ووجوب إطلاع المسلمين عليه لأمير البيان، ومدرة سلائل عدنان وقحطان الأمير شكيب أرسلان (١)
سبق لنا مقالة في المنار عن بعض الكتب التي أُخْرِجَتْ حديثًا في أوربة بشأن الإسلام والمسلمين، ومن جملتها كتاب لرجل يقال له (جول سيكار) من كبار تراجمة الجيش الفرنسي في المستعمرات الفرنسية سماه (العالم الإسلامي في المستملكات الفرنسوية) . وقد رددنا على شيء مما تضمنه هذا الكتاب، ووعدنا بإكمال البحث ونشر ما قاله المؤلف المذكور عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله، وعن خلفه الأستاذ الحجة صاحب المنار أمتع الله ببقائه. قال في الصفحة ٧٣ تحت عنوان (الطور الديني الجديد) ما يأتي: (إن المسلمين الحاضرين هم من حيث السواد الأعظم على مذهب السنة والجماعة، إلا أن روح الحرية والنزوع إلى المبادئ العصرية قد ظهر في أكثر من نقطة واحدة في العالم الإسلامي. وقد كان مبدأ هذه الحركة في الهند ثم في فارس ومنها سرت إلى مصر وإلى السلطنة (العثمانية) المنحلة. وسواءً أكان هناك أم هنا يجتهد المسلمون الأحرار أن يثبتوا الوئام الواقع بين الإسلام والترقي، وبين العقيدة القرآنية والمقتضيات العصرية، ومن سمع كلامهم خال أنه ليس ثمة إلا سوء فهم أدى إلى التناقض، وأنه من الخطأ البيِّن الاهتمام ببعض جزئيات ليست لها إلا مكانة ثانوية، وأن يظن أن بعض الأصول التي أولدها الاحتياج في وقت معين تعد قواعد سرمدية، وأن يغفل عن سنة التحول التي عليها مدار الاجتماع البشري. وهؤلاء العصريون Modernists الذين يليق بهم اسم (المعتزلة الجدد) ينتقدون انتقادًا لا غبار عليه شدة جمود المقلدين وعماية هؤلاء، ويحاولون تخليص قواعد الإسلام الأساسية وتطبيقها على مقتضيات الحياة والعلم الحديث، وقد امتاز في هذا المشرب رجلان أحدهما (أمير علي) في الهند، والآخر - وهو الأهم - الشيخ محمد عبده الطائر الصيت في جميع شمالي أفريقية مؤلف رسالة التوحيد. فالشيخ محمد عبده (١٨٤٩-١٩٠٥) مفتي مصر الأكبر هو أنبغ تلاميذ المحرك الأفغاني جمال الدين (١٨٩٧-١٩٣٩) باعث فكرة الجامعة الإسلامية، وله طريقة خاصة به في تحقيق مصدر العقيدة وهي طريقة صارمة في ذاتها كما يقر هو بذلك؛ لأنه لا يسلِّم بصحة شيء من مصادر الدين (إلا ما كان في القرآن مع عدد قليل من الأحاديث المتعلقة بحياة الرسول) وخلاصة مذهبه وجوب التسامح بين جميع مذاهب الإسلام المختلفة. وأما فلسفته الأدبية فمستمدة من المذاهب الحرة لا سيما مذهب الغزالي المتكلم الكبير المتوفى سنة ١٢٧٧ (مسيحية) الذي له أكثر اليد في التسامح بين مذاهب الإسلام المختلفة، وهذه الفلسفة مشتقة من الاعتزال الذي هو وليد المحاكمة العقلية في علم الكلام الإسلامي، والذي يقول بالاختيار المطلق، لكنه مذهب اضمحل أخيرًا على إثر المصارعة الهائلة التي وقعت بين حزب المفكرين وبين الجماعة المتشددة التي كان لها الغلبة في نهاية الأمر. (والشيخ محمد عبده كان أبصر الخطر الذي أحدق بعقيدة المسلمين من جراء زحف العلوم الغربية (نقل المؤلف هذه العبارة بنصها من الأب لامنيس المستشرق اليسوعي) فنشط إلى إجراء تمييز ينقذ به مذهب السنة والجماعة