للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


النسخ وأخبار الآحاد

وعَدنا في الجزء السابع بأن نبين رأينا في المناظرة التي دارت في المنار بين
الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي والشيخ صالح اليافعي، ورجونا أن يكون ذلك
في الجزء التاسع، (وكتب " السابع " غلطًا وصححناه في الجزء الثامن على أنه
غلط بديهي؛ إذ هو في الجزء السابع) . وقد عرض لنا من كثرة المواد ومن
الشواغل ما حال دون تحقق الرجاء بالتفصيل الذي كنا نريده، فرأينا أن نقول الآن
كلمة مجملة ونرجئ التفصيل المراد إلى جزء آخر، فتكون كلمتنا هذه كحكم
المحكمة بدون ذكر الأسباب التي يسمونها الحيثيات، وكلمتنا الموعود بها كبيان
حيثيات الحكم فنقول:
النسخ
قد سبق لنا القول بأن النسخ المصطلح عليه الذي هو محل النزاع، لم يرد به
نص في القرآن ولا في الحديث المرفوع، يعلم منه أن آية كذا أو حديث كذا قد نسخ
وبطل معناه أو ترك لفظه أو اللفظ والمعنى جميعًا، وما أورده اليافعي في تفسير
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (البقرة: ١٠٦) ليس نصًّا ولا ظاهرًا فيها بل الظاهر ما قاله
الأستاذ الإمام وجرى عليه الدكتور صدقي، ولكن الأستاذ كان يرى أن الظاهر في قوله
تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: ١٠١) في آيات القرآن خلافًا لما
قاله الدكتور فيها، وهي ليست نصًّا قاطعًا في هذا ولا ذاك، وقد ورد في كلام
الصحابة والتابعين وأئمة الفقه ما يدل على أن للنسخ الاصطلاحي أصلاً , ولكنه كما
قال اليافعي في بعض المواضع: إنه أعم من النسخ الذي عليه الأصوليون.
وإن نسخ حكم في الشريعة بحكم آخر هو كنسخ شريعة بشريعة أخرى معقول
المعنى، موافق لحكمة التشريع في انطباقها على مصالح الناس التي تختلف
باختلاف الزمان والأحوال، لا شبهة فيه على أصل الدين , وإن أكثر ما قاله العلماء
في نسخ أحكام القرآن بديهي البطلان، وما هو محل نظر منها قد جعله السيوطي
عشرين وغيره سبعًا، والصواب أنه لا يوجد في القرآن آيتان لا يتفق معنى
إحداهما مع معنى الأخرى، بحيث يقطع بالتعارض الذي لا يمكن التفصي منه إلا
بحمل إحداهما على النسخ المعروف عند الأصوليين. أما النسخ بالمعنى الذي يعم
التخصيص والتقييد وبيان المجمل فهو واقع في القرآن ونقول به.
وأما نسخ التلاوة فلم تظهر لنا حكمته، ولم يأت اليافعي ولا مَن قبله مِن
العلماء الذين اطلعنا على أقوالهم بحكمة مقنعة لمن كان مستقلاًّ في فهمه غير مقلد
فيه، لا سيما نسخ اللفظ مع بقاء حكمه.
وأما الدليل على وقوع ذلك فهو بعض الروايات عن الصحابة، وهي وإن
صحح مثل البخاري أسانيدها محل إشكال في متنها كأحاديث أخرى في الصحيحين
وغيرها، منها نص علماء هذا الشأن على عدها مشكلات وعدم الاهتداء إلى حل
معقول لها إلا الجزم بغلط الرواة فيها؛ كحديث شريك في المعراج عند البخاري،
وحديث (خلق الله التربة يوم السبت) الذي رفعه مسلم وغيرهما. وسنشير إلى
غير هذين الحديثين مما هو مشكل في الصحيحين قريبًا.
أحاديث الآحاد والدين
إن كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قول أو فعل أو
تقرير، يتعلق بأمر الدين على أنه منه فهو حجة على من ثبت عنده، يجب عليه
الإذعان لما يدل عليه، ولا يقال: إن شيئًا منه خاص بوقت دون وقت، أو قوم
دون قوم، أو شخص دون شخص من المكلفين إلا بدليل يُثْبِت ذلك. فإن عارض
هذا الحديث بعد ثبوته آية من القرآن أو حديث آخر أو دليل حسي أو عقلي، كان
الحكم في ذلك لما تقتضيه قواعد التعادل والترجيح والجمع والتأويل، وهي معروفة
في مواضعها. وقد قال المحدثون: إن من علامة كون الحديث موضوعًا؛ مخالفته
لنص القرآن، والمسائل القطعية في الدين، واليقينيات الحسية والعقلية. هذا إذا
كان الجمع بينه وبين القطعي أو التأويل متعذرًا.
