، فمرت علينا شهور نرقب فيها فرص الفراغ
لذلك، فلم يسنح منها شيء يكفي لمطالعته كله أو بعضه مطالعة نقد، فرأينا
والشواغل عن مطالعة مثله تزداد، أن نجيل النظر فيه جولة عجلى، ونقرأ من بعض
فصوله جملاً، تسمح لنا بأن نحكم عليه حكمًا إجماليًّا، فرأينا أن الكتاب من أحسن ما
ألف وأفيده، وفيه من المباحث والفوائد ما لا يوجد في الكتب العربية المتداولة بين
المشتغلين بهذا العلم، وهو يخالفها في كثير من الاصطلاحات، والتعريفات،
والتقسيم، والترتيب، وفي هذه المخالفة من الفائدة زلزال الجمود على الكتب
المألوفة، وتحريك الذهن في مسائل العلم، وتعويده الجولان في المعاني، وإطماعه
في الإتيان بغير ما تلقاه من الكتب أو الأستاذين.
ورأيت في الترجمة ضعفًا، يحول دون الفهم في بعض المواضع، وغلطًا
واضحًا في العبارة كقوله في صـ ١٤٤ (لا يصح قولك، إما أنت جالس أو ماشي
لعدم المساواة في التقسيم؛ إذ قد يكون لا جالس ولا ماشي) . وقوله في ص ٣١
(ففي الشق الأول فإما أنه يعم الماهية) ، ومع هذا نقول: إن الكتاب يفيد كل من
يطالعه من أبناء العربية في هذا العلم، ولعل المترجم الفاضل، يُعنى عند طبعه
ثانية بتصحيح عبارته؛ لتكون الفائدة منه تامة. هذا وإن ثمن النسخة من الكتاب
٣ فرنكات، وهو يطلب من المطبعة المصرية بالإسكندرية.
***
(التقرير السنوي لمشيخة علماء الإسكندرية)
أرسلت إلينا هذه المشيخة تقريرها عن سنة ١٣٢٣ الدراسية، ولما نتمكن من
مطالعته، ولكننا أجلنا الطرف في بعض صفحاته، فإذا به قد وقف عند قوله: (وإني
لأرجو أن أقدم للعالم الإسلامي بعد أعوام قليلة من خيرة الشبان رجالا، تفتخر بهم
الأمة المصرية، وتقوم بها الحجة على الذين يزعمون أن التعليم الديني لا ينهض
بالأمم، ولا يصلح أن يشاد على دعائمه عرش المدنية، ولا أن يضم تحت راياته
مفاخر التقدم والارتقاء) اهـ فذكرني هذا القول بأمر كنت عنه ذاهلا، ذكرني
بأن من علماء مكة وأشرافها عالمًا يقيم الآن في بعض جزائر جاوة، أرسل ولدًا له؛
ليطلب العلم في الإسكندرية، لما قرأه في الصحف المصرية ومنها المنار من
تفضيل الطلب فيها على الطلب في الأزهر بالمراقبة والنظام والتدريج، فلم يقبله
الشيخ محمد شاكر واعتذر عن ذلك بعدم حفظه للقرآن، وهو عذر لا ينطبق على
قانون الأزهر؛ الذي تتبعه مشيخة الإسكندرية كسائر معاهد التعليم الديني في القطر،
وكل ما تفضل به مشيخة الإسكندرية الأزهر هو أنها تنفذ من هذا القانون ما لا
ينفذ فيه، فهذا الشرط الذي زاده الشيخ محمد شاكر على القانون، يقفل باب مشيخته
في وجوه (العالم الإسلامي) ؛ لأن الذين يحفظون جميع القرآن في أكثر أقطار هذا
العالم هم من العميان، أومن العلماء الذين يحفظونه في الكبر، ولا يرجى أن يرحل
أحد منهم إلى الإسكندرية؛ لطلب العلم. ولما كان الأزهر معهدًا للعالم الإسلامي،
وعلم واضع قانونه أن أكثر أقطار هذا العالم، لا يحفظون القرآن في الصغر، لم
يشترط في قبولهم بالأزهر أن يكونوا من الحافظين، بل لم يشترط في المبصر من
أهل القطر المصري، أن يكون حافظًا للقرآن كله.
