للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ضمان البضاعة
وسلع التجارة والسيكارتو

(س ٢٩) سألنا كثيرون من أهل هذا القطر وغيره من الأقطار عما جرى
عليه عرف التجارة من إرسال البضائع للبلاد مضمونة من شركة تسمى شركة
الضمان، وقد أرجأنا الجواب عن ذلك لأجل أن نبحث عن كيفية هذا التعامل بنفسنا؛
فنجيب عن بصيرة، ولم يتيسر لنا ذلك، وقد جاءنا من عهد قريب صورة فتوى في
ذلك من سنغافورة يسألنا مرسلها عن رأينا فيها فلم نجد بدًّا من التعجيل بنشره أو
بيان رأينا فيها وهذه هي:
بسم الرحمن الرحيم
(ربِّ زدني علمًا، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، الحمد لله على آلائه،
والصلاة والسلام على رسول الله وآله، أما بعد فقد ورد عليّ سؤال من بعض
التجار القاطنين بعدن فيما كثر تعاطيه في الناس ليكونوا على بصيرة من أمره ونص
سؤاله هو:
ما قولكم دام فضلكم في معاطاة التجار مع الإفرنج الجارية في هذا الزمان بغير
صيغة شرعية أصلاً، وهو أن التاجر إذا أراد إرسال مال له إلى بلد آخر على طريق
البحر يطلع ماله في إحدى البوابير الذاهبة إلى تلك البلاد المطلوب إرسال المال إليها؛
فإذا أطلع التاجر ماله وسلم نولاً على المال، وأخذ ورقة من قبطان الوابور
بوصول المال إليه في الوابور، ومقداره، وثمنه، ثم إذا كان موجود أحد الإفرنج
وعرض التاجر عليه ورقة صاحب الوابور، وسلم له على المال المقدر فيها على
كل مائة (ربية) خمس (ربيات) يقدر المال الذي طلعه، ثم يسلم له الإفرنجي
ورقة بعلامته متضمنة بكلام الإفرنج ضمانة المال عليه إذا غرق في البحر، فهو
يعطيه ثمنه بقدر ما هو محرر في ورقة قبطان الوابور، وسموا هذه المعاملة (بيمه) .
ثم إنه يوجد إفرنجي آخر إذا احتاج التاجر المذكور ثمن ماله الذي أرسله مقدمًا
فيعرض عليه ورقة الإفرنجي المتضمنة الضمان للمال؛ فعندما يراها يقدم للتاجر
ثمن ماله، ويحوله التاجر على وكيله الذي يستلمه بتلك البلدة الأخرى إن سلم المال
من الغرق، وإلا فيستلم ذلك الإفرنجي الأخير من الإفرنجي الأول الذي سلم الورقة
المتضمنة لضمان المال بلغتهم، فهل - والحال هذا - إذا جرت هذه المعاملة منا مع
أهل حرب أو مؤمنين من غير ألفاظ شرعية أصلاً، تكون من قبيل ما لو أعطونا
شيئًا من حقهم مجانًا برضاهم؟ ويجوز أخذهما أم لا يجوز ذلك أصلاً؟ أفتونا
مأجورين نفع الله بكم المسلمين. اهـ.
(الجواب) فقلت وبه القوة والحول: إن هذه المسألة هي من حوادث الزمن
الأخير، لم أر من تكلم عليها من أئمتنا الشافعية في كتبهم المتأخرة فيما اطلعت من
حيث إن الباع قصير والمقام خطير، تكأكأت مدة عن الجواب، وصاحب السؤال
يلح عليَّ في الخطاب، ويطلب مني بيان حكم الله - تعالى - فيها فلم أجد بُدًّا من
إسعافه؛ فاقتحمت ذلك متحريًا فيما هنالك، مجتهدًا في استخراجها من كلام الأئمة
تصريحًا، أو تلويحًا، فأول ما وقفت على كلام في ذلك لخاتمة محققي السادة الحنفية
الإمام العلامة ابن عابدين في حاشيته على الدر حيث قال في فصل في استئمان
الكافر بعد كلام في ذلك ما نصه: (وبما قررناه يظهر جواب ما كثر السؤال عنه
في زماننا، وهو أنه جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبًا من حربي فيدفعون
له أجرته، ويدفعون أيضًا معلومًا لرجل حربي مقيم في بلاده ويسمى ذلك المال
(سوكره) على أنه مهما هلك من المال الذي في المركب بحرق أو غرق أو نهب أو
غيره فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذه منهم، وله وكيل عنه مستأمن في دارنا
مقيم في بلاد السواحل الإسلامية بإذن السلطان يقبض من التاجر مال السوكره، وإذا
هلك من مالهم في البحر شيء يؤدي ذلك المستأمن للتاجر بدله تمامًا، والذي يظهر
لي أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله؛ لأن هذا التزام ما لا يلزم ا. هـ.
