لشيخ الشعراء ونادرة الأدباء ونابغة الفيحاء عبد الحميد بك الرافعي
نشرنا في ص ٢٣٨ م٢٩ الإذاعة التي نشرتها اللجنة التي ألفت في طرابلس الشام للاحتفال بهذا العيد الأدبي الوطني، وكنا ننوي حضوره لما تقضي به علينا الحقوق الشخصية الموروثة، علاوة على الحقوق الوطنية والقومية والأدبية، فشاعرنا الكبير في مقدمة أصدقائنا الأوفياء بالتعارف الروحي الأدبي والمتوارث عن الآباء والأجداد. كان والده الشيخ عبد الغني يكرمني تكريمه لأعز أنجاله وأنجب تلاميذه، ويثني عليَّ في بداية طلبي ثناء كنت أخجل من ذكره، وكانت الزيارات والمودة متصلة من قبل بين الآباء والأجداد، وعهدته مصطافًا بدارنا في القلمون مع أهل بيته بمقام سيد الدار وكبير الأسرة. ثم قد بلغت بيني وبين الشيخ محمد كامل الرافعي الشقيق الأكبر لعبد الحميد بك درجة الكمال كما ذكرت ذلك في ترجمته رحمه الله تعالى، وكان نادرة المثال في هذا العصر في الاشتغال بالعلوم العالية، والتخلق بالأخلاق السامية، حتى أنني لما زرت الوطن في عام الدستور العثماني (سنة ١٣٢٧ هـ ١٩٠٩م) لم يكن يسمح لي أن أبيت عند والدتي إلا ليالي قليلة، فكنت في معظم المدة التي أقمتها في طرابلس أبيت عنده في حجرة نومه، وكان جل حظنا من هذا المبيت المذاكرات العلمية فالاجتماعية والسياسية قبل النوم وبعد صلاة الفجر في أول وقتها بالجامع الكبير المجاور لدارهم، دع تلك المسامرات والمساجلات الجميلة، في تلك الليالي الشتائية القصيرة الطويلة، في تلك الدار التي كان عبد الحميد بك نجم سمائها المتألق، وغيث آدابها المتدفق. وكنت لما اقترن عبد الحميد بك نظمت وأنا تلميذ مبتدئ موشحًا كالموشحات الأندلسية في تهنئته أنشدته بنفسي في حفلة الزفاف وهي أول تهنئة نظمتها، وأول قصيدة أنشدتها، في أرقى محفل، وأكرم منزل، أذكر بعض ما أحفظ منها، وتشفع لي البداية في ضعفها: أسقط الطل في نبت الحمى؟ أم لآل فوق بسط السندس؟ أم نجوم تتراءى في السما ... أم ثغور زينت باللعس *** ياعُريبا تخذوا نبت اللمى ... عند فقد الحرث منه بدلا وبقلبي قد تركتم ألمًا ... لم يغادر لنجاتي أملا لي منكم غادة لم يدر ما ... بفؤادي طرفها قد فعلا حيث قالت حين زارت ريثما ... تقف الأنجم بعد الغلس احذر الأنس بغيري إنما ... كنت إنسانًا لفرط الأنس *** إن نجم الكأس فيما قد حوى ... هز منها العطف إذ تغتبق غربت شمس الطلا لما هوى ... فبدا في وجنتيها الشفق وبجفنيها لأرباب الهوى ... إن تأملت عدو أزرق دائمًا يفخر في سفك الدما ... ويباهي بهلاك الأنفس يسلب الروح برفق مثلما ... تسلب الراحة عقل المحتسي ومنه في مدحه: لسن إن نظم الشعر غدًا ... يتراءى فوق طوق البشر تنصت الناس إذا ما أنشدا ... كيف تصغي لاستماع السور كلما كرر يحلو موردًا ... وهو لم يهجر لفرط الخصر ما أبو الطيب إما نظمًا ... وابن هاني شاعر الأندلس ليس يهنئك إذا شعرهما ... وبه لم تلق طيب الأنفس فإذا كانت باكورة شعري في التهاني قد أنشدت في عيد زفافه فأجدر بي أن أكون أول السابقين إلى حضور حفلة عيده الذهبي، وأول الساجعين بمناقبه ومناقب أبيه وأخيه وبيته؛ ولكن أحكام القدر القاهرة غلبتني على أمري، وما زالت غالبة لكل الخلق، فحالت دون ما تصبو إليه نفسي ويوجبه على روحي وعقلي، وما كان إلا خيرًا يعذرني به أخي وصديقي، فقد أنعم الله تعالى علي بشراء دار بل قصر، في حي الإنشاء من مصر، وكان من قضائه وقدره أن أنتقل إليها بالعيال والمطبعة والمكتبة في الشهر الذي أقيمت فيه حفلة العيد الذهبي له، وأن أجدد بجانبها بناء للمطبعة، ولا أزال حتى كتابة هذه السطور في العشر الأخير من ذي الحجة مشغولاً بذلك، وقد اعتذرت للجنة الاحتفال ببرقية تليت عقب افتتاحها هذا نصها: لجنة يوبيل الرافعي (بطرابلس المدينة) : أساهمكم بروحي وجناني، وقلبي ووجداني، ما حال القدر القاهر دون السعي له بجثماني، من الاحتفال بيوبيل شاعرنا الأسمى، وصديقي الأوفى، محيي أدب العرب، ووارث مجد العلم عن خير أب وجد. ... ... ... ... ... ... ... ... ... رشيدرضا خبر الوفد المصري للعيد: هذا وإنني كنت قد اتفقت مع أمير الشعراء أحمد شوقي بك وشاعر القطرين خليل بك المطران ثم مع أحمد شفيق باشا وكيل الرابطة الشرقية على تأليف وفد منا يرغب السفر إلى طرابلس معنا للاشتراك في هذا الاحتفال، وجعله في نظامه الحلقة الثانية من حلقات مؤتمرات الأدب العربي؛ إذ كانت حفلة شوقي هي الأولى منها، وأنا الذي اقترحت بالاتفاق مع هؤلاء تأخير موعد الاحتفال من شهر كانون الثاني (يناير) إلى شهر نيسان، لأن السفر في عنفوان الشتاء مما يشق على كل إنسان، ثم عرض لي من العذر ما أشرت إليه من قبل وعرض مثله لأحمد شفيق باشا، فقد انتهت إجارته للدار التي كان يسكنها وتجتمع فيها الرابطة الشرقية، وتم بناء الدار التي أنشأها في روضته من شبرا على ضفة النيل، واحتاج إلى الانتقال إليها في شهر أبريل، كما أنه استأجر مكانًا للرابطة الشرقية نُقلت إليه فيه، وعرض لخليل بك المطران عذر يتعلق بوظيفته الرسمية، وكنت كلمت أيضًا نصيري العرب والأدب أحمد زكي باشا وحمد الباسل باشا فأظهرا لي الرغبة القلبية في السفر؛ ولكن فاجأني خبر تحديد السابع من الشهر للحفلة في اليوم الثالث منه فتعذر تأليف الوفد في بقية الأسبوع ممن لم تمنعهم الأعذار القاهرة، وكان أحمد زكي باشا قد شرع في الدعوة إلى حفلته الشرقية الغربية التي اشتهر خبرها، وبقي إلى يوم الجمعة وهو اليوم الخامس منه يرجو أن يتمكن من السفر فلم يُتح له، وتأخر أحمد شوقي بك في نظم قصيدته فلم يدرك بها الاحتفال، فنشرت في الجرائد، فهذا عذر مصر وعذر عارفي فضل الرافعي وآل الرافعي من المصريين في تقصيرهم. ثم رأيت من الواجب عليَّ أن أنوه بهذا العيد السعيد في المنار، وأبلغ خبره ما يبلغه من الأقطار، فأذكر فيه شيئًا مما كنت أحب أن أقوله فيه، وأحسن ما أنشد الشعراء في مناقب صاحبه وذويه، ولولا أنني تركت نظم الشعر منذ ثلث قرن بالتقريب فلم أنظم بعد أن هاجرت من طرابلس قصيدة ولا مقطوعة، فلا مطمع لي الآن في وصل ملكته بعد طول هذه القطيعة، وأحمِّلها ما تستطيع حمله من آيات سروري، وكنت وعدت بأن أقول هنالك كلمة في تاريخ الأسرة الرافعية ومكان بيت الشيخ عبد الغني منها، تعريفًا لمن يجهل من وفود عيد هذا الكوكب الدري من كواكبها، بعض ما أعرفه دونهم من غرر مناقبها، والآن فات المقتضي لذلك التفصيل؛ والموانع الشواغل لا تأذن من الإجمال إلا بالقليل. مكانة الرافعية وبيت شاعرنا