للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مبايعة شريف مكة وأميرها
على ملك العرب

جاء في جريدة القبلة التي صدرت بمكة في ثالث المحرم فاتحة هذا العام ما
نصه:
امتلأت قاعات قصر الديوان الهاشمي العالي صباح أمس بجماهير الأشراف
الكرام والعلماء الأعلام والأعيان العظام بحيث لم يبق في بلد الله الأمين ذو حيثية
ومكانة عالية إلا وحضر هذا الاجتماع الفخم ليعرضوا على جلالة سيدنا ومولانا
المعظم أمنية طالما تمنوا إظهارها من حيز القوة إلى حيز الفعل ألا وهي إقناع
جلالته بقبول بيعتهم له ملكًا على العرب ومرجعًا دينيًّا لهم ريثما يقر قرار العالم
الإسلامي على رأي يُجمعون عليه في شأن الخلافة الإسلامية.
ولما غصت أنحاء القصر العالي بحضرات الأعيان القادمين لهذا الغرض
تشرف بالمثول بين يدي جلالة سيدنا المعظم في غرفة أعماله الخاصة حضرة
العلامة الورع الشيخ عبد الله سراج رئيس علماء بيت الله الحرام وقاضي القضاة
ونائب رئيس الوكلاء الفخام وأنبأ جلالته بحضور هذه الجماهير لعرض بعض
المعروضات على مسامعه الكريمة، ولما شرّف جلالته قاعة الاستقبال الكبرى في
الديوان الهاشمي العالي استقبل رجال الأمة تلك الطلعة الهاشمية المقدسة بقلوب
طافحة بالمحبة والاحترام والإجلال والإعظام، ثم تمثل حضرة العلامة قاضي
القضاة بين يدي جلالته نائبًا عن وجوه الأمة كما هي عادته في مثل هذه المواقف
من القديم فعرض على جلالته الغرض من تشرف المجتمعين بالوقوف بين يديه
وأنهم قد كتبوا عريضة في هذا المعنى يريدون تلاوتها على مسامعه الشريفة فأجابه
جلالته بالكلمات الملوكية الآتية:
(إنني لم أكن أرى ضرورة شديدة لهذا العمل الذي جئتم من أجله؛ وذلك لما
أعلمه من نهوض بلادي بالأمر الذي نهضنا به وشدة إخلاصها له وعضها عليه
بالنواجذ، ولم تنحصر هذه العواطف في بلادنا وحدها بل إن لعرب الشام وعرب
العراق مثل ما لأهل بلادنا من الحرص على استرداد مجدهم وجمع كلمتهم. وقد
وردت لي الرسائل من أعيانهم بذلك، على أن هذا الأمر الذي جئتم اليوم من أجله
سينفي كل ما ربما يخطر على بال الذين يجهلون حقيقة أحوالنا من الخواطر البعيدة
عن مبادئنا وشيمتنا وأصول ديننا وقوميتنا.
وإنني أقسم لكم بالله العظيم أنني لم أرد هذا الأمر الذي تكلفونني به ولم يخطر
على بالي عندما قمت معكم بنهضتنا السعيدة، ولكني رأيت كما رأيتم أننا أمام خطر
عظيم وخَطْب جسيم ربما قضى علينا القضاء المبرم إذا لم نبادر إلى إزالته.
وهنا ارتفع ضجيج الحاضرين بالدعاء لجلالته والإلحاح بقبول الذي جاءوا
لأجله، فقال جلالته:
إنكم حملتموني أمرًا أنا أعرَف الناس بما يستلزمه من الجهد، وطالما قلت لكم
إني واحد من جمهور الأمة أبرم ما يبرمون من حق، وأرفض ما يرفضون من
باطل، وأمد يدي لكل من يتفقون على إسناد أمرهم إليه على كتاب الله وسنة رسوله
وإذا كان لا مناص مما أردتموه فإني أشترط عليكم أن تعينوني على أنفسكم،
وتساعدوني بآرائكم وأعمالكم في كل ما يحقق آمالنا وآمالكم من الخدمة العامة للعرب
والمسلمين، وإننا نستعين بالله تعالى في كل ما يحبه من قول وعمل وعليه الاتكال
في كل حال.
ولما انتهى جلالته من الخطاب الملوكي الذي كان يتخلله دعاء الناس وثناؤهم
أخرج حضرة قاضي القضاة العريضة التي أشرنا إليها وأعطاها لحضرة الشيخ عبد
الملك مرداد ليتلوها على مسامع جلالته وهذه صورتها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ملك الحق المبين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي
العربي سيد الخلق أجمعين، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، وسلم تسليمًا
كثيرًا.
