للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التربية النفسية
من الناس من يرغب عن قراءة ما يُكتب في شؤون الأطفال احتقارًا له كما أن
الأطفال محتقَرين عندهم ولا يلذّ لهؤلاء إلا الكلام عن الملوك والحكام وشؤون الدول
والأمم، وهذا دليل على أنهم أصحاب أهواء لا نفع لقراءتهم؛ فإن الملوك والحكام
كانوا أطفالاً وأحوالهم - في كبرهم - مبنيَّة على تربيتهم في صغرهم، والأمم مؤلفة
من الأفراد الذين لم يوجد واحد منهم كبيرًا قط. فتربية الأطفال هي المسألة الأساسية
في حياة الأمة، فمَن لا يكترث لها لا يكترث للأمة كلها، مهما ثرثر وتشدق في
الكلام عنها.
يرى المراقب للأطفال والولدان أن الكذب والشراسة والظلم والتعدي والأثرة
والدناءة والشَّرَه ونحوها من الرذائل - أغلب عليهم من الصدق والدَّعَة والإنصاف
والرضى بالحق والمؤاثرة على النفس والشهامة والعفة وأشباهها من الفضائل؛ ولهذا
ذهب بعض علماء الأخلاق إلى أن الإنسان شرِّير بالطبع وإنما يكتسب الخير
بالتربية والتعليم. وهذا باطل كمقابله وهو أن الإنسان خيِّر بالطبع ويطرأ عليه الشر
من فساد التربية والتعليم. والحق أنه - في أصل فطرته - قابل للأمرين على السواء
وهناك مرجِّحات ترجّح أحدهما على الآخر أضعفها حالة القطر ونوع المزاج
وأقواها الوراثة والتربية والتعليم وغلبة الشرور والرذائل على الأطفال، إنما هي
من سوء الوراثة والتربية معًا؛ لأن أهل التهذُّب والتهذيب في الدنيا قليلون. ولا
يكفي في وراثة الخير والفضيلة أن يكون الأبوان خيِّرين فاضلين؛ لأن الطفل كما
يرث من والديه يرث من أجداده وإن علوا، وهذه الوراثة لا يحجب الأدنى فيها
الأعلى كإرث الأعيان شرعًا.
يتهاون الناس بتربية الطفل الأدبية من أول النشأة زاعمين أنه لا يفهم ولا يعقل
فيغرسون في تربة نفسه الطيبة بذور الرذائل، فلا يلبث أن ينمو ذلك الغرس فيجنون
منه حنظلاً ويطعمون ضَريعًا وزقُّومًا. أول شيء يتعلمه الطفل الكذب الذي هو منبع
الشرور وجرثومة الرذائل، أرأيت كيف تُسكته جدته أو عمته إذا بكى في غيبة
المرضع بإلقامه ثديها الذي لا لبن فيه؟ ! أرأيت كيف يلاعبون الوليد فيأخذون منه
الألهية (ما يُتَلاهَى به) ويحجبونها عن عينه، قائلين: أخذها البعبع أو الغراب!
ثم يُظهرونها له؟ ! فيثبت مثل هذا الكذب في نفسه بالتكرار، ويكون ملكة راسخة
لا يتأتى الرجوع عنها بعدُ بمجرد قول أبيه أو معلمه: إن الكذب قبيح أو حرام إلا
إذا عقل وقويت إرادته وجاهد نفسه على الاحتراس من الكذب وتحري الصدق زمنًا
طويلاً، فقد جربنا هذا وقاسينا منه العناء عدة سنين ورُبَّ كلمة واحدة يتعلم بها الولد
عدة رذائل، وذلك كأن تعطيه أمه تفاحة وتقول له: اخفِ خبرها عن أخيك. تعلِّمه
بها الكذب والأَثَرَة والبخل والظلم، حيث لم تساوِ بينه وبين أخيه وسوء المعاشرة
والسرقة؛ لأن مبدأها أخْذ الشيء خُفية وغير ذلك.
ومن الجهالة الدائمة والمنتشرة ما يعتقده أكثر الناس من أن الكذب على
الصغار مباح، وأصل هذا قول بعض العلماء: يجوز ترغيب الصبي أو ترهيبه في
حمله على الذهاب إلى المكتب ونحوه، ولو بما لا ينوي المرغب والمرهب الوفاء
به، وهذا إذا تعذر حصول المصلحة بغير ذلك وكيف يعقل أن الشريعة الحكيمة تبيح
إفساد نفوس الولدان بطبع هذه الرذيلة في نفوسهم؟! روى ابن أبي الدنيا من حديث
أبي هريرة مرفوعًا: (مَن قال لصبيه: ها أعطيك. فلم يعطِهِ كُتبت كذبة) ومن
حديث ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا من حديث طويل: (وأن الكذب لا يصلح منه جد
ولا هزل ولا يعِد أحدكم صبيًّا ولا ينجز له) وجميع ما ورد في الكتاب
والسنة من التشديد والوعيد على الكذب يتناول الكذب على الصغار، بل ربما
كان هذا النوع من الكذب أقبح من غيره؛ لأن المكذوب عليه يتضرر منه بطبع ملكة
الرذيلة فيه، بخلاف الكبير فإنه يبقى على ما رُبي عليه غالبًا، فليعتبر الآباء
والأمهات بما ذكرنا وما سنذكر بعد.
((يتبع بمقال تالٍ))