ولم يقل أحد من سلف الأمة وأئمة الفقه: إن معرفة الدين تتوقف على
الإحاطة بجميع ما رواه المحدثون من الأحاديث ولا بأكثرها، ولم يكن الأئمة
الأربعة الذين يتبعهم أكثر المسلمين في الأحكام العملية مطَّلعين على ذلك كله، لا
سيما الإمام أبو حنيفة الذي لم يرحل في طلب الحديث للقاء الرواة المنتشرين في
بلاد الإسلام، ولم يكن الحديث مدونًا في الأسفار فيأخذه منها، وهو مع ذلك معترف
بإمامته واجتهاده عند أتباعه وغيرهم من أهل السنة. فما جرى عليه سلف الأمة
وخلَفها هو أن من بلغه حديث وثبت عنده، وجب عليه العمل به، ومن خالف
بعض الأحاديث لعدم ثبوتها عنده أو لعدم العلم بها فهو معذور، فالعمدة في الدين
كتاب الله تعالى في المرتبة الأولى والسنن العملية المتفق عليها في المرتبة الثانية،
وما ثبت من السنن وأحاديث الآحاد المختلف فيها رواية أو دلالة في الدرجة الثالثة،
ومن عمل بالمتفق عليه كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقربًا عند الله تعالى، كما نرى
بيان ذلك في ترجمة الإمام الغزالي من هذا الجزء.
أحاديث الآحاد تفيد اليقين أم الظن
ذكرت هذه المسألة أكثر من مرة في المنار، وقد حققنا في تفسير قوله تعالى:
{فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} (آل عمران: ١٧٣) أن للظن إطلاقين: أحدهما اعتقاد أن هذا
الشيء ثابت، وأنه يحتمل احتمالاً ضعيفًا أن لا يكون ثابتًا , وهذا هو الظن الذي جاء
في القرآن أنه {لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: ٣٦) . ثانيهما اعتقاد أن هذا
الشيء ثابت مع عدم ملاحظة الطرف المخالف. ولكن من غير برهان على منع
الطرف المخالف، وهذا قد يسمى في اللغة والشرع يقينًا وعلمًا. ولكنه لا يسمى
يقينًا عند علماء المنطق والكلام والفلسفة لأنهم يطلقون اليقين على مرتبة أعلى من
هذه المرتبة في العلم؛ وهي ثبوت الشيء بالبرهان، وثبوت امتناع مقابله. وراجع
التفصيل في التفسير (١ ص ٨٩٨ م ١١) .
فيُعلم مما حققناه أن بعض أخبار الآحاد يفيد العلم واليقين لغة وشرعًا وعادة،
وبعضها لا يفيد ذلك. ولكن لا يفيد شيء منها العلم البرهاني واليقين المنطقي،
والدكتور توفيق صدقي لا ينكر أن له من الأصحاب من لو أخبره بشيء يصدقه
ويطمئن قلبه لخبره، فلا يشك ولا يتردد فيه، كما أنه يصدق المؤذن في دخول
وقت الصلاة والفطر في هذه الأيام، لا يشك فيه ولا يتريث في العمل به. فهل هو
في هذا عامل بالظن الذي ذمه القرآن؟ لا لا. وقد صرح الأستاذ الإمام في الدرس
بأن الصحابة والتابعين كانوا موقنين بصدق الأحاديث التي عملوا بها عندما
سمعوها ممن رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يعقل أن يحدث مثل
الصديق أحدًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ويتردد السامع في صدقه.
ولا شك في أن كثيرًا من الأحاديث المروية في دواوين المحدثين المشهورة
تفيد هذا النوع من العلم واليقين، ولا يعقل أن يكون كل ما رواه المسلمون عن
النبي صلى الله عليه وسلم غير موثوق به؛ بل لا يعقل أن تكون أكثر روايات
التاريخ التي اتفق عليها المؤرخون كاذبة، فكيف يكون أكثر ما رواه المحدثون
واتفقوا على تصحيحه كاذبًا؛ وهم أشد تحريًا وضبطًا من المؤرخين. واحتمال خطأِ
بعض الرواة العدول ووقوع ذلك من بعضهم لا يمنع الثقة بكل ما يروونه. كما أن
مجرد تعديل المحدثين لهم، لا يقتضي قبول كل ما رووه بغير بحث ولا تمحيص.