فإن الشيخ شاكر يحب أن يمتاز طلاب العلم عنده بحفظ القرآن كله، فله أن
يكلفهم ذلك في مدة الطلب، وليس له أن يمنعهم من طلب علم الدين المفروض عليهم
لأنهم قصروا من قبل في حفظ القرآن الذي لم يفرض على الأعيان.
فهذا المنع من العلم لا يجيزه الشرع ولا القانون فيما نعلم، ولا ينطبق على
إرادة خدمة العالم الإسلامي بهذا التعليم الديني، إلا إذا أريد بالعالم الإسلامي مصر،
وكان هذا الإصلاح الخاص للذين أحدثوا في الإسلام نفسه وطنية، لم ينزل الله بها
من سلطان مستحسنًا عند مثل الشيخ شاكر، وقد يرجح هذا قوله في الرجال الذين
يريد أن يخرجهم (للعالم الإسلامي) ينهضون به، ويشيدون عرش المدنية على
دعائمه (تفتخر بهم الأمة المصرية) ولكن هذه الوطنية المموهة بكلمات الدين
والإسلام، يتبرأ منها دين الإسلام، وتنكرها قوانين المدنية عند جميع الأنام،
فأما الوطنية المعروفة عند الأمم التي قامت بالوطنية فهي عبارة عن اتحاد
المقيمين في وطن واحد، المختلفين في الملل والنحل، على ما يرقي شأنه،
ويزيد في عمرانه، وهذه الوطنية لا تعارض الإسلام الذي جعل المؤمنين إخوة،
يتعاونون على البر والتقوى، ويتعاطفون، ويتراحمون كأنهم أعضاء جسد
واحد، إن اختلفت أوطانهم وتناءت بلدانهم.
لا أطيل الكلام الآن في هذه المسألة، ولكنني أتمنى لو يقبل الشيخ شاكر هذا
الطالب المكي وغيره ممن عساه يقصد إلى الطلب في الإسكندرية، وأن لا يمزج
دعوته الدينية، بتلك النزعة المنكرة في الوطنية، وإلا فليجعل الدعوى على قدر
الدعوة، إن كانت مما لا بد منه، وإنني لأشد تمنيًا لو أعرف عذرًا معقولاً، لعدم
قبول غير المصريين أو الحافظين طلابًا للعلم الديني في مشيخة الإسكندرية.
وسنعود إلى قراءة التقرير وكتابة ما يبدو لنا في أمره أنه نافع إن شاء الله تعالى.
***
(البغاء أو خطر العهارة في القطر المصري)
ألف الدكتور بورتقاليس بك كتابًا باللغة الفرنسية، الذي سماه بهذا الاسم،
ونقله للغة العربية داود أفندي بركات رئيس تحرير جريدة الأهرام. المؤلف طبيب
أخصى في معالجة الأمراض الجلدية والزهري، وما يتعلق بذلك، والكتاب صحي
أدبي، يفهمه كل قارئ، وإننا نرى خير تقريظ له أن ننشر نبذًا منه، لعل
الذين تركوا الدين، فوقعوا في الأدواء التي تنشأ من الزنا، يعرفون الأخطار التي
تساورهم في آحادهم وفي ذريتهم، فيقل تهافتهم على هذه الفواحش المحرمة في كل
دين، على أنني أعتقد بأنه لا علاج لهذه المصائب العمرانية، والاجتماعية، إلا
التربية الدينية، وأن من يزعم أن الاقتناع بضرر المعاصي وحده، يعمل ما يعمل
الدين في الردع عنها، فهو من الجاهلين كما بينا ذلك بعض البيان في مقالة
(التعليم الديني) من هذا الجزء. قال المؤلف:
١٦
سبب المواصلة مع الغير مراقبات
إن العدوى تنتقل إلى الرجال الذين يخالطون النساء غير المراقبات انتقالاً
رائعاً، لا يماثله انتقاله إليهم من النساء الموضوعات تحت المراقبة.