أي فلا يحل أخذ ماله بعقد فاسد.
أي هذا الحكم مع المستأمن في دارنا، قال بخلاف المستأمن في دار الحرب،
فإن له أخذ مالهم برضاهم، ولو بربا أو قمار لأن ماله مباح لنا إلا أن الغدر حرام
وما أخذ برضاهم ليس غدرًا من المستأمن منهم في دارنا؛ لأن دارنا محل إجراء
الأحكام الشرعية؛ فلا يحل لمسلم في دارنا أن يعقد مع المستأمن إلا ما يحل من
العقود مع المسلمين، ولا يجوز أن يؤخذ منه شيء لا يلزمه شرعًا، وإن جرت به
العادة كالذي يؤخذ من زوار بيت المقدس. اهـ نقلته عن حاشية الدر لابن عابدين.
نرجع إلى الحكم على عدن هل هي الآن دار حرب لاستيلائهم عليها، أو
باقية دار إسلام على أصلها؟ نص في شرح الدر أن دار الإسلام تصير دار حرب
بثلاثة أمور: بإجراء أحكام الشرك، وباتصالها بدار الحرب ولا يعد البحر فاصلاً
بل قال تقدم أن بحر الملح ملحق بدار الحرب، والشرط الثالث أن لا يبقى فيها مسلم
أو ذمي آمنًا بالأمان الأول على نفسه، أي الأمان الذي كان ثابتًا قبل استيلاء الكفار
للمسلم بإسلامه، وللذمي بعقد الذمة اهـ. بتوضيح في حاشيتها لابن عابدين.
ولا شك أن هذه الشروط قد وجدت في عدن، فهي دار حرب عند السادة
الحنفية، ويجوز للمسلم فيها أخذ مالهم برضاهم ولو (بربا) وقمار كما تقدم آنفًا
عن العلامة ابن عابدين، أما عند الإمام الشافعي فلا تعتبر دار الإسلام دار حرب
مطلقًا، أي سواء غلب عليها الكفار أم لا منعوا المسلمين، أم لا كما في باب الجهاد،
من شرح المنهاج للإمام ابن حجر رحمه الله تعالى.
هذا ما عند السادة الحنفية، أما حكم السؤال على مذهب السادة الشافعية؛
فالذي ظهر لي من كلام فقهائنا أنه إذا لم تجر هذه الالتزامات بمعاطاة أو صيغ فاسدة
في الشرع، ولا يتلفظ بشيء منها، بل يعطيه ذلك المال بمجرد أوراق تتضمن ذلك
الالتزام على وجه إرضاء واختيار فلا بأس بقبوله من كافر أو مسلم وما أظن أحدًا
يخالف في جواز قبوله، كيف وقد نبه العلامة ابن حجر في الإيعاب في باب البيع
عند القول بجواز المعاطاة حيث قال: (ولك أن تقول الكلام جميعه مفروض فيمن لم
يعلم أو يظن رضا المأخوذ منه، ولو بلا بدل أما من علم أو ظن رضاه فلا يتأتى
فيه خلاف المعاطاة؛ لأنهم إذا جوزوا لهم الأخذ من ماله مجانًا مع علم الرضا أو ظنه
فلأن يجوز الأخذ عند بدل الشيء أولى؛ لأن المدار ليس على عوض ولا على
عدمه، بل على ظن الرضا، وحيث وجد عمل به وحينئذ لا يكون أخذًا من باب
البيع لتعذره، بل من باب ظن الرضا بما وصل إليه وعجيب من الأئمة كيف أغفلوا
التنبيه على ما ذكرت، وكأنهم وكلوه إلى كونه معلومًا) اهـ كلام الإيعاب، وكذلك
ما يؤخذ في صورة السؤال لا يكون من باب الضمان ولا عدمه، بل من أخذه
بالرضا والاختيار، هذا ما ظهر لي في المذهبين، وفوق كل ذي علم عليم والله
سبحانه وتعالى أعلم.
(الختم)
... ... ... ... ... ... الواثق بخفي الألطاف
... ... ... ... ... ... ... ... علوي بن أحمد السقاف
... ... ... ... ... ... ... ... كان الله لهما آمين.