منها: الأسرة الرافعية أشهر بيوتات العلم في ديار الشام ومصر، فهي إذًا أشهرها في الأمة العربية والأقطار الإسلامية، وكان جُل شهرتها في فقه الحنفية، وقد تولى كثير من رجالها مناصب القضاء والإفتاء في الديار المصرية والممالك العثمانية، واشتهر بعض شيوخها بالإرشاد والصلاح؛ ولكن بيت الشيخ عبد الغني قد اجتمع فيه من المناقب والفضائل ما لم يتفق لأحد منهم، وقلما اتفق مثله لغيره من غيرهم. كان الشيخ عبد الغني آية في الذكاء والزكاء، والهمة والمضاء، طلب العلوم العربية والشرعية ففاق فيهما الأقران، وسلك طريق الصوفية ففات أهل العرفان، وإنما سلكها بالمجاهدة العملية، دون الرسوم والمظاهر الصورية، فكان من أولي الفرقان في درجات العرفان، بعد أن قطع المراحل متنقلاً في المنازل، حتى ذاق طعم الفناء، وبلغ حال الجمع، ثم ارتقى إلى مقام الفرق بحكم الشرع، كما أنه اشتغل من تلقاء نفسه بآداب اللغة كآداب النفس، وراض جواد يراعه في ميداني النثر والنظم، وقد سمعت منه أنه قرأ كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي ثلاثين مرة، وقرأ إحياء العلوم للغزالي مرارًا كثيرة، وناهيك ببلاغة عبارتهما، وحسن إنشائهما، فكان كاتبًا يستخرج الدرر من أعماق البحور، كما كان شاعرًا ينظمها كالعقود في نحور الحور، ولا أدري أي دواوين الشعراء كان يحفظ، وإنما أعهد أنه كان حسن الاختيار، لكل ما يراجع من الدواوين والأسفار. وقد ولي منصب القضاء في ولاية صنعاء اليمن وأقام فيها عدة سنين عاشر في أثنائها علماء الزيدية وناظرهم، ورأى ما لم يكن يعرف من المصنفات في خزائن عاصمتهم، فعاد إلى طرابلس الشام بعلم جديد كانت تصبو إليه سلامة فطرته، وينبو عنه أو يحول دونه حال وطنه ودولته، ألا وهو الاستقلال الاجتهادي في العلم وفقه الحديث، وكان الذي هداه إلى هذا كتاب نيل الأوطار للإمام الشوكاني الصنعاني، يظهر أنه جاء به من اليمن وهو مطبوع في مصر، وكان يقرؤه درسًا في بهو داره، فيحضره المنتهون من طلاب العلم من أنجاله وغيرهم، وقد حضرت بعض دروسه بالاتفاق، وكان ذلك قبل شروعي في طلب العلم، ولم أنس جرس صوته ولا إشارة يده عند نطقه بالكلمة التي يكررها الشوكاني في التعبير عن الترجيح بين الأقوال المتعارضة في المسائل، بعد المعادلة بين الدلائل، أعني كلمة (وهو الحق) إذ كان الشيخ يرفع بها صوته ويخفض يده إقرارًا لها واستحسانًا. نعم كان مستعدًا بفطرته الذكية وإخلاصه في طلب العلم للاستقلال في الفهم واتباع الدليل، وزادته قراءة الإحياء فكُتب الشيخ عبد القادر الجيلي استعدادًا له ونفورًا من التقليد، ثم كمَّل له ذلك بقراءة نيل الأوطار في فقه الحديث، فكان في آخر عهده محدثًا فقيه النفس، صوفيًّا مصفى من آفات النفس، ولم يكن في يوم من الأيام صوفي تقاليد وحلقات أذكار، وسماع دفوف أو أوتار، وإنما تصوفه علم وأخلاق. كان من أزهد الناس في الدينا بقلبه، وأصدقهم توكلاً على ربه، على كونه أطيبهم عيشًا في مطعمه ومشربه ولباسه وزينة داره، وكان أشد الناس تواضعًا للفقراء والمساكين، على كبر جاهه ورفعة مقامه عند الحكام المتكبرين، والكبراء المفنقين المتأنقين، فكان يضع يده في يد من يعاشرونه من الفقراء كالشيخ صديق الأفغاني ويماشيه