أما بعد: فإن للعرب المنزلة الرفيعة بين الأمم؛ لأنهم في مقدمة الأقوام
الساميين، الذين نشروا في الأرض حقيقة التوحيد وهداية الدين، فدانت الدنيا كلها
في كل أزمانها إلى ما أراد الله أن يتمه على ألسنة أنبيائهم العظام من الشرائع
الإلهية والسنن القويمة والمحامد الأخلاقية والفضائل والكمالات حتى استنارت الأمم
بنورهم واهتدت بهديهم. ولقد فضل الله في كتابه الكريم ولد إسماعيل وآل إبراهيم
على العالمين جميعًا، وأنه قد ثبت في صحيح مسلم أن الله اصطفى كِنانة من ولد
إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفى
من بني هاشم نبينا وفخرنا وذخرنا جدكم الأعظم المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
فبجدكم الأعظم خرجنا من الظلمات إلى النور، وببيتكم الأقدس كان رشادنا
بعد الجهل، وأن البيت الذي عدل بنا عن طريق الغواية، إلى طريق الهداية؛ لا
يزال ملزمًا بلم شعثنا. وتقويم أودنا، واستلام زمام أمورنا، مهما تجشم من العناء
لأجل هنائنا، ومهما تحملتم من الجهد لأجل سعادتنا؛ وما كان لنا أن نلجأ لغير
البيت الذي اختاره الله -عز وجل- ولا أن نصطفى قومًا غير الذين اصطفاهم لنفسه
وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
(إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا
الدين) وأنه قال -صلى الله عليه وسلم-: لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي
منهم اثنان [١] .
فأنتم قريش بل أنتم الصفوة من هاشم، وإننا ندين الله تعالى يوم الوقعة
الكبرى بين يديه بأننا لا نعلم اليوم أميرًا مسلمًا أتقى لله منكم وأشد خوفًا منه وتمسكًا
بأوامره وإقامة لشعائره قولاً وعملاً، وأقدر على أمورنا بما يرضي الله عز وجل،
ونحن الذين عرفناكم في أيام الرخاء وأيام الشدة وفي حالتي السر والعلن.
وإن حولكم أمة برهنت في أدوار كثيرة من أدوار التاريخ على أنها عظيمة
المدارك، عالية الهمة، كثيرة الإقدام، حازمة عادلة صبور [٢] رحيمة منصفة.
ولو أن صفحات التاريخ فقدت من الوجود لكفى في الدلالة على عقلها لغتها التي
حيرت أسرارها العقول، وآدابها التي هي خِزانة المعارف، فضلاً عما أقامته من
معالم الحضارة في كل بقاع الدنيا القديمة مما لا يزال أثره ماثلاً للأنظار.
إن أمة كهذه أثبتت العلوم الحديثة أن تكوين دماغها وارتقاء عقلها لا يقل عن مثله في
أرقى الأمم، وبرهن تاريخها على أنها أمة جد وعمل وتفنن وحسن سلوك ومكارم
أخلاق، تحفظ الجميل لمن يزديه إليها، وتعرف كل من له يد عليها، لَهي أمة
تستحق أن تنتشل من قيودها الثقيلة وتنقذ من وصاية فئة سفاكة مخربة جاهلة
مغرورة، ليس فيها استعداد فطري للتحلي بشيء مما تحلى به العرب من المزايا
والخصائص، والأخلاق والفضائل؛ وإن من مظالم عصرنا الفادحة رضاء الأمم
ببقاء العرب محكومين لتلك الفئة الوضيعة التي تحتاج إلى الحجر عليها، لا أن
تكون أمة كأمتنا ذات مجد أثيل وتاريخ وآداب عالية وفضائل سامية راضخة
لوصاياها خانعة لجورها، حتى ذاقت صنوف الذل وأنواع الهوان باسم الإسلام الذي
تنقض هذه الفئة كل يوم دعامة من دعائمه. وقد ورد من حديث جابر عند أبي يعلى
بسند صحيح: إذا ذلت [٣] العرب ذل الإسلام.
فنحن يا سيد العرب ومنقذ الإسلام من أيدي أعدائه المارقين، نحمد الله إليك
الذي أعزنا بك، ونصر جند الله ببركتك وروحانية جدك صلى الله عليه وسلم،
ونتقرب إلى الله -سبحانه وتعالى- بمحاربة من حاربك وموادة من وادّك، وأن مودة
آل بيت رسول الله -عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام- هي الأجر الذي سأله
على ما هدانا إليه من سعادتي الدنيا والآخرة حيث قال عز من قائل:
{قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: ٢٣) [٤] .
فانهض يا سيدنا إلى ما شاء الله أن يجريه على يديك من إصلاح شئوننا
وولاية أمورنا نحن معاشر العرب الذين يعلقون آمالهم على صلاح دينهم ودنياهم
على تبوئك سرير ملكهم.
وإننا نبايع سيدنا ومولانا (الحسين بن علي) ملكًا لنا نحن العرب يعمل بيننا
بكتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ونقسم له على ذلك يمين
الطاعة والإخلاص والانقياد في السر والعلانية، كما أننا نعتبره مرجعًا دينيًّا لنا
أجمعنا عليه ريثما يقرّ قرار العالم الإسلامي على رأي يجمعون عليه في شأن
الخلافة الإسلامية.
نبايعك على هذا يا صاحب الجلالة ونقسم لك بالله العظيم على طاعتك والرضا،
بك والانقياد إليك في السر والعلانية. ولك علينا في ذلك عهد الله وميثاقه ما أقمت
الدين، واجتهدت فيما فيه صلاح حال العرب والمسلمين {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ
عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (الفتح: ١٠) .
غرة المحرم الحرام سنة ١٣٣٥.

ولما انتهت تلاوة العريضة أقبلت جماهير الحل والعقد من الأشراف والعلماء
والأعيان وكبار التجار وسائر ذوي الحيثيات فبايعوا على ذلك بوجوه مستبشرة
وقلوب طافحة بالسرور. ثم تقدم حضرة الفاضل الشيخ فؤاد الخطيب فبسط لدى
جلالته آمال سورية العربية، وذكر أن أولئك الشهداء الذين سارت بذكرهم الركبان
إنما ماتوا من أجل الوحدة العربية، ولتفانيهم في الدفاع عن شعائرهم الإسلامية،
وقال: إن سكان تلك الديار جديرون بأن يكونوا من جملة العرب المستقلين
المتمتعين برعاية جلالة سيد العرب وملكها. وبايعه بعد ذلك أسوة بسائر العرب
على كتاب الله وسنة رسوله.
ثم تقدم حضرة الشيخ عبد العزيز مرداد فدعا لهذه الدولة بالعز والسؤدد
والارتقاء والفلاح بعناية سيدها ومنقذها جلالة ملك البلاد العربية. فأمن الحاضرون
على كل جملة من دعائه.
وقبل انفضاض هذه الحفلة الكبرى تفضل جلالة سيدنا الملك المعظم فأجاب
استرحام القوم بتعميم البيعة في المسجد الحرام في وقت مخصوص سنعلن عنه في
العدد القادم. وذلك إكرامًا لخواطر طبقات الشعب الذي أظهر الرغبة بالاشتراك
مباشرة مع من قام عنه بالبيعة وناب منابه في أداء واجباتها.
وفي آخر الحفلة تلا حضرة الشاعر الأديب الشيخ عبد المحسن الصحاف
خطبة أنيقة بصوت جهوري وأتبعها بقصيدة غراء تناسب المقام اهـ.

(المنار)
إن سبق أهل العلم والمكانة والرأي في مكة المكرمة إلى هذه المبايعة وما
تلاها من مبايعة وفود سائر بلاد الحجاز الذي فصلت خبر جريدة القِبلة في عدد
آخر مبني على ثلاثة أسباب:
(١) اعتقادهم أن فئة الاتحاديين الملحدة الباغية قد تغلبت على الدولة
العثمانية بقوة الثورة والاعتماد على الألمانيين الطامعين في البلاد ووضع الدولة
تحت وصايتهم حتى لم يعد للسلطان أدنى استقلال في حكم ولا رأي.
(٢) أن اعتداء هذه الفئة الباغية على العرب ومحاولتها إهلاكهم كما أهلكت
الأرمن بغضًا فيهم وفي دينهم، وامتداد بغيها من الشام إلى الحجاز وما ترتب عليه من
الحصر البحري قد اضطر أهل الحجاز إلى إعلان الاستقلال التام كما بيناه من قبل
وذلك لا يتحقق إلا بمبايعة الأمة المستقلة لحاكمها أو بتغلبه هو عليها بالقوة،
وحكومة الحجاز من النوع الأول المشروع.
(٣) أن صاحب الحجاز وأهل الرأي فيها يائسون من بقاء استقلال الدول
العثمانية، وجازمون بأنها إما أن تكون تحت سيطرة الألمان القاسية، وإما أن
تنحصر سلطتها في بعض ولايات الأناضول، فبهذا وجب على العرب أن يسارعوا
بعد الاستقلال بما استطاعوا من بلادهم إلى تعيين شكل حكومتهم المستقلة، ويطالبوا
الدول المحالفة لهم بالاعتراف باستقلالهم قبل عقد الصلح؛ لئلا تعدهم الدول من أتباع
الترك. ونحن قد بينا رأينا في هذه المسألة في خطبتنا التي ألقيناها بين يدي
الشريف الأعظم وعلى مسمع كُبراء الحجاز والحجاج في منى وسننشرها في المنار.