فالرجال على وجه عام، والمتزوجون منهم على نوع خاص، يخالطون
العاهرات غير الموضوعات تحت المراقبة؛ أكثر من مخالطتهم العاهرات اللائى
يفحصهن الأطباء؛ وسبب ذلك أن الفريق الأول من العاهرات، يظهر بغير مظهره
أي بمظهر النساء النزيهات، إذ يقلن أن لهن أزواجًا وأولادا، وأنهن إنما يسلمن
أنفسهن، بعامل الحب والغرام والوجد والهيام، وأنهن لم يرتكبن هذا الخطأ إلا في
هذه المرة، ثم يتممن خدع الرجال بأنهن يتوسلن إليهم، بأن لا يبوحوا بسرهن، إلى
آخر ما هنالك من ضروب الخداع والنفاق.
فيصدِّق الرجال المخدوعون هذا الكلام، ويعتقدون صحة ما تقوله تلك
العاهرات، بل هم يفتخرون بالاختلاط بهن كأن الواحد منهم قد اكتشف كنزًا، وملك
أمرًا عزيزًا.
وبما أن تلك النساء الخادعات، لا يعتنين بأنفسهن كسواهن ممن يحترفن
حرفة البغاء علنا، فهن بحكم الطبيعة أقرب إلى العدوى، وأقدر على نقلها إلى كل
من يقترب منهن وهم يظنون أنهم عشاق، وأنهم محبوبون معشوقون. وإذا
أصيب المخدوع، وجاء يؤنب المرأة التي نقلت إليه العدوى، جاءته بألف حيلة
وخدعة، وقلبت دماغه، وكذبت حسه، وأظهرت طهارتها ونقاوتها فيصدق، فما
أضعف الرجل أمام المرأة، وما أصغر نفسه، وأقل إدراكه، وأخف عقله! !
١٨
مراقبة العاهرات
لا توجد في القاهرة مراقبة البوليس، ولا مراقبة الصحة، فالعاهرة حرة،
تلطخ بالأمراض من أصابته، وتنقضُّ على الناس انقضاض الوحش المفترس،
ومن لم يصدق، فليمر عند منتصف الليل بشارع كامل ولا سيما تحت القناطر.
مع أن هذه العاهرات، لو أنهن ارتكبن في بلادهن ربع ما يرتكبنه هنا من
مخالفة البوليس، ومخالفة قانون الصحة، لقبض عليهن سريعًا، فلا تسمع بهن
شفاعة، ولا يقبل رجاء، ولا تنفع رشوة، وبفضل ذلك كله، لا تجرؤ واحدة على
مخالفة القانون، ومن هربت من الكشف الطبي، وضعت تحت المراقبة الشديدة
على نوع أخص، فمع كل عاهر ورقة حمراء، تقضي عليها بأن تأتي إلى محل
الكشف في كل أسبوع مرة، وهي فوق ذلك موضوعة تحت المراقبة الشديدة، فهذه
التحوطات التي أسفرت عن نتائج حسنة جدًّا في أوربا لا وجود لها في القاهرة.
أما عاصية القانون: فهي العاهرة التي ترتكب خلسة واستراقا، ويعد من هذا
النوع النساء المتزوجات اللائى لهن أزواج وأولاد؛ اللائى يعشن في أحضان
عائلاتهن، والخياطات الفاسقات، والفاعلات، والمغنيات، والراقصات،
والخادمات، وكل من كان على شاكلتهن، وارتضى الفجور والاستسلام للزنا
والفسق، وبيع العرض بالمال.