في السوق، ويذاكره في آفات النفس والمعرفة وفلسفة الأخلاق، مذاكرة الأقران للأقران، وقد سبق لي ذكر غير هذا من مناقبه وفضائله في المنار. وقد ورث كل نجل من أنجاله ما شاء الله أن يرث من شمائله وخلاله. واقتبس من أدركه منهم من معارفه وأدبه وحكمته، ماهو مستعد له بعقله وذوقه وغريزته، كما أشرت إلى ذلك في رثائه: فللمعارف والإرشاد كاملهم ... من حالف العلمُ فيه الهدى والعملا وفي البلاغة كم عبد الحميد سما ... وللتحدي بها آي البيان تلا ولم أر مثلاً لامتياز بيت عبد الغني في رافعية سورية إلا امتياز بيت عبد اللطيف في رافعية مصر، فهو قد أنجب عالمين سياسيين حقوقيين كاتبين بليغين مؤلفين، خدما مصر في صحفها ومصنفاتها التاريخية السياسية أجل خدمة، وهما أمين بك صاحب جريدة الأخبار رحمه الله، وعبد الرحمن بك صاحب المصنفات المشهورة حفظه الله، وكل منهما حافظ على شرف أسرته بقوة عقيدته، والمحافظة على عبادته، فتم بهما للأسرة الرافعية خدمة أمتهما العربية، في وطنيهما مصر وسورية، من جميع الطرق الدينية والدنيوية. عبد الحميد الرافعي: امتاز عبد الحميد الرافعي بحب الفصاحة وعشق البلاغة، على ذوق في البيان دقيق، وأسلوب في الشعر رشيق، وسليقة كانت تنبجس من عين غريزته وتستمد من بحر والده، وكانت كتب الأدب وفنونه، والشعر ودواوينه، لا ترتقي في عهد طلبه للعلم عن كتاب الجوهر المكنون إلى شرحي التلخيص للسعد إلا قليلاً، ولا تتجاوز خزانة ابن حجة ودواوين البهاء زهير وابن الفارض وأمثالهما إلا نادرًا، فهو أول من عني بديواني المتنبي والبحتري، ومارس ديواني الشريف الرضي وتلميذه مهيار الديلمي، ولكن مجال الشعر في عصر نشأته كان ضيق الساحة، وحرية الكلام كانت في الدولة التركية قليلة المساحة، والباعث على إجادة المنظوم كان في حكم المعدوم، ولم يكن أحد من كبراء الدين مغرمًا به، مُغرٍ باستمالة أربابه، إلا الشيخ أبا الهدى الصيادي، ولم يكن يرضيه منه إلا ما مزج بالخرافات، وانتحال الكرامات، وقد ابتلي به أديبنا فحاول احتكاره لنفسه، وقصر أكثر شعره على مدح الرفاعي ومدحه، حتى كان يستحي من نشر ديوانه من بعده. ولو نشأ عبد الحميد في مصر لفاق جميع شعراء العصر في جميع مناحي الشعر، فبذ البارودي في الفخر والحماسة، وشوقي في السياسة والكياسة، وحافظًا في الاجتماعيات، وخليلاً في المدنيات، ورافعي مصر في الخياليات، كيف وهو على ما ذكرنا من معارضة الزمان والمكان والسلطان، مصداقًا لقول الغزالي: ليس في الإمكان أبدع مما كان. كان والده يفضل الشيخ عبد القادر الجيلاني على جميع شيوخ الصوفية، وكان الشيخ نجيب الزعبي الجيلاني من شيوخ والده في العلم، فأراد عبد الحميد أن يرضي روح والده بنظم قصيدة في مدح الجيلاني، فكانت قصيدته بما بعث عليها من روح الإخلاص أعلى من كل ما مدح به الرفاعي والصيادي بباعث القهر والإكراه، وكان من أبياتها التي لا أنكر معانيها قوله: أجل رجال الله في منتدى العلى ... مقامًا وخذ مني على ذلك الفتوى تزاحم وفد العارفين بنهجه ... سراعًا ولم يبلغ له أحد شأوا مآثره في جبهة الدهر غرة ... فلا ذكرها يبلى ولا صحفها تطوى تطيب بذكراها المسامع واللهى ... فدونك ما شئت الحليَّ أو الحلوى سليل بني