فالجامعان الصحيحان البخاري ومسلم هما أصح كتب الحديث متنًا وسندًا؛
لشدة تحري الشيخين فيهما - رضي الله عنهما وجزاهما خيرًا - ومع هذا لم يتلقهما
المحدثون بالقبول تقليدًا لهما وثقة مجردة بهما، بل بحثوا ومحصوا وجرحوا بعض
رواتهما، وبينوا غلط بعض متونهما؛ كتغليط مسلم وغيره لرواية شريك عند
البخاري في حديث المعراج، وتغليطهم لمسلم في حديث خلق الله التربة يوم السبت
(وتقدم ذكرهما) وفي حديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وثلاث سجودات،
وفي حديث طلب أبي سفيان بعد إسلامه أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أُمَّ
حبيبة ويتخذ معاوية كاتبًا.
ومن دقق النظر في تاريخ رجال الصحيحين ورواية الشيخين عن المجروحين
منهم، يرى أكثرها في المتابعات التي يراد بها التقوية دون الأصول التي هي العمدة
في الاحتجاج. ثم إذا دقق النظر فيما أنكروه عليهما مما صححاه من الأحاديث،
يجد أن أقوالهما في لغالب أرجح من أقوال المنازعين لهما لا سيما البخاري، فإنه
أدق المحدثين في التصحيح. ولكنه ليس معصومًا من الغلط والخطأِ في الجرح
والتعديل.
وجملة القول في الصحيحين أن أكثر رواياتهما متفق عليها عند علماء الحديث
لا مجال للنزاع في متونها ولا في أسانيدها، والقليل منها مختلف فيه، وما من إمام
من أئمة الفقه إلا وهو مخالف لكثير منها. فإذا جاز رد الرواية التي صح سندها في
صلاة الكسوف؛ لمخالفتها لما جرى عليه العمل، وجاز ردُّ رواية خلق الله التربة
يوم السبت ... إلخ؛ لمخالفتها للآيات الناطقة بخلق السموات والأرض في ستة أيام
وللروايات الموافقة لذلك، فأَوْلى وأظهر أن يجوز ردُّ الروايات التي تتخذ شبهة
على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع شيء منه (كالروايات في نسخ
التلاوة) ، لا سيما لمن لم يجد لها تخريجًا يدفع الشبهة كالدكتور محمد توفيق صدقي
وأمثاله كثيرون.
ومثلها الرواية في سحر بعض اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم، ردها
الأستاذ الإمام، ولم يعجبه شيء مما قالوه في تأويلها؛ لأن نفس النبي صلى الله
عليه وسلم أعلى وأقوى من أن يكون لمن دونه تأثير فيها؛ ولأنها مؤيِّدة لقول الكفار:
{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: ٨) وهو ما كذبهم
الله فيه بقوله بعده: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الإسراء: ٤٨) .
ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع المشاهد؛ كرواية السؤال عن الشمس أين
تذهب بعد الغروب؟ والجواب عنه بأنها تذهب فتسجد تحت العرش وتستأذن الله
تعالى بالطلوع ... إلخ وقد سألنا عنه بعض أهل العلم من تونس ولما نجب عنه؛
لأننا لم نجد جوابًا مقنعًا للمستقل في الفهم. فالشمس طالعة في كل وقت لا تغيب
عن الأرض طرفة عين كما هو معلوم بالمشاهدة علمًا قطعيًّا لا شبهة فيه. فإذا قلنا:
إنها يصدق عليها مع ذلك أنها ساجدة تحت العرش؛ لأنها خاضعة لمشيئة الله تعالى؛
ولأن كل مخلوق هو تحت عرش الرحمن؛ إن لم تكن التحتية فيه حسية؛ لأن
الجهات أمور نسبية لا حقيقية فهي معنوية , إذا قلنا هذا أو إنه تمثيل لخضوعها في
طلوعها وغروبها وهو أقرب، فهل ينطبق على السؤال والجواب انطباقًا ظاهرًا لا
مراء فيه؟ اللهم لا. ولكن هذا النوع من الحديث على ندرته في الصحيح، قد
يخرج بعضه على أنه من باب الرأي في أمور العالم، والأنبياء لا تتوقف صحة
دعوتهم ونبوتهم على العلم بأمور المخلوقات على حقيقتها، ولم يقل أئمة الدين: إنهم
معصومون فيها، كما يدل عليه الحديث الصحيح في تأبير النخل. ولكن يستثنى
الإخبار عن عالم الغيب، فهم معصومون فيه.
أما الأحاديث المخالفة للقرآن في خبره أو معناه أو أي نوع من أنواع المخالفة
الحقيقية، فلا يمكن أن تكون صحيحة في الواقع، وإن وثَّق المحدثون رجالَ
أسانيدِها. ولكن يجب التدقيق في ذلك قبل الحكم به، فما رآه الدكتور محمد توفيق
صدقي من أن تحريم الأكل والشرب في أواني النقدين مخالف لآية إباحة الزينة
والطيبات، هو في غير محله؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم استنبط ذلك من قوله
تعالى في الآية التي قبل آية الزينة: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
المُسْرِفِينَ} (الأعراف: ٣١) فالأكل والشرب في أواني النقدين إسراف عظيم،
لا سيما بالنسبة إلى المسلمين في ذلك الزمان.