فالحكومة لا تعرف هؤلاء، ولا تراقبهن، ولا تحمل منهن ورقة الكشف
الطبي؛ مع أنهن لا يفرقهن عن العاهرات والبغيات فارق؛ غير أن العاهرات لا
يسكنًّ منزل العائلة، ولا يكتمن أمرهن عن الجمهور، وعن الحكومة، ومصالح
الصحة، ويحملن الورقة الطبية التي تدل على احترافهن حرفة البغاء. أما تلك
العاصيات فإن لهن منازل عائلية يبتن فيها، ولا يحملن ورقة الصحة. أما من حيث
احتراف البغاء، والسعي وراء الرجال، واستثارة أميالهم، والتحكك بهم، فهن
والعاهرات سواء، وإذا قبض البوليس على واحدة منهن وهي متلبسة بالجناية،
أرسلها إلى الطبيب؛ ليكشف عليها.
ولقد قلت وأردد وأعيد الآن تكرارا: إن النسوة غير الخاضعات، هن أشد
خطرًا على الإنسانية من سواهن، ولا أخطئ إذا قلت: إن جميعهن مصابات
بالأدواء الزهرية على اختلاف أنواعها، وثلاثة أرباعهن في حالة من الإصابة شديدة
الخطر على الرجال، وشديدة العدوى لمن يختلط بهن.
وهذه المرتبة من النساء هي أيضا على نوعين: نوع عال، ونوع واطئ.
وقد لقبت مدام هنري تورو المرتبة الواطئة، بمرتبة الفعلة في هيأة الحب، وهي
محتقرة مهانة، مرذولة كثيرة الخطر؛ لأنها تسلم نفسها لمن عثر عليها دون تردد،
ولا إتمام نظر.
أما المرتبة العالية: فهي مع أنها محتقرة مرذولة كالمرتبة الأولى، إلا أنها أقل
خطرا؛ لأنها لا تسلم نفسها إلى من عثر عليها، أو حاول التوصل إليها، ولا
تطوف الشوارع للبحث عن صيد يقع في شراكها، ولكنها تتربع العربات،
وتعيش عيشة الأغنياء، وتشهد التمثيل في التياترات، ولا يزيد عشاقها على اثنين
أو ثلاثة؛ فلهذا لا تستطيع الواحدة منهن أن تبذر العدوى بين الجمهور، إذا كانت
مصابة بالأمراض، بل إن عدواها تقتصر أو تنحصر في محبيها، ومحبو مثل هذه
العاهرات هم الأغنياء وأصحاب الثروة، ولقد درج في القاهرة، أن يكون لكل شاب
غني حظية أو حبيبة، حتى يكون ذلك الشاب معدودًا في مصاف المتمدنين،
ويؤمره اللطفاء والظرفاء من الراقين والسامين.
والواحدة منهن تقول معجبة بنفسها أنها لا تسمح لأحد بأن يدنو منها
ويجامعها، إذا لم يدفع لها ٤٠ أو ٥٠ جنيها، فهن يحسبن لأنفسهن فضيلة غلو
السعر، وارتفاع الأجرة، لا حفظ العرض والعفة، فمثل هذا الطلب لا يجيبه إلا
العدد القليل من الجمهور، خلافًا لتلك البغيات بنات السوق والشارع، فإن الواحدة
منهن تسلم لأي كان عرضها، بما يكفي لدفع ثمن الخبر في يومها، أو ثمن الشرب
في ليلتها.
فإذا هن تمكن من الخلاص من يد البوليس دهرًا طويلا، فإن أكثرهن يقع في
قبضته؛ لأن الفقر يقضي عليهن بأن يطفن الشوارع ويتحرشن بهذا وذاك،
ويحرضن على الفسق والفجور كل مار، وكل سائر، فإذا نجون من يد البوليس مرة،
فإنهن لا ينجون من يده كل مرة.
