للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رسائل الطعن في الوهابية

كان السلطان عبد الحميد يخاف عاقبة نهضة العرب الدينية في نجد؛ إذ كان
يعتقد هو وبعض أركان دولته أن العرب لا تجتمع لهم كلمة ولا تقوم لهم دولة إلا
بدعوة دينية كما قرَّره حكيمهم ابن خلدون في مقدمته - فكان يغري بعض أمرائهم
ببعض كإغراء آل رشيد بآل سعود وكان المنافقون من المُعَمَّمِينَ يتقربون إلى
حكومته بالطعن في الوهابية ويزعمون أنهم يخدمون بذلك الدين وينصرون السنة،
ولكننا لم نر أحدًا من هؤلاء المنافقين نصر الدين بالرد على الملاحدة ولا على دعاة
النصرانية الذين يطعنون في أصل الإسلام وكتابه ورسوله لتنصير المسلمين، وكان
بعض حشوية الشام المُتَمَلقين أشد الناس إسرافًا في الطعن في الوهابية فلا يكادون
يُذكرون في كل البلاد العثمانية بقدر ما يذكرون في دمشق وحدها.
وقد خفت هذه الوطأة في السنين الأخيرة ثم اشتدت بعد أن استقرت إمارة عبد الله
ابن الملك حسين في شرق الأردن وشاع أن الوهابية سيزحفون للاستيلاء على هذه
المنطقة لانتزاعها من السلطة الحجازية البريطانية، وكان بعض الجرائد المسيحية
في دمشق والقدس أول ميادين هذه الحملة، فأصحابها النصارى يطعنون في
الوهابية ويفضلون أمراء الحجاز على أمراء نجد من طريق السياسة، بل ذكرت
جريدة (لسان العرب) التي تأخذ راتبًا شهريًّا من الأمير عبد الله، ومنحتها جريدة
القبلة الحجازية لقب (لسان أقوامنا) أنه يجب على النصارى في سورية وفلسطين
تأييد الملك حسين وأولاده؛ لأن حكومتهم مدنية لا إسلامية بخلاف حكومة نجد فإنها
إسلامية دينية متعصبة. وقد فتحوا أبواب صحفهم لكل من يطعن في الوهابية من
المسلمين طعنًا دينيًّا بحتًا لأجل هذه الغاية السياسية.
وفي هذه الأثناء جاءتنا عدة رسائل من دمشق ورسالة من بيروت في الطعن
في الوهابية كُتِبَ على ظهر بعضها أنها (تُوَزَّع مجانًا وقفًا لله تعالى) وعلى
البعض الآخر (توزع مجانًا في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم) وغير
معهود من أصحابها هذا السخاء في نشر العلم والدين! .
لم يرسل إلينا هذه الرسائل مؤلفوها، بل أرسلها بعض أهل العلم والدين لنرد
عليها، وقد تصفحنا أوراقًا من كل منها من أولها وآخرها فلم نر شيئًا منها يستحق
أن يكرم بالرد؛ لأنهم يقولون زورًا ويخلقون أفكارًا ويردون عليها كما يردون بعض
الحق بمحض الجهل وتقليد العوام ومجاراتهم وجعل البدع الفاشية فيهم سننًا مجمعًا
عليها، بل ذكروا في رسائلهم من الأحاديث الموضوعة والآثار المصنوعة والكذب
على السلف الصالح والأئمة ما يعد معه الكذب على الشيخ محمد عبد الوهاب وأهل
نجد أمرًا هينًا؛ فإن كذبًا عليه صلى الله عليه وسلم ليس ككذب على غيره، فمن كذب
عليه متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار، كما تواتر عنه عليه صلوات الله وسلامه. على
أن بعض علماء دمشق الأثريين قد ردوا عليهم برسائل فضحوا بها ما ستروا ولقفوا
ما لفقوا.
فمن هذه الرسائل ثلاث لرجل في دمشق يدعي الشيخ عبد القادر الكيلاني
الإسكندراني لقيته في دمشق غير مرة فأوهمني أنه يكره الحشو والبدع ويحب
الإصلاح. وما كنت أظن فيه أن يكتب أمثال هذه الرسائل، ولكنها هي أدل على
حقيقة حاله مما تراءى لي منه.
(ومنها) رسالة لرجل عامي لا ندري أهو من طائفة المعممين أم من غيرهم
اسمه محمد توفيق السويقة، وقد كتب عليها أنها الرسالة الأولى.
(ومنها) رسالة للشيخ محمد جميل الشظي الحنبلي سماها (الوسيط بين
الإفراط والتفريط) نصب فيها نفسه حكمًا بين الوهابية وغلاة خصومهم، وكنا نظن
أنه يحكم عن علم، ويلتزم الحق فلا يجور في الحكم، فإذا هو خصم أي خصم،
نقل عنهم ما ليس عندهم، ولبَّس الحق بالباطل، ولم يميز بين الأواخر والأوائل،
بل جعل الخلف الطالح، كالسلف الصالح، وأيَّدهم في بعض المواضع من حيث لا
يدري بل في سياق الرد عليهم، واعتمد في هذا الرد على كلام أعدائهم ومقلدة
أعدائهم.
رد على هذه الرسائل الشيخ ناصر الدين الحجازي الأثري، والشيخ أبو اليسار
الدمشقي، فأتيا بما يكفي دافعًا لمفترياتها، ومزيلاً لشبهاتها، وإن لم يستقصيا جميع
ضلالاتها، وردهما عليها رد على رسالة الشيخ مصباح شبقلو البيروتي.
فإن كل الذين يردون على الوهابية يستمدون الافتراء عليهم من مصدر واحد
كما أن مصدر مادتهم العلمية والدينية واحد هو التقليد لمتأخري مقلدة الحشوية
وبدعهم، فلا تحري في النقل، ولا استقلال في الفهم، ولا رسوخ في شيء من
العلم، وأنَّى والعلم الذي فرضه الله على كل مسلم محرم عندهم؛ لأنه يدخل في مفهوم
الاجتهاد الذي أقفل بابه بعض شيوخ مشايخهم، وشرعوا للناس تقليد المجتهدين بدلاً
منه، ثم شرع آخرون لهم تقليد المقلدين، وجميع من ينسب إلى مذاهبهم من الميتين
إلى خمس طبقات مرتبة في خمس دركات على أنهم يستدلون فيجتهدون لتأييد التقليد؛
لأن الاجتهاد المحرم عندهم ما يطلب به الحق لذاته؛ ولذلك يحتجون بالأحاديث
الموضوعة أو المفتراة حديثًا لأن مشايخهم ذكروها، ولا يعلم الفريقان أن المحدثين
أنكروها أو لم يثبتوها، والتمييز بين الأحاديث الصحيحة والباطلة من شروط العلم
المحرم عندهم، وإن لنا كلمة فاصلة فيهم وفي بيان عقائد الوهابية سَيَرَوْنَهَا في جزء
آخر.
((يتبع بمقال تالٍ))