وشرع بإلقاء دروس في الأزهر استجلبت الأنظار أولاً إلا أنه توقف عنها على إثر مقاومة العلماء الجامدين، فعند ذلك أسس بمساعدة تلميذه المقدم السوري السيد محمد رشيد رضا طريقة إصلاحية لسان حالها مجلة شهرية اسمها (المنار) ومنزع هذه الطريقة في الدين هو تجديد المذهب الوهابي الذي لا يزال رشيد رضا يؤيده بمعارفه بالسنة، وأما في السياسة فهي مبنية على الجامعة الإسلامية والجامعة العربية، وبالحريّ: على عداوة الأجانب، ولك أن تقول: على مقاومة الغرب. وهي تميل إلى فكرة العصريين بتعديل الشريعة الإسلامية على ما يوافق ضرورات الوقت؛ ولكنها تنشد أعتادها في مسلحة الوهابيين، وتستمد من مذهبهم حججها على (المتفرنسين) فمن الوهابيين تأخذ مقاومة الخرافات الحشوية والتدمير على المعتقدين بتأثير الأولياء، وعلى الطرق الصوفية، والمنار تطبع وتعيد طبع تآليف ابن تيمية التي كانت منسية والتي هي أشد الكتب تهييجًا، هذا ورشيد رضا هو سيد، أي من ذرية محمد صلى الله عليه وسلم وهو نفسه يعلن كونه عربيًّا قرشيًّا. والمنار في استمساكه بالجامعة العربية مقيم على إيجاب إعادة الخلافة، كما أنه في مخالفته للمنازع القومية التي تخالف برنامجه الإسلامي العربي يشير بتوحيد مذاهب الفقه الأربعة في مذهب واحد، وضم شتات الفرق الإسلامية إلى جماعة كبرى يمكنها أن تقاوم أوربة، وأن تقاتل ثقافتها المتقدمة. وهو يعترف بانحطاط الإسلام؛ لكنه يزعم معالجة دائه بالرجوع إلى عقيدته الأصلية على أن يفهمها الناس حق الفهم مستمدة من الكتاب والسنة، ويقول: لماذا نلجأ إلى علم الغرب الموجب للشبهات؟ فكل شيء هو في القرآن، والمنار ينشر تفسيرًا لا بأس به، فيقول - مثلاً - عندما يشير كتاب الله إلى الصاعقة: يلزم أن نفهم منها الكهربائية، كذلك المنار يشير بالاهتداء بأشعة (رونتجن) لتقوم مقام (العِدة) وهي مدة الثلاثة الأشهر التي يأمر بها القرآن أن تكون فاصلة بين طلاق المرأة وزواجها من غير زوجها الأول (هذا غير صحيح) ولما كانت العلوم العصرية لا تستغني عن التصوير اللازم في التعليم وفي إدارة الجيش وفي إدارة الأمن العام، فالمنار يستنتج جواز ذلك للمسلمين، وهو يوجب على الطرق الصوفية الاشتغال بالمصالح العامة من مؤاساة وتعليم ... إلخ. وبهذه الأفكار الجريئة الشاذة (تأمل أيها القارئ) تزعم مجلة القاهرة (أي المنار) متابعة طريقة المصلح الذي هو الشيخ محمد عبده، وصرف النظر عن تعصبها الوهابي وشنآنها للأجانب، فهذا هو التجديد بالمقلوب (تأمل أيضًا) . فالإسلام إذًا هو على ملتقى الطرق، ونراه غير شاعر كثيرًا بأنه أصبح مضطرًّا أن يطرح من وسقه لينجو. فأما ما كان من أمر الخلافة فالذي ألحظه أن التضحية بها تمت بدون ضوضاء، ومثل ذلك تم العدول عما كان الهنود المسلمون يطالبون به من الأمور المتعلقة بهذه الفكرة الجبروتية. بقيت الأحوال الشخصية (تعدد الزوجات والميراث والعقود) فهذه هي التي تمنع المسلمين في البلدان غير الإسلامية من الاستفادة من المساواة التامة المفروضة عليهم، فكتاب الشيخ المصري علي عبد الرازق يشير عليهم بأن يتقدموا براحة وجدان إلى قبول تشريع جديد بناء على كون النبي لم يلحظ جميع الأمكنة ولا جميع الأزمنة، وهذا هو رأي كثير من مفكري الإسلام، فهل يتغلب رأي هذه الطبقة المفكرة فيجر معه جماهير الإسلام، أم يبقى دون بلوغ الغاية؟ الجواب أن أوربة تخطئ بعدم مراقبة سير هذه الحركة عن كثب، وقد تجد أوربة في هذا الرأي ما يساعدها على سياسة إسلامية ذات فائدة حقيقية، ولو لم يكن منها سوى الاستغناء عن سن قوانين مأخوذة من شريعة الإسلام لكفى، وهي المسألة التي تورطت فيها فرنسة في أفريقية، ونشبت منها منشب سوء) انتهى ما نقله سيكار عن المستشرق اليسوعي لامنيس. ولنذكر هنا رأي المستشرق الشهير سنوك هور كرونجه الهولندي [١] الذي قال في هذه المسألة قوله الفصل. (إن الشريعة الإسلامية سواء من جهة النص أو من جهة الروح تعتمد على القهر والإكراه في نشر العقيدة (تأمل أيها القارئ) لأن هذا الدين يُعِدُّ كل الناس غير المؤمنين أعداء لله، ويوجد اليوم عصابة صغيرة من المسلمين تحاول تطبيق الإسلام على الأفكار العصرية؛ لكن هؤلاء النفر تمثيلهم للدين الذي ولدوا فيه لا يزيد على تمثيل (المجددين) Modernists للدين الكاثولوليكي، والحقيقة أنه لا يوجد فرق في هذا الموضوع بين فقهاء المذاهب المختلفة) . *** ماهية إصلاحيات الشيخ محمد عبده يقول أحد مادحيه: إن المزية التي اشتهر بها الأستاذ هو الدقة النادرة التي يميز بها بين ما هو في الديانة جوهري وما هو عرضي أو طارئ على الدين، وهو في أشد اقتراحاته جرأة لم يتعرض بشيء للقسم الجوهري من العقيدة، ولا ترك نفسه يهاجم أركان الدين الأساسية نظير كبار مصلحي القرن التاسع عشر كميرزا علي محمد الباب المولود في فارس سنة ١٨٢١ مؤسس البابية، وبهاء الله مؤسس البهائية في تركيا الذي صلبته الحكومة الفارسية سنة ١٨٥٠ (هذا خلط عظيم، فالذي صلبته الحكومية الفارسية هو الباب لا بهاء الله، وهذا قد توفي حتف أنفه في عكا منذ نحو أربعين سنة) أو ميرزا غلام أحمد في الهند. بل الشيخ محمد عبده بقي دائمًا ضمن حظيرة الإسلام بل ضمن مذهب السنة والجماعة [٢] ؛ وإنما كان عمله الوعظ والحث على التسامح الديني، والدفاع عن حقوق العقل، وإحياء فضائل الدين، وتطبيق الإسلام على العلم الحديث. ومما لا جدال فيه أن الشيخ محمد عبده قد دافع عن الإسلام دفاعًا شديدًا ذاهبًا إلى حد ترجيحه على النصرانية، فهو ينتقد ما في النصرانية من الحث على الغلو في حب القريب، وإماتة الحواس والزهد في الدنيا، غافلة عن طبيعة الإنسان والغرائز التي هو مفطور عليها. وهو يقول: (إنه لما جاء الإسلام خاطب العقل والإدراك، وأشركهما في العواطف والحواس آخذًا بيد الإنسان إلى سعادة الدنيا والأخرى) . ولكن الشجرة تعرف بثمارها، وهذه الجملة تكفي في هذا المختصر على الأقل لتفنيد انتقادات الشيخ محمد عبده، فهل مآثر الإسلام تتحمل القياس مع مآثر النصرانية، لا شك أن التاريخ الذي لا ضلع له يجاوب جوابًا فصيحًا على هذه المسألة، وإن أراد القراء المسلمون الأدلة والوثائق فما عليهم إلا أن يختاروا، فإن الكتب الحديثة المنوهة بمآثر النصرانية جديرة بالاعتبار. (وذكر المؤلف سيكار في الحاشية اسم كتاب في تاريخ الأديان، وكتاب آخر في بيان فضائل الدين الكاثوليكي؛ ولكن الجواب عن هذه القضية وهي أن الشجرة تعرف بثمارها والتي معناها عزو تقدم أوربة إلى النصرانية، وعزو تأخر المسلمين إلى الإسلام هذا الجواب سهل علينا وسنذكره بعد الانتهاء من ترجمة هذا الفصل، وهما قد رأيا فيه حجج الأستاذ الإمام) . ولم يغب عن الشيخ أن حالة المسلمين الحاضرة هي بعيدة جدًّا عن الصورة التي يعطيها هو عن الإسلام، وفي الفصل الذي عنوانه (إيراد سهل لا يراد) تجد منه أمرّ انتقاد لهذه الحالة إلا أنه يعزو هذا الانحطاط إلى انحراف المسلمين عن جادة دينهم ويقول: إنهم طيلة ما كانوا سائرين بمقتضاه كما يجب كانت جيوشهم لا تعرف إلا الغلبة والظفر، وكان سلطانهم فائقًا في اللمعان كل ما تَقَدَّمه من المدنيات، وكان مفكروهم في مقدمة الحركة الفكرية التي كانت في عصرهم. *** صدى الحركة العصرية في شمالي أفريقية إن الحركة العصرية قد أخذت تنتقص المبادئ الدينية؛ ولكن انتقاصًا محدودًا وبمقدار مختلف بين تونس والجزائر ومراكش، فأفكار الشيخ عبده تغلغلت في عقول المفكرين ووجدت مجالاً واسعًا لدى الشبان على حين نرى أرباب العمائم منكرين لها أشد الإنكار، ولهذا تجد مريدي الشيخ عبده متضائلين لا يقدرون أن يجهروا بأفكارهم نظرًا لقلة عددهم ولشدة مقاومة الجامدين لهم (لكن نفوذهم هو الغالب حتى غلب على الأزهر ولله الحمد) . وهؤلاء الجامدون [٣] بعداوتهم لكل ما ليس به نص صريح في القرآن ينقمون أشد النقمة على أتباع الطرق الصوفية تقديس الأولياء والطواف حول قبورهم، وكل مقصدهم هو تطهير الدين من جميع الخرافات، ومن جميع الشعائر التي يعدونها نصف وثنية، والتي قد شوهت عقيدة الإسلام الأصلية، وهي التي نجاحها قد كان بسبب شدة تنزيهها الباري تعالى عن مشابهة مخلوقاته، فالشيخ محمد عبده يقول: إنه إذا كان لا يجوز لمسلم أن يتشكك في النبوءة والمعجزات التي ثبت وقوعها على يد النبي صلى الله عليه وسلم - فإنه حر أن يعتقد أو أن لا يعتقد كرامات الأولياء. ثم إنه يضاف إلى ما تقدم من الملاحظات كون مسلمي شمالي أفريقية لا يبرحون أمناء للإسلام، وإن كان بعض الفتور قد بدأ يظهر في عقيدتهم نفسها، وهذا الفتور إن هو لم يخالط العقيدة فقد ظهر في الشعائر، مثل ذلك صوم رمضان الذي كان يتمسك به أقلهم تحمسًا بالدين قد مالت اليوم حباله إلى الارتخاء. ثم إن سيكار صاحب الكتاب عقد فصلاً نحو صفحتين لخص فيه كتاب الشيخ علي عبد الرازق في أصول الحكم والخلافة، ولما كان هذا الكتاب معروفًا عند القراء لم نجد حاجة إلى ترجمة كلامه. ثم انتقل إلى موضع آخر أهم من كل ما تقدم وهو تنصير المسلمين، وهل هو مستحب أم لا؟ وهل هو ممكن أم لا؟ وقد كانت النتيجة التي وصل إليها بعد مباحث أخذت ١٥ صفحة أن تنصير المسلمين مستحب، وفيه من الفوائد الدينية والسياسية ما لا يخفى، كما أنه ممكن أيضًا خلافًا لما يذهب إليه بعضهم من استحالته، وإن كان في حد نفسه أصعب من تنصير الوثني، وفي كلامه لوم ظاهر للحكومة الفرنسوية التي لم توجه إلى هذا الأمر الجلل العناية الكافية بزعمه. هذا ما ذكره هذا الضابط الفرنساوي المسمى جول سيكار المترجم الكبير في الجيش الفرنسي في أفريقية الذي ليس بقس ولا راهب، بل هو من مأموري حكومة تعلن أنها لا دينية أو (لاييكية) ... فتأمل. وسنرسل الفصل المتعلق بتنصير المسلمين إلى المنار لأجل البحث فيما تضمنه لأنه يحتوي مباحث كلامية، أو على رأيهم لاهوتية، صاحب المنار أولى بالحكم فيها، أما أنا فإني أعلق على الفصل الذي ترجمته الملاحظات الآتية: أولاً: ليس لسيكار، وبخاصة ليس للراهب لامنس اليسوعي أن يتكلم عن قضية جمود الإسلام، ولا عن مخالفة نصوص كتابه للعلم الحديث، فليس في القرآن ولا في الشريعة ما يخالف العلم الحديث، بل القرآن ملآن بالحث على العلم مطلقًا لا يختص به نوعًا من الأنواع، وليس في الدنيا كتاب دعا إلى النظر والسير وتدبر أسرار الكون ما دعا إليه القرآن، فهل يقدر أن يقول لامنس اليسوعي والضابط سيكار شيئًا من ذلك عن الكتب المقدسة عندهما؟ وهي التي ألَّف علماء من المسيحيين مؤلفات ذات أجلاد ضخمة على تناقض نصوصها وقواعدها مع قواعد العلم الطبيعي الحديث؟ أيريان القذى في أعين غيرهما ولا يريان الخشبة التي في أعينهما؟ أيتكلمان في الجمود وينسيان كل ما أورده المسيحيون من تاريخ الكنيسة في محاربة العلم؟ لم نكن نود التعرض إلى هذا الموضوع لو لم يحرجانا فيخرجانا إليه لأن الذي يقرع الباب يسمع الجواب. ثانيًا: قضية أن (الشجرة تُعرف من ثمارها) لا تنطبق على ما نحن فيه، فنحن لا يخطر لنا على بال أن ننكر ما في الإنجيل الشريف من مبادئ سامية وفضائل بمثلها يرتفع قدر الإنسانية، وأن المسلمين يجب عليهم دينًا أن يقدسوا الإنجيل المنزَّل ومبادئه الثابتة، ويؤمنوا بصاحبه صلى الله عليه وسلم كما يؤمنون بمحمد وإبراهيم وموسى ونوح صلوات الله عليهم جميعًا، ولكن نسبة تقدم أوربة وتفوقها على غيرها في الأعصر الأخيرة إلى ثمرات الدين المسيحي ونسبة انحطاط العالم الإسلامي الحاضر إلى ثمرات التعليم الإسلامي كلاهما محض خطأ، فلو كان ذلك كذلك للزم أن تتقدم أوربة وتترقى منذ دانت بالنصرانية، والحال أنه كان مضى عليها ألف وخمسمائة سنة - مدة نظنها كافية للتأثر والتأثير - وهي دائنة بالدين المسيحي، وكانت لا تزال متأخرة متقهقرة، لا بل قسم منها كان يعد متوحشًا فأين كانت ثمار تلك الشجرة طيلة ألف وخمسمائة سنة؟ ومن الغريب أن أوربة لم تبدأ بالترقي - وهو رقي لا يعدو في الحقيقة المادة والصناعة - إلا بعد أن تراخت فيها حبال العقيدة المسيحية بخلاف الإسلام الذي كان راقيًا فائزًا يوم كان أهله شديدي الاعتصام به، وأصبح متقهقرًا ضعيفًا عندما قعد أهله عن القيام بعزائمه، ثم إن المدنية اليونانية قبل النصرانية كانت أعلى جدًّا من المدنية اليونانية بعد أن تنصر اليونان، فهل يريد سيكار ولامنس أن ينسبا ذلك إلى تأثير الديانة؟ إذًا تكون الميتولوجيا اليونانية أعلى من النصرانية! وهذا غير معقول، وأن مدنية رومة كانت لعهد وثنيتها أرقى جدًّا من مدنيتها بعد أن تنصرت، لا بل كان دخول رومة في النصرانية موافقًا عهد بداية انحطاطها، أفنقول كما قال بعض مفكري أوربة، ومنهم أتاتول فرانس: إن ظهور النصرانية كان وَقفًا لسير المدنية في العالم، وأن بوار الدولة الرومانية كان من آثار ديانتها الجديدة؟ نحن لا نعتقد ذلك، بل نذهب إلى أن لانقراض الدولة الرومانية عوامل أخرى، كما أن انحطاط المدنية الأوربية في القرون الوسطى لم يكن المسئول عنه الإنجيل، وكما أن انحطاط الإسلام الحالي ليس بالمسئول عنه القرآن، بل هناك عوامل كثيرة، وأن نسبة درجة رقي الأمم إلى تأثير الديانة تفضي بنا إلى القول بأن ترقي اليابان الحالي هو من ثمرات مذهب شينتو، هذا ما عدا المدنيات القديمة كمدنية الصين والهند والمدنيات البائدة نظير مدنية بابل ونينوي والنبط والفينيقيين، وكل هؤلاء كانوا وثنيين، فهل نجعل الوثنية مصدر هذه الثمرات؟ إذًا لم يبق فضل للنصرانية على الوثنية. إذًا البرهان على انحطاط الإسلام من جهة انحطاط المسلمين اليوم هو برهان ساقط بأدنى تأمل، وليس الإسلام بمسئول في القرون الأخيرة عن انحطاط المسلمين أكثر مما كانت النصرانية مسئولة عن سقوط رومة وانحطاط الأوروبيين في القرون الوسطى، ولو عمل المسيحيون حق العمل بمقتضى مبادئ الإنجيل، ولو عمل المسلمون حق العمل بأوامر القرآن ونواهيه لأفلحت كل من الأمتين في الدنيا والعقبى، ونالتا سعادتي المادة والمعنى. (ثالثًا) : الكلام المنسوب إلى (سنوك هور كرونجه) المستشرق الهولندي، مستغرب من جهة الزعم بأن الإسلام يعتمد في نشر عقيدته على الإكراه، وذلك أن قاعدة الإسلام النظرية والتي جرى العمل بها من صدر الإسلام هي {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: ٢٥٦) نعم قاتل النبي صلى الله عليه وسلم لأول الأمر المشركين لأنه نهاهم عن الشرك بالله، وعن عبادة الأصنام فلم ينتهوا منها، وكان دعاهم إلى ذلك بالحسنى والقول اللين فلم يستمعوا له، بل ثاروا به وقاتلوه فاضطر أخيرًا أن يقاتلهم بالسيف دفاعًا، وأن يحطم أصنامهم بالسيف حتى يكون الدين كله لله، ومن المصائب أن بعض الناس يقرءون القرآن فتمر بهم آيات لا يفهمون معناها أو يؤولونها بغير معناها الحقيقي إما عن ضعف ملكتهم بالعربية - وهي ملكة لابد منها لمن أراد أن يفهم القرآن العزيز - أو لعدم اطلاعهم على أسباب النزول والوقائع التي من أجلها وقع الوحي، وهذه المعرفة ضرورية لمن أراد أن يفهم كتاب الله حق الفهم، فينشأ من جهل هؤلاء بهذين الأمرين خلط كثير رأيناه في أكثر التآليف التي صنفها غير المسلمين في أمر القرآن. أما المستشرق الهولندي سنوك هور كرونجه فهو من أعرف الأوربيين بالكلام العربي والشرع الإسلامي، فإذا كان صدر كلام كهذا عنه فهو عن تجاهل لا عن جهل، وعن تمام عن الحقيقة لا عن عماية، فسنوك هور كرونجه يريد قبل كل شيء أن يخدم سياسة هولاندة التي من مقتضاها لأجل استتباب سلطتها على الجاوي وسومطرة توهين العقيدة الإسلامية واستئصالها، مذهب الحيلة لا مذهب بالبطش، فيقول: إن من الخطل العظيم أن تسن الدول الاستعمارية للمسلمين الذين استولت على بلادهم قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية بمعنى أن هذه الشريعة فيها من المرونة ما تسع معه احتياجات هذا العصر، بل يجب على الدول الاستعمارية أن تعدل عن هذه الخطة، وتجتهد في إقناع المسلمين