أخذت الدولة العلية تعبئ جيشها، وتستعد للقتال عقب إعلان الحرب في أوربا، وتضافرت الروايات والآراء على أنها تحارب مع ألمانيا والنسما، وقد كان مقدمات ذلك إلغاؤها للامتيازات الأجنبية، وهي قد آذنت الدول بذلك في شهر سبتمبر، وقد خشي كثير من نصارى السوريين أن يفضي إلغاء امتيازات الدول إلى فتن أهلية في سوريا، فيكف إذا حاربت الدولة روسيا وفرنسا , وإنكلترا الحامية للنصارى في بلاد الدولة، وقد تحدث إخواننا السوريون هنا بذلك، وكثر خوض الجرائد السورية الأمريكية في المسألة، واشتد تشاؤمها، ونقلت عن سفير الدولة في واشنطون كلامًا يؤيد هذا التشاؤم، حتى إنه ليخيل لمن قرأ ما كَتبتْ، أن الفتنة وقعت، أو كربت. أما نحن فإننا نعلم أن هداية الإسلام التي حفظت لغير المسلمين حريتهم في القرون التي كانت دول الإسلام فيها أقوى دول الأرض، لا تزال ذات السلطان الأعلى على نفوس المسلمين، فإذا كانت السياسية قد غلبتها، أو استخدمتها في بعض الأوقات في العدوان الذي تنهى عنه) فلن تستطيع أن تنال ذلك منها في كل وقت، بل نعلم فوق ذلك أن مسلمي سورية صاروا يعلمون أن مصلحتهم القومية والوطنية لن تقوم إلا بتعاونهم مع سائر أبناء وطنهم المشاركين لهم في تلك المصلحة. فالنتيجة إذًا أن دين المسلمين ودنياهم متفقان على نهيهم عن الاعتداء، وحثهم على التعاون والاتفاق، وقد كان للنهضة العربية الحديثة أعظم التأثير في ذلك. وإننا على ثقتنا بما بيّنا قد كتبنا مكتوبات خاصة إلى من نثق بحسن سعيهم في البلاد السورية نذكرهم فيها بما يجب عليهم العناية به الآن، ونشرنا في جريدة الأهرام اليومية التي صدرت في ٦ ذي القعدة الماضي (و٢٦ سبتمبر سنة ٩١٤) خطابًا عامًّا في ذلك نثبته هنا ليكون أثرًا تاريخيًّا، إذ تأخر صدور هذا الجزء من المنار ومنعت الصحف المصرية من دخول البلاد العثمانية، وهذا نصه: *** إلى إخواني الكرام مسلمي سوريا
] وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ [[*] السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , أما بعد فإنني أحمد إليكم الله - عز وجل - وأصلي وأسلم على رسوله محمد نبي الرحمة , ثم أشكر لكم ما أظهرتموه من النجدة والهمة، في الإخلاص والطاعة للدولة , وبذل الأنفس والأموال والثمرات لها، والكف الموقت عن طلب الإصلاح منها، وتقديركم الحال الحاضرة قدرها، حتى إنكم ساهمتم في هذا أرقى أمم الأرض التي سكتت عن جميع مطالبها ومنازعاتها الداخلية عندما رأت حكوماتها بإزاء الأخطار الخارجية مضطرة لتقلد السلاح، والاصطلاء بنار القتال، فحياكم الله أيها الأخوان , وزادكم نجدةً وأريحةً، واستمساكًا بعروة الدولة العلية، بحسب ما تهدي إليه الشريعة الإسلامية، وتقضيه الوراثة العربية , ولا يتم لكم هذا إلا بالألفة والاتفاق مع أبناء جنسكم ووطنكم من غير أبناء دينكم، الذين ساوت الشريعة بينكم وبينهم في الحقوق العامة، وأوجبت عليكم ما لم توجبه شريعة من العدل والإحسان، وتأكيد الوصية بالجيران. أيها الإخوان الكرام! بلغنا أن الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، قد أخذ ينفث في عقد المودة الجنسية والوطنية ليحلها، وليفصم عروتها، وينقض غزلها، ويزين وسوسته هذه باسم الجامعة الإسلامية، والقيام بالنهضة الدينية، فلا يفتنَنَّكم الشيطان، ولا يخدعنكم باسم الإسلام وتحريف آيات القرآن، فإن بعض الذين يطلبون المال والجاه بهذه الأسماء لا يفهمون مسمياتها، ويستدلون بالآيات، ولا يعقلون مدلولاتها، ألستم تعرفون بينكم ممن يلفظ بالدعوة إلى الجامعة الإسلامية، من لا يعرف عقيدة الإسلام كما يجب، ولا يصلي ولا يصوم؟ ولا نبحث في زكاة أمثال هؤلاء وحجهم، فإنما وجوب الزكاة والحج على مالك النصاب والمستطيع، وربما يدَّعون عدم الاستطاعة. إنكم تعرفون هذا بينكم وإن لمن تعرفون من هذا الصنف أعوانًا في غير بلادكم، هم أشد منهم نفاقًا وأبرع في فن التجارة بالدين، فلا تغتروا بما يقولون ولا بما يكتبون، ورب كلمة حق أريد بها باطل، ومن المسائل المعلومة من الدين بالضرورة أن الله - تعالى - حرم البغي والعدوان حتى إنه قال فيمن يقاتلون المسلمين: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: ١٩٠) وإنني أستحي أن أطيل عليكم في سرد الدلائل على تحريم البغي والتعدي؛ لأن هذا مما تعرفه العامة، كما تعرفه الخاصة، فالإطالة فيه تتضمن نسبة الجهل إليكم (وحاشاكم) . نعم إن العامة عرضة للغش والخداع، ولا سيما إذا جاءها الخادع من باب الدين، فيجب على خاصتكم أن تحذر عامتكم من وسوسة المنافقين الذين يبغونكم الفتنة (الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها) . وأذكركم بباب آخر من أبواب الخداع , وهو تحريضكم على النصارى بذنب ميلهم إلى الأجانب من أبناء دينهم كراهةً لكم وللدولة العلية لأجل الدين، وربما ينقل إليكم أو تسمعون ما يدل على ذلك، ألا فاعلموا أن هذا إن صح وفرضنا أنه عام فيهم، فإنه لا يبيح لكم الاعتداء على أنفسهم ولا على أموالهم؛ لأن الشريعة الإسلامية لم تضع عقوبةً دنيويةً على الميل والحب والبغض ونحو ذلك من أعمال القلوب، على أن الحكام هم المطالبون بتنفيذ العقوبات، لا أفراد الأمة , ولا نبحث هنا في عذر من يحب الأجانب لإحسانهم إليه وإلى أهل ملته، ومن يبغض الوطني لظنه أنه لا ينجيه من شره وأذاه إلا حماية الأجانب له. إذا وقع أقل عدوان منكم على غيركم في هذه الأيام، تكونون قد أثبتُّم بالفعل أن ترك العدوان قبل اليوم إنما كان خوفاً من الأجانب لا عملاً بهداية الإسلام، ولا قيامًا بحقوق تكافل أهل الأوطان، هذه هي التهمة التي يرمينا بها من يجهل حقيقة ديننا وتاريخنا إذ كانت دولنا أقوى دول الأرض كلها، وكان المخالفون لنا في الدين يفضلون حكم خلفاء المسلمين على حكم أبناء دينهم من الرومانيين. إن لنا في هذه الأيام أفضل فرصة لإقناع أبناء جنسنا ووطننا، بما نتحدث به دائمًا فيما بيننا من حسن نيتنا، ورغبتنا في الاتفاق معهم على كل ما فيه مصلحتنا المشتركة بيننا وبينهم على قاعدة المنار الذهبية: (نتعاون فيما نشترك فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) ونحن متفقون في اللغة وفي مصالح البلاد الزراعية والصناعية والتجارية والاجتماعية، فنتعاون على ذلك بغاية الإخلاص، ويعذر بعضنا بعضًا في أمر الدين. ثم إنني أختم الكلام بما بدأته به من حمدكم وشكركم على بَذْلِكُم الجهد في طاعة الدولة العلية، وإثبات كون النهضة العربية نهضة علم وعمران ترتقي بها الدولة العلية، لا نهضة مقاومة ومشاكسة للتركية، ولكنني أذكركم بأن الطاعة الواجبة للدولة إنما هي طاعة أوامرها الرسمية الشرعية، فلا تدعوا العامة تنخدع بدعوى الأوامر السرية أو الشفوية , فضلاً عن أوامر الجمعيات والأحزاب وغيرها، ولاسيما إذا كانت مخالفةً لهداية الشرع، ومصلحة الأمة والوطن (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) والسلام على من اتبع الهدى. ورجح الحق على الهوى. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أخوكم محمد رشيد رضا منشئ المنار