عدد المصابين في سنة واحدة
من أنعم النظر قليلا في حال تلك العاهرات، وكثرة عددهن، وكثرة
المصابات منهن بالأمراض، وعرف أن الواحدة منهن، تسلم نفسها في كل ليلة لعدة
رجال، قد يكونون سليمين من الأمراض والأدواء، عرف أن عدد الرجال الذين
يصابون بأمراض أعضاء التناسل عظيم هائل، فإذا لم يصابوا يكون الفضل في ذلك
للمراقبة الطبية، وللتحوطات الصحية التي تنتشل الإنسانية من هوة بعيدة القرار،
وشر مستطير، لا يعرف أحد لولا وقاية الطب، ماذا يكون من ورائه على
الإنسانية كلها؟
فلهذا أرى أنه لا بد من مراقبة العاهرات في القاهرة، ولا أسلم قط بأن هذه
المراقبة غير ضرورية، بل لا يمكنني أن أقتنع وأسلم بأن الخطر ليس شديدًا على
الإنسانية، وليس مهددًا البلاد كلها.
وإذا ما خطر لي التأمل بإهمال المراقبة هنا جزعت؛ لعلمي ما وراء ذلك من
الخطر، والمصاب الجليل، والضربة الشديدة.
يؤخذ من إحصاء مدينة باريز، على أن متوسط عدد النساء اللائي يقبض عليهن
وهن مصابات بالأدواء هو ١١ امرأة في اليوم، من غير الخاضعات للمراقبة الطبية،
فإذا حسبت هذا على دورة العام كان عدد المصابات ٣٦٠٠ مصابة أو ٤٠٠٠
مصابة، قد أخرجتهن حكومة باريز من وسط الجمهور، وحجرت عليهن وعزلتهن
إلى أن يتم شفاؤهن، فإذا مكثن على معاطاة حرفتهن، ونقلن العدوى إلى
شخص واحد في كل يوم، كان عدد الذين يصابون منهم في كل عام مليونا و٦٤٠
ألف رجل.
فلماذا لا تكنس شوارع مصر كما تكنس باريس من هذه العاهرات، ولماذا لا
تعزل النساء الوطنيات، ولا تطرد من البلاد النساء الأجنبيات المريضات؟
بل لماذا لا تطهر شوارع المدن والحواضر من هذه المستودعات المخزونة
فيها الأمراض والأوصاب، وفساد العائلات، والأجساد، والسلالة.
سؤال أردده في نفسي، ولا أجد عليه جوابا، ولكني أعرف أن آلافًا من
النفوس تضيع الآن ضحية الإهمال، وليس من يزع الشر أو يرد المصيبة.
***
(جناية أوربا على نفسها وعلى العالم)
أهدي إلينا هذا الكتاب أو القصة منذ أشهر، فاستكبرنا الاسم، وما بعده من
الوصف وهو: (كتاب صحي عصري أدبي اجتماعي عمومي نسائي روائي)
وفهمنا من كلمة (روائي) أنه يبين فيه ما في هذه القصص، التي تسمى روايات
من الجناية على الآداب، كما فهمنا من كل كلمة قبلها نحو ذلك، وعزمنا على
مطالعة الكتاب قبل الكتابة عنه، فإذا هو قصة وضعية في بيان ضرر استعمال
المشد الحديدي، الذي يضغط به النساء أحشاءهن. وقد أحسن واضع القصة أحمد
أفندي فهمي فيما كتب، فجاء بالنزاهة والأدب في الغراميات، وأحسن في التنفير
عن المشد، وكان كلامه مؤثرًا يستعبر القارئ، ولكن الاسم أكبر من المسمى.
والقصة مطبوعة طبعًا حسنا، وهي تطلب من مكتبة المعارف بالفجالة، فنحث
القارئات قبل القارئين على مطالعتها.
***
(قاطع الحبل)
قصة من قصص (مسامرات الشعب) ، صدر منها جزءان، وهي مما اختاره
للترجمة نقولا أفندي رزق الله المعروف بأدبه وحسن ذوقه في الاختيار.