الزهرا ولله نسخة ... لقد قوبلت بالأصل في اللفظ والفحوى فلما بلغت هذه القصيدة أبا الهدى كاد كجهنم يتميز من الغيظ، وكتب إلى الناظم أبياتًا يهدده فيها بطعنة من حربة الرفاعي المسمومة، أراد بها سعيه إلى عزله من عمله في الحكومة، وكان يومئذ مستنطق لواء طرابلس (أي قاضي التحقيق) فاضطر إلى السفر إلى الآستانة لاسترضائه، وتقرب إليه بالقصيدة الدالية الشهيرة التي نظمها في وصف سفره ومدحه: قعد الحظ به حتى اقتعد ... غارب السعي ومن جد وجد سامه الدهر خمولاً فنبا ... ولقد يخمل في الغاب الأسد فلما دخل عليه كان أول ما خاطبه به قبل رد السلام: أصرت تفتي يا عبد الحميد؟ يشير إلى البيت الأول من هذه الأبيات التي هاجت حسده، فأحرق كبده، وفرض عليه أن يكفر ذنب هذه القصيدة بنظم ديوان في مدح الرفاعي من جميع حروف الهجاء ففعل. صفة الاحتفال كان الاحتفال بهذا العيد الأدبي الوطني العربي في يوم من أجمل أيام الزمان، وهو السابع من شهر نيسان، إذ الشمس في برج الحمل، والدنيا تزدان من سندس الربيع بأبهج الحلل، قد تفتحت أزهارها، وتفاوحت أنوارها، وتناوحت أطيارها، وصفت من كدورة الشتاء أنهارها، ورقش بساطها الأخضر بالشقيق الأحمر، والعرار الأصفر، والبنفسج الأزرق، والأقاح الأبيض ... إلخ، وطرابلس الفيحاء تعطر جواء الأرجاء، بأريج رياضها الغنَّاء، وجنانها التي تُضرب بها الأمثال، وتُشَدُّ إليها الرحال، وناهيك بها في زمن البرتقال، وقد أخرجت في هذه الأيام أزهارها، وادخرت للضيوف بقية من ثمارها، فكانت أشجارها كالقبب، قد تدلت فيها قناديل الذهب، وعلاها من الزهر ما يشبه اللهب، ممتدة بين البحر الأبيض، وجبل لبنان الأنضر، في سهوب لا يحيط بها الطرف، ولا يدرك دقائق محاسنها الوصف. كانت الفيحاء في ذلك اليوم كسوق عكاظ: تزاحمت فيها وفود الأدباء، وتبارت في عيد شاعرها فحول الشعراء، وقد جلس في صدر المحفل رئيس الاحتفال، صاحب السماحة الشيخ محمد الجسر وهو رئيس مجلس نواب البلاد، وبجانبه الأستاذ المحتفَل به وهو رئيس الأدباء، فافتتح الجلسة بما يناسب المقام من الثناء على صاحب العيد بما هو أهله، وجدارته باحتفاء الأمة العربية به، ثم قال: إن فخامة رئيس الجمهورية الأستاذ دباس كان مزمعًا أن يؤم الفيحاء ليرأس حفلة اليوبيل، لولا موانع قاهرة، وقد أناب عنه حضرة وزير المعارف والصحة والإسعاف الدكتور أبو الروس، وذكر أنه أهدى إلى السيد عبد الحميد الرافعي وسام الاستحقاق اللبناني، وشكر للحكومة ذلك، وحينئذ نهض وزير المعارف فقلده الوسام، مع كلمة ثناء تليق بالمقام. ثم تلا الرئيس برقيات التهاني والاعتذار، الواردة من مختلف البلاد والأقطار، ثم أذن للأدباء والشعراء، بإنشاد ما لديهم من القصائد الغراء، فأنشد أحد الأدباء قصيدة شاعر القطرين خليل بك مطران، فقصيدة أمير البيان الأمير شكيب أرسلان، وهما غنيان عن وصفهما، وعن بيان مزايا شعرهما. ثم أنشد الأستاذ أبو الإقبال اليعقوبي شاعر فلسطين وعميد وفدها قصيدة حافلة الري، متينة الروي، قيل: إنها تزيد على مائة بيت، وحسبك من القلادة ما أحاط بالجيد، وهو فيها بيت القصيد: إنما العرب في الوجود قصيد ... فيه عبد الحميد بيت القصيد وتلاه وفد حماه فأنشد قصيدة شاعرهم الأستاذ الشيخ طاهر النعسان، فكان فيها خير موقظ يقظان، فقصيدة الأديب بدر الدين حامد. وفي خلال ذلك عزف بعض المطربين بالبيانو بما يطرب كالبيان، ويروح الأنفس ويرهف الأذهان، ثم أنشدت قصائد أدباء طرابلس نفسها، وقد قدمت اللجنة ضيوف البلد على أبنائها. فصل هزلي غير مضحك: ثم قد قام في إثر الجميع محمود أفندي عزمي الصحفي المصري أحد دعاة الإلحاد والتفرنج، وإباحة التهتك والتبرج، الذي يروجه هو وأمثاله بعنوان التجديد، خلابة للنساء والأحداث المفتونين بالتقليد، وكل ما يدعون إليه قديم في جنسه ونوعه، وإنما بعضه حديث في صنفه ووصفه، قام فقال: أيها السادة. وسكت هنيهة متكلفًا متعمدًا ثم قال: اعذروني إذا ارتُجَّ علي، فلقد كنت أريد أن أقول: (أيها السيدات والسادة) يعرِّض بتقصير اللجنة، أو بتقصير البلد فيما كان يجب عليها - بزعمه - من الجمع بين الرجال والنساء في هذه الحفلة، ثم إنه لم يقف عند هذا الحد في التعريض بالغميزة في النقد، بل صرَّح بما مؤداه أنه جاء ليقتحم أو ليفتح معقلاً من معاقل المحافظة على القديم، ليبني بأنقاضه مسرحًا من مسارح التجديد، فبدت على وجوه الحاضرين كآبة الامتعاض، ومنعهم أدب الضيافة وكرامة المجلس من الرد عليه جهرًا، بما تهامس به بعضهم، ولو أنه أطال لشوه رونق الاحتفال. ولم يكتف بما فعل هنالك، بل عاد إلى مصر، فنشر في جريدة الأهرام مقالات سخيفة تجاوز بها ما يليق بالبلاد، إلى النيل من بعض الأفراد، ولعل بعض الأسباب التي خرجت به عن صوابه، إلى ما لا يعهد من آدابه، أنه ذهب إلى طرابلس لحضور يوبيل الرافعي موفدًا من جريدة العلم الغراء، وأخذ نفقة لسفره من إدارتها أربعين جنيهًا مصريًّا ليرسل إليها أخبار الاحتفال بلسان البرق، فتسبق غيرها من الجرائد إلى نشرها، وتعطير جو مصر بنشرها، فرأته قد خدعها وذهب ليدعو إلى رأيه السقيم، وينعي على المعتصمين بعروة الدين ما يسميه جمودًا على القديم. ومن مناقب آل الرافعي المحتفَل بأكبر أدبائهم، أنهم أنصار الدين، وحملة لواء الشرع الحكيم، وهم في مصر من أعلام الحزب الوطني الذي تعد جريدة العلم من أعلامه المرفوعة للدين والوطنية معًا؛ لذلك عزلته إدارتها من قلم تحريرها، فلجأ إلى جريدة الأهرام فنفث نفثته المسمومة على صفحاتها. (انتهى الفصل) ثم ختم الاحتفال بإنشاد الأديب سمير الرافعي نجل صاحب اليوبيل لقصيدة والده في شكر المحتفلين فكانت مسك الختام. وقد ذكرت الصحف من مناقب عبد الحميد المحتفَل به، وشممه أن بعض الفضلاء ومحبي الأدب تبرع له بسبعين ألف قرش سوري بمناسبة اليوبيل الذهبي، فأبى أن يأخذها، وعهد إلى لجنة الاحتفال بأن تنفقها في خدمة الأدب بالطريقة التي تستحسنها، فأكبر الناس ذلك من أريحيته، وإبائه وعفته، فلا زال قدوة لأمته، في أدبه وبلاغته، وكرم نفسه وعلو همته. وسننشر في الجزء التالي قصيدة أحمد شوقي بك أمير الشعراء فإنها من آيات بيانه، التي فاق بها على أقرانه، وقصيدة الشيخ إسماعيل الحافظ شيخ الفقهاء، وأستاذ الأدباء، وشاعر العلماء، فإنها غرة القصائد وأجمعها لسمو المناقب وعلو المقاصد، وقصيدة الأستاذ عبد الحميد، صاحب العيد، وهي الرحيق المختوم، ختامه مسك، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.