ثم كتب عند قوله (بل من باب أخذه بالرضا والاختيار) ولك أن تقول هذا
الكافر الملتزم للغرم عند التلف فيما كتبه للمسلم مترددًا بين غنم وغرم؛ فيحتمل أن
يكون من أنواع القمار الممنوع إقراره عليه، فنقول: على فرض تسليمه أنه نوع
منه، فلا نمنعه منه إلا إن كان من الملتزمين لأحكامنا، أما كالذي في عدن كما هو
في صورة السؤال فليس من الملتزمين لأحكامنا، بل ربما قهرونا على مجاراة بعض
أحكامهم كما هو مشاهد فلا مانع من أخذ ماله برضاه، هذا ما تبادر إلى فهمي الفاتر
وعلمي الناقص فإن أصبت فمن الله، وإن وجد نص يعتمد بخلافه فالمرجع إليه والله
ولي التوفيق.
(المنار)
إن ما يسمونه (سوكرة البضائع) عقد تأمين وضمان يقوم بين التاجر
صاحب البضاعة، وبين رجل آخر هو وكيل شركة كبيرة والورقة التي ذكرها
السائل العدني في استفتائه هي صك بعقد تأمين والضمان فهي متضمنة للإيجاب
والقبول والفقهاء يعدون هذا العقد فاسدًا؛ لأن الضامن يلتزم فيه ما يلزمه شرعًا وكان
يظن أنه يأخذ ما يأخذه بدون مقابل ولكننا علمنا من بعض التجار أن لهذه الشركة
التي تؤمن التجار على بضائعهم وتضمن لهم ما يهلك منها أعمالاً في حفظ البضائع
تتفق به مع شركات النقل في المراكب وغيرها وهي إذن من قبيل الإجارة كأن
التاجر يستأجر صاحب الباخرة للنقل وصاحب التأمين للحفظ فما يأخذانه من المال
على ذلك يعد أجرة عملهما فعلى هذا يجوز للتاجر أن يسوكر بضاعته ثم إذا هي
تلفت بتقصير في الحفظ؛ جاز له أخذ ضمان عنها، وأما إذا تلفت بدون تقصير في
حفظها فلا يجوز عند الفقهاء أخذ الضمان؛ لأنه لا يلزم الأجير وإن التزمه، وقد
خرَّج السقاف الجواز في الواقعة المسئول عنهاعلى مذهب الحنفية بأنه أخذ لمال الحربي بعقد فاسد بغير عذر ولا خيانة، وهو جائز وعلى مذهب الشافعية بأنه
مال أخذ برضاء صاحبه وسكت عن إعطاء الأجرة.
ويجب التنبيه ها هنا إلى مسألة مهمة وهي أن ما يشترطه الفقهاء باجتهادهم
من شروط صحة العقود وفسادها ولزوم ما يلتزم فيها وعدمه ونفوذ الحكم بها وعدم
نفوذه ليس من الأمور التعبدية التي يتقرب بها إلى الله تعالى بحيث يكون العقد الفاسد
معصية من المتعاقدين؛ وإن كان برضاهما واختيارهما بلا غش ولا تغرير، كلا إن
هذه مسائل وضعت لأجل ضبط الأحكام وحفظ الحقوق وتسهيل الحكم بالعدل على
القضاة فهي لا تسلب الناس حرية التصرف في أموالهم بما يرونه نافعًا لهم في
حفظها، أو تنميتها مع التزام حدود الله الثابتة في كتابه العزيز وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم؛ كتحريم الغش، والتغرير، والخداع، والغصب، ونحو ذلك وهذا
هو مراد ابن حجر الفقيه؛ إذ جوز الأخذ والعطاء بالتراضي فيما كان مخالفًا لشروط
صحة عقد البيع (ومثل البيع غيره من العقود) فكأنه قال: إن هذه الأركان
والشروط التي ذكروها لصحة العقود هي التي يلزم الحاكم الناس بها إذا تنازعوا فإذا
تراضوا فيما بينهم على خلافها فلا حرج عليهم، وعد هذا من الأمور التي سكت
عنها الأئمة لكونها معلومة بالبداهة فتبين من هذا أن العاقل الرشيد له أن يتصرف في
ماله ما لم يرتكب محرمًا، والمحرم فيه ضرر بالفاعل أو بغيره؛ فإذا ثبت بالاختيار
أن هذه (السوكرة) نافعة غير ضارة فهي جائزة إذ لم يرد نص من الشارع في
تحريمها ومدار الاجتهاد في أحكام المعاملات على دفع الضر وجلب المنفعة وحفظ
المصالح، وإذا ثبت بالاختبار أنها ضارة، ومضيعة للمال بغير فائدة كانت محرمة
والله تعالى أعلم.