وكذلك تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، أخذه صلى الله عليه وسلم
من تحريم الجمع بين الأختين؛ لأن العلة فيهما واحدة، وكما أن تحريم الخمر التي
كانت في زمن التنزيل، يتضمن تحريم كل مسكر يستحدثه الناس إلى يوم القيامة.
كذلك يتضمن تحريم الجمع بين الأختين تحريم ما في معناه؛ كالجمع بين العمة
وبنت أخيها، فقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: ٢٤) لا يتناول
الجمع بينهما، على هذا فالحديث ليس مخالفًا له. ولكن الجمهور يعدونه مخصصًّا
للآية، وتخصيص السنة للقرآن جائز وواقع، فإن سماه بعضهم نسخًا فلا نعارضه
في التسمية، ونحن موافقون له في المعنى.
النبي صلى الله عليه وسلم مبين للقرآن بقوله وفعله، ويدخل في البيان
التفصيل والتخصيص والتقييد. ولكن لا يدخل فيه إبطال حكم من أحكامه، أو
نقض خبر من أخباره؛ ولذلك كان التحقيق أن السنة لا تنسخ القرآن. ثم إنه صلى
الله عليه وسلم شارع بإذن الله؛ ولذلك قال عندما سئل عن بعض المسائل: (لو قلت
نعم لوجبت) . ومن ذلك أنه حرم ما بين لابتي المدينة فجعلها كحرم مكة؛ لا يحل
صيدها، ولا يقطع شجرها، ولا يختلى خلاها. والحديث في الصحيحين وغيرهما،
وليس ناقضًا لشيء من القرآن ولا مخالفًا له. ومما يدل على أنه حرَّم المدينة من
قبل نفسه؛ أي: بغير وحي خاص أن العباس قال له: (إلا الإذخر) ، فقال: (إلا
الإذخر) فاستثنى الإذخر من قوله: لا يختلى خلاها. وهو نبات عطر لحاجتهم إلى
قطعه بمجرد طلب العباس. ولكن هذا النوع من التشريع قليل جدًّا وهو مختلف فيه،
وقيل: إن الله أعطاه ذلك. وقيل: لا. وليس هذا القول المجمل مما يتسع لتحقيق
ذلك.
هذا وإنَّ للإسلام أصولاً ومقاصد لا بد لكل مسلم منها؛ كالتوحيد وأركان
الإيمان وهي: الإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر والقدر , وهي
اعتقادات، وأركان الإسلام الخمسة , وهي أعمال بدنية، وأركان الأدب التي تجمعها
كلمة التقوى، واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق،
وكل ذلك مبين في القرآن والسنة العملية. فهذا ما يجب على كل مسلم أن يعلمه
ويعمل به.
وأما الأحاديث التي لم يجر عليها عمل جماعة المسلمين والسواد الأعظم من
أهل الصدر الأول، ولا كتبها الراشدون ولا غيرهم من الصحابة، ولا دعوا إليها
وإنما انفرد بها بعض الذين صرفوا همتهم إلى جمع الروايات، وحفظ الأخبار
والآثار، ففيها تفصيل ملخصه أنه لا يجب على كل مكلف البحث عنها. ولكن في
معرفتها مزيد علم، ومن عرف شيئًا منها وصح عنده متنًا وسندًا بلا معارض أقوى
منه، وجب عليه أن يقبله ويهتدي به.
نكتفي بهذه العجالة الآن، بل هي قد جاءت أطول مما كنا نبغي، ومتى
سنحت الفرصة نعود إلى بعض هذه المسائل بالبيان والتفصيل، وإلى غيرها مما
دار عليه كلام المتناظرين، وما لم يَدُر عليه مما يتعلق بالمقام؛ ككراهية النبي صلى
الله عليه وسلم لكثرة السؤال؛ لئلا تكثر التكاليف، واستلزام ذلك لكراهية أن يعلم
جميع الناس بما يجاب به بعض السائلين، ويكلفوا العمل به كما كلف السائل ذلك
لحاجته إليه أو عدم استلزامه , وما جرى عليه الصحابة في السكوت على ما يعلمون
من ذلك حتى يسألوا عنه، وانفراد الكثيرين منهم بالحديث الواحد، وقلة ما رواه
الجم الغفير. ولا نضرب لذلك موعدًا معينًا؛ لئلا نصد عن الوفاء به والله الموفق.