بأن شريعتهم أصبحت ثوبًا باليًا لا يقيهم حرًّا ولا بردًا، فإن أرادوا أن يعيشوا كسائر الأمم المتمدنة لم يكن لهم مندوحة عن طرح الإسلام تدريجًا؛ وبذلك تكون دول أوربة الغالبة اليوم على الإسلام اتقت خطر انتفاض المسلمين عليها، وأمنت مستقبل سلطتها عليهم. وفي كلامه هذا الذي لخصناه في حواشي (حاضر العالم الإسلامي) شيئان جديران بالتقييد (أحدهما) أن سن قوانين عصرية مستمدة من الشريعة الإسلامية غير موافق لا من جهة عدم مرونة هذه الشريعة، أو عدم اتساعها لذلك، بل من جهة أنه لا ينبغي أن تسن لإدارة أمور المسلمين أنظمة عصرية يوقنون بها أن شريعتهم قد تتلاءم مع العصر الحالي، فيزدادون بها تمسكًا وعليها عضًّا بالنواجذ، والحال أنه يجدر بالدول المستعمرة أن تبذل كل جهدها في إقناع المسلمين بأن شريعتهم أصبحت لا تصلح أصلاً لهذا الزمان، فهم بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يموتوا، وإما أن ينبذوا شريعتهم، فالمسألة إذًا ليست حقيقة علمية، بل حيلة سياسية. (والأمر الثاني) هو في كلام هذا الرجل الاعتراف بأن الخطر الوحيد الذي يتهدد الاستيلاء الأوروبي ليس روح القومية، بل روح الإسلام، فإذا ذهبت روح الإسلام من الأمم المسلمة هان عليها خنوعها للأجانب، ولم يتكاءدها فقد استقلالها. وبعبارة أخرى: إن رابطة الاستقلال في العالم الإسلامي متوقفة على حياة الدين الإسلامي، فإن ذهب الاستقلال وأمن المستعمرون شر الانتقاض في المستقبل، فهذا الاعتراف من مستشرق عظيم نظير سنوك هور كرونجه ثمين جدًّا، يزيد قيمته اعتبارًا أنه لسان حال دولة أوربية مستضعفة لـ ٤٥ مليونًا من المسلمين. بقي نقطة ثالثة في كلام هذا المستشرق الهولاندي وهي قوله (أن بعض المجددين الذين عندهم أفكار عصرية من المسلمين لا يمثلون الدين الإسلامي أكثر مما تمثل فرقة العصريين Modernists في النصرانية الكنيسةَ الكاثوليكية) . يريد أن يقول: إن التعاليم الكاثوليكية مخالفة للمبادئ العصرية، وإن الذين يحاولون هذا الأمر من الكاثوليك يحاولون المحال تقريبًا. فليس إذًا لسيكار ولا للامنس أن يتكلما في عدم انطباق الدين الإسلامي على العلم الحديث وعلى الأوضاع العصرية، ويكونان قد احتجا بكلام رجل شهادته جاءت على الكاثوليكية كما جاءت على الإسلام أو أشد، ولهذا قلنا إنه ليس لهذين وأمثالهما أن ينعتا الإسلام بالجمود وحب التقليد، ونضيف إلى ذلك أنه ليس لسنوك هوركرونجه أيضًا، ولا للهولنديين ولا للبروتستانت أن ينبزوا المسلمين بالجمود، فإن البروتستانت المفتخرين على الكاثوليك بالأخذ بالمبادئ العصرية وبالعمل بالعلم الحديث، لا يفترقون عن الكاثوليك في شيء من جهة أساس العقيدة المسيحية، وأن أكثر ما بين الفريقين من الخلاف إنما هو في عقائد ثانوية، ولسنا الآن في حاجة إلى تفصيل هذه الأمور، إذًا هذه الفرقة مثل تلك الفرقة من جهة الجمود على القديم وحب التقليد؛ ولكنهم أولعوا بنقد الإسلام والمسلمين ونسوا أنفسهم. وفي هذا الفصل الذي ترجمناه مظان أخرى تركنا الملاحظة عليها لفهم القارئ. ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان ((يتبع بمقال تالٍ))