***
(الريحانة)
مجلة تاريخية أدبية قصصية، تصدر في منتصف كل شهر عربي،
لصاحبتها جميلة حافظ (صدر الجزء الأول منها في ١٥ المحرم، وقد جاء في
فاتحته ما يأتي:
أفتتح مجلتي الريحانة بسم الله، الذي خلق الرجل والمرأة من أصل واحد،
ووهبهما عقلاً جوهره واحد، وسوى بينهما في الحقوق، فقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: ٢٢٨) وأسأله تعالى أن يوفقني إلى القيام بما عهدته
إلى نفسي خير قيام.
(أمنيتي الوحيدة: أن تكون لحياتي ثمرة وغاية شريفتان في الوجود، لا أن
تكون حياة خمول وكسل، تنقضي بلا ثمرة، وجودها عدم وعدمها خير) إلخ.
هذه الكلمة من الكلم الطيب، لا يتدبرها عاقل، ويأخذ على نفسه الميثاق ليعلن
بها، إلا كانت حياته مباركة طيبة، وكان هو بها أسعد منه بكل ما يملك من عرض
الدنيا. هذه الكلمة ترفع من تربى تربية حسنة إلى مراتب الكمال، وتكون خير
مرب لمن قصر في تربيته الوالدون والمعلمون، وما كثر الذين يقدرونها قدرها في
أمة من الأمم، إلا وارتقى شأنها، وصلحت حالها، وكانت من أسعد الأمم لا يفضلها
إلا الأمة التي تسبقها في العمل بالكلمة. وإني لأرجو أن تكون هذه المجلة من أنفع
المجلات، برعاية منشئتها لكلمتها، وعنايتها بالعمل بها. ولنا أن نعد من آيات هذه
العناية، قولها في الجزء الثاني: (رأيت أن أساعد مشروع الجامعة بكل ما في
وسعي، فأنا من الآن أتبرع سنويا بكل ما يزيد عن مصروف المجلة من جنيه إلى
مائة، وما زاد عن المائة فيصرف في ترقية المجلة، بزيادة عدد صفحاتها،
وإصدارها مرتين في الشهر بدون زيادة في قيمة الاشتراك. وهذا التبرع يبقى- إن
شاء الله -ما بقيت المجلة، وبقي لها مشتركون) .
إننا لنشم من هذا القول عبير الإخلاص والصدق، ولكن رجاءنا في تحقق
أمنية الكاتبة المخلصة ضعيف؛ لأنها جعلت قيمة الاشتراك ثلاثين قرشا، وهي تكاد
لا تكفي لنفقات المجلة، على ما تعهد من قلة القارئات والقارئين، وكثرة مطل
المشتركين، إلا أن تصادف المجلة من يقدر نية منشئتها حق قدرها، وينتدبون
لمساعدتها على أمرها، وإننا ننصح لها بأن تزيد في قيمة الاشتراك الآن، فإن أهل
الوفاء لا يثقل على الواحد منهم دفع عشرة قروش، أو عشرين قرشًا في السنة،
وأهل المطل يثقل عليهم أداء القرش الواحد، فإن لم تقبل نصيحتنا الآن، فستقبلها
في يوم من الزمان.
***
(الجامعة الأسبوعية)
ارتحل فرح أفندي أنطون صاحب مجلة الجامعة الشهيرة إلى نيويورك،
وجعلها مقرًّا له، ومصدرًا للجامعة، ثم اشترك مع رشيد أفندي سمعان وهو من
التجار الميالين إلى السياسة؛ في إصدار جريدة يومية باسم (الجامعة) ، واختار أن
يجمعا من الجامعة اليومية أفضل مقالاتها وأخبارها كل أسبوع فى نسخة أسبوعية ذات
ثماني صفحات، وقد وافانا عدة نسخ من الجامعة الأسبوعية، فإذا هي من أحسن
الجرائد العربية تحريرًا، وأغزرها فائدة، وقيمة الاشتراك فيها عشرون فرنكًا.