للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الوطنية والقومية والعصبية والإسلام

(س١-٦) من صاحب الإمضاء:
صاحب الفضيلة والعالم العلامة الشيخ رشيد رضا أطال الله عمره.
تحية وسلامًا. وبعد، فإن في بلادي إندونيسيا الآن حركة استقلالية قوية
وكفاحًا مستمرًّا بين الإندونيسيين والمستعمرين، ولسوء الحظ ظهر في وسط هذا
الجهاد، وفي خلال هذه المعمعة والنضال فريق من علماء الدين، والحاملين لواء
الحق، يحرمون الوطنية، ويحاربون الوطنيين باسم الدين الإسلامي وتعاليمه
ويرمونهم بالمروق، ويغرون العداوة بين العامة والزعماء والقادة حتى أصبحوا بين
نارين نار المستعمرين، ونار علماء الدين، وهذا بلا شك بلاء عظيم.
أعلم تطور الحركة الوطنية في مصر، وأعلم أن رجال الدين فيها كانوا في
طليعة المجاهدين، والحاملين لواء الوطنية، وما كانوا يومًا ما من ألد أعدائها، نعم
أذكر رجال الأزهر، علماءها وطلابها الذين يقودون المظاهرة تلو المظاهرة،
ويسقطون في الميدان والشوارع، فلأجل هذا كله توجهت إلى مقامكم الكريم
لاستجلاء هذه الأمور والاستفهام عن الأسئلة الآتية، فإذا تكرمتم بالجواب فقد أسديتم
للأمة الإندونيسية نعمًا عظيمة، وبينتم لها طرق الهدى، وسبل الحق، وهذه
الأسئلة هي ما يأتي:
(١) أصحيح أن هناك أحاديث تحرم الفكرة الوطنية القومية؟
(٢) هل قوله: (لا عصبية في الإسلام) وقوله: (ليس منا من دعا بدعاء
الجاهلية) حديثان صريحان في تحريم الوطنية؟
(٣) هل هناك فاصل بين العصبية والوطنية؟ وهل الوطنية داخلة في
معنى العصبية؟ ما هي العصبية عند العرب؟
(٤) ما وجهة نظر الإسلام نحو الفكرة الوطنية، وهل هي تعارض الوحدة
الإسلامية؟ وما المقصود بالوحدة الإسلامية؟
(٥) المعروف أن الشيخ محمد عبده الفيلسوف العظيم أبو الوطنية
والوطنيين؛ لأن في بيته في حلوان نشأ سعد واجتمع رجالات مصر، وما رأيكم
في هذا باعتباركم ناشر مذهبه وناشر تاريخ حياته!
(٦) ما نوع الوطنية التي يجب أن يتحلى بها الشاب المسلم؟
هذه هي الأسئلة التي أرجو أن تتكرموا بالجواب عنها ويستحسن الجواب
على صورة مقالة متسلسلة، ولكم مني بالنيابة عن الأمة الإندونيسية جزيل الشكر
والسلام
... ... ... ... ... ... ... ... نصر الدين طه الإندونيسي
(جواب المنار) هذه الأسئلة في موضوع مسألة واحدة ذات شعب، وقد
قدمناها على غيرها؛ لأنها أهم من كل ما لدينا من الأسئلة، فنجيب عنها جوابًا
واحدًا مجملاً مختصرًا؛ لأن ما بعد هذه الورقة من هذا الجزء قد طبع فنقول: إن
العصبية عند العرب نسبة إلى العَصَبَة بالتحريك، وهم قوم الرجل الذين يتعصبون
له، أي يحمونه ويحامون عنه وينصرونه ظالمًا كان أو مظلومًا، وأصل العصبة
أقارب الرجل الذين يرثونه ثم توسعوا فيها، وهي مأخوذة من العصب، وهو شجر
اللبلاب الذي يلتوي على الشجر ونحوه.
ومن المعلوم من الإسلام بالضرورة أنه يحرم تعصب الظلم للأقارب وللقوم
والموطن ويحرم العداوة والشقاق بين المسلمين بتعصب كل فريق لقومه أهل بلده أو
إقليمه على إخوانهم في الدين وغيرهم إلا أهل الحرب، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه
وسلم بقوله: (العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم) رواه الإمام أحمد، ومن
المعلوم من الإسلام بالضرورة أيضًا أنه يفرض على أهله عداوة من يعتدي عليهم من
الأجانب وقتالهم فقد صرَّح جميع الفقهاء بأن الجهاد يكون فرضًا عَيْنِيًّا إذا اعتدى العدو
على المسلمين أو استولى على بعض بلادهم، وهذا دفع للظلم، فمن الجهل الفاضح
أن يُحَرَّم عليهم، ويُسْتَدَلَّ على تحريمه بعصبية الجاهلية المنهي عنها في بعض
الأحاديث كالذي كان بين الأوس والخزرج من الأنصار رضي الله عنهم، هذا مجمل
الجواب عن الأسئلة الثلاثة الأولى.
وأما فكرة الوطنية العصرية فهي عبارة عن اتحاد أهل الوطن المختلفي
الأديان وتعاونهم على الدفاع عن وطنهم المشترك وحفظ استقلاله، أو إعادته إن فقد،
وعلى عمرانه، فهي لا تظهر في جزائر إندونيسية كظهورها في مصر، ونظر
الإسلام فيها أنه يوجب على المسلمين الدفاع عمن يدخل في حكمهم من غيرهم
ومساواته بهم في الأحكام الشرعية العادلة، فكيف لا يجيز اشتراكهم معهم في الدفاع
عن البلاد وحفظ استقلالها والعناية بعمرانها؟ وقد رفع الصحابة رضي الله عنهم
الجزية عمن شاركهم من أهل الذمة في الحرب في خلافة عمر رضي الله عنه، كما
بيَّنَّاه بالشواهد في الجزء العاشر من تفسير المنار.
وأما نوع الوطنية التي يجب أن يتحلى بها الشاب المسلم فهو أن يكون أسوة
حسنة لأهل وطنه على اختلاف مللهم ونِحَلِهِم ومشاركًا لهم في كل عمل مشروع
لاستقلاله وترقيته بالعلم والفضيلة والقوة والثروة على قاعدة الشرع الإسلامي في
تقديم الأقرب فالأقرب في الحقوق والواجبات، وأن لا يغفل في خدمته لوطنه وقومه
عن كون الإسلام قد كرَّمَه ورفع قدره بجعله أخًا لمئات الملايين من المسلمين في
العالم فهو عضو لجسم أكبر من قومه، ووطنه الشخصي جزء من وطنه الملي وإنه
يجب عليه أن يتحرى جعل ترقي الجزء وسيلة لترقي الكل.
وأما الوحدة الإسلامية فهي تتحقق ببضع روابط بيَّنَّاها في كتابنا (الوحي
المحمدي) وفي تفسيرنا ومنارنا، فراجعوها وراجعوا في الجزء الأول من تاريخ
الأستاذ الإمام (ص٩١٧) رأيه في الوطنية والدين، وفي الجزء الثاني منه مقالاته
في الجنسية وفي التعصب.