{ ... يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ ... } (النساء: ٤٦) . قد علم قرّاء المنار أننا لم نفتح هذا الباب للطعن في دين النصارى أو غيره ابتداءً، وإنما فتحناه لرد شبهاتهم التي ربما تشكك الجاهل بالإسلام في الدين مطلقًا فتفسد أخلاقه ويكون مصيبة على نفسه وعلى الناس، ولا غرض لطعن الطاعنين بالإسلام إلا هذا التشكيك الذي يحل الرابطة الإسلامية ويضعف المسلمين؛ لأنه يخرجهم عن كونهم أمة فيكونون أفرادًا مقطعين، لا جنسية لهم ولا دين، ولو أنهم كانوا يطمعون في تنصيرهم لكان لهم عندنا بعض العذر، ولكن التجربة أفادت التاريخ أن الملايين من النصارى صاروا مسلمين ولا يوجد بإزاء كل مليون من هؤلاء واحد من المسلمين تنصّر إلا ما كان من أفراد ليس لهم من الإسلام إلا وراثة الاسم من آبائهم الأولين. قيل للسيد جمال الدين الأفغاني الحكيم الشهير - رحمه الله تعالى -: ما سبب الدعوة إلي مذهب الدهريين في الهند وعدم الاقتصار على الدعوة إلى النصرانية؟ فقال: إن المسلم يستحيل أن يكون نصرانيًّا؛ لأن الإسلام نصرانية وزيادة فهو يأمر بالاعتقاد بنبوة عيسى وحقيّة دعوته ويرفض الخرافات والبدع التي زادتها الجمعيات النصرانية في دينه، فلما جرب الذين يبتغون حل الرابطة الإسلامية بالدعوة إلى النصرانية فلم تنجح، عمدوا إلى تشكيكهم في أصل الدين المطلق بالدعوة إلى الدهرية. وكذلك رأى مثل صاحب الجامعة أن تشكيك المبشرين بالنصرانية لم ينجح في المسلمين من الطريق الديني فانبرى لتشكيكهم من الطريق العلمي وبذل جهده لإقناعهم (١) بأن دينهم كغيره عدوّ للعقل والعلم و (٢) أن أئمتهم في العقائد (المتكلمين) ينكرون الأسباب و (٣) أن جمع السلطة الدينية والسلطة السياسية المدنية في خليفة الإسلام ضارّ بالمسلمين وسبب لتأخرهم، ومن رأي صاحب الجامعة أن المسلمين إذا أرادوا الرقيّ والنجاح فلا بد لهم من سماع نصيحته وهي: (١) أن يضعوا دينهم في جانب من العقل والعلم؛ لأنهما قاضيتان بهدمه كقضائهما بهدم النصرانية، فإذا حاولوا الجمع بين الدين والعلم كما ينصح لهم بعض أئمتهم بما ينشر في المنار وغيره فإنما يحاولون محالاً بل إنما يهدمون دينهم فيخرجون بلا علم ولا دين، و (٢) أن يعتقدوا أن سُنّة الله تعالى في الأسباب والمسببات مطردة في الواقع خلافًا لما يحكم به الدين وعلماء الكلام، فإذا صدقوا بالواقع فعليهم أن يكذبوا أئمتهم والعكس بالعكس، و (٣) أن يجعلوا خليفتهم حاكمًا مدنيًّا يخترع الشرائع والأحكام ويتركوا ما شرعه الله لما شرعه السلطان ويجعلوا الدين خالصًا بالعبادة لله تعالى، أي إنه يجب على المسلمين في رأي صاحب الجامعة أن يتركوا نصف دينهم وهو أحكام المعاملات الدنيوية ويجعلوا النصف الثاني لمن يريد أن يترك العقل والعلم والأسباب لأجل العبادة، هذا ملخص نصح صاحب مجلة الجامعة للمسلمين ولأجل أن يجعله مقبولاً أورد لهم كلمات عن بعض أئمتهم حرّفها عن معناها ليخدع البسطاء بها، وإننا نشرح هذه المسائل ونبين الحق فيها ليكون حجة على هؤلاء المعتدين الذين {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (الصف: ٨) . *** الأسباب أو سنن الله تعالى في الخلق وإثبات الإمام الغزالي لها ذكر صاحب الجامعة في كتاب لَفَّقَهُ أننا أوردنا قوله تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: ٦٢) لإثبات أن النواميس الطبيعية لا تتغير ولا تتبدل ثم قال: (مع أنه لو قام حجة الإسلام الإمام الغزالي من قبره وسمع هذا القول لكسر قلم صاحب تلك المجلة وضحك من بساطته وعدم اطلاعه على الشئون التي يبحث فيها؛ لأنه استشهد بتلك الآية للغرض الذي ذكره مع أنها لم ترد في القرآن لهذا الأمر بوجه الإطلاق) . يقول هذا صاحب الجامعة تمهيدًا لخلابة المسلمين بأن ما يتحكم هو فيه من الحكم بتفسير كتاب الله برأيه الأفين مقتبس من الإمام الغزالي الذي حرف قوله عن موضوعه ولم يفهم مراده منه. إذا كان الغزالي يضحك من (بساطة) من أخذ معظم علمه في الدين من كتابه إحياء العلوم اعتقادًا وعملاً ودرسه من أول نشأته المرة بعد المرة كما درس كل ما اطلع عليه من كتبه بإمعان وإخلاص - فهل يضحك أو يبكي من (تركيب) جاحد معاند يلتمس من كلامه كلمة يحرفها عن موضعها ليغش المسلمين بشيء يخالف دينهم محتجًّا بكلام إمام من أئمتهم ولا موضع للاحتجاج؟ نترك مثل هذا ونسرد مذهب الغزالي في الأسباب وسنن الله تعالى ونبين الحق في المسألة التي اشتبه فهمهما على كثير من الناس حتى صار التشكيك فيها متيسرًا لمثل صاحب الجامعة مع عوام المسلمين الذين لا يزال فيهم من يقرأ ما يكتبه ذهابًا مع سماحة الإسلام. مذهب الغزالي: قال حُجة الإسلام في الفصل الثالث من كتاب التوكل ما نصه: (الأسباب التي يجلب بها النافع على ثلاث درجات: مقطوع به ومظنون ظنًّا يوثق به وموهوم وهمًا لا تثق النفس به ثقة تامة ولا تطمئن إليه، (الدرجة الأولي) المقطوع به، وذلك مثل الأسباب التي ارتبطت المسببات بها بتقدير الله ومشيئته ارتباطًا مطردًا لا يختلف كما أنّ الطعام إذا كان موضوعًا بين يديك وأنت جائع محتاج ولكنك لست تمد اليد إليه وتقول: أنا متوكل، وشرط التوكل ترك السعي، ومدُّ اليد إليه سعي وحركة، وكذلك مضغه بالأسنان وابتلاعه بإطباق أعالي الحنك على أسافله؛ فهذا جنون محض وليس من التوكل في شيء، فإنك إذا انتظرت أن يخلق الله فيك شبعًا دون الخبز أو يخلق في الخبز حركة إليك أو يسخر ملكًا ليمضغه لك ويوصله إلي معدتك فقد جهلت سنة الله تعالى، وكذلك لو لم تزرع الأرض وطمعت في أن يخلق الله نباتًا من غير بذر أو تلد زوجتك من غير وقاع كما ولدت مريم عليها السلام فكل هذا جنون، وأمثال هذا مما يكثر ولا يمكن إحصاؤه) اهـ بحروفه. وبعد أن قرر أن هذه الدرجة لا يأتي فيها التوكل بترك العمل تكلم عن الدرجة الثانية وهي ما كان السبب فيها مظنونًا وبين أن التوكل لا يأتي فيها أيضًا قال ما نصه: (فإذا التباعد عن الأسباب كلها مراغمة للحكمة وجهل بسنة الله تعالى والعمل بموجب سنة الله تعالى مع الاتكال على الله عز وجل دون الأسباب لا يناقض التوكل) . هذا التفصيل في جانب المنافع وقد أورد مثله في منعها وفي دفع المضرات التي أسبابها قطعية أو ظنية وبين أن التوكل إنما يكون في ترك الأشياء الوهمية كالرقية والطيرة والكيّ التي ورد بها الحديث، ومما صرح فيه بذكر السنة الإلهية هنا قوله: (وكذلك في الأسباب الدافعة عن المال فلا ينقضي التوكل بإغلاق باب البيت عند الخروج ولا بأن يعقل البعير؛ لأن هذه أسباب عرفت بسنة الله تعالى إما قطعًا وإما ظنًا، ثم أورد الشواهد من الكتاب والسنة وهي مشهورة. وقال في الكلام على التداوي، وهو من منع المضار (هذه الكلمة الجليلة ليس من التوكل الخروج عن سنة الله أصلاً) وقال أيضًا في تداوي النبي صلى الله عليه وسلم (وإنما لم يترك الدواء جريًا على سنة الله تعالى وترخيصًا لأمته فيما تمس إليه حاجاتهم) . وأظهر من هذا قوله بعد شرح طويل للأسباب: (فبهذا تبين أن مسبب الأسباب أجرى سنته بربط المسببات بالأسباب إظهارًا للحكمة والأدوية أسباب مسخرة بحكم الله تعالى كسائر الأسباب، فكما أن الخبز دواء الجوع، والماء دواء العطش فالسكنجبين دواء الصفراء والسقمونيا دواء الإسهال لا يفارقه إلا في أحد أمرين أحدهما أن معالجة الجوع والعطش بالماء والخبز جليٌّ واضح يدركه كافة الناس ومعالجة الصفراء بالسكنجبين يدركه بعض الخواص، فمن أدراك ذلك بالتجربة التحق في حقه بالأول، والثاني أن الدواء يسهل والسكنجبين يسكن بشروط آخر في الباطن وأسباب من المزاج ربما يتعذر الوقوف على جميع شروطها وربما يفوت بعض الشروط فيتقاعد الدواء عن الإسهال، وأما زوال العطش فلا يستدعي سوى الماء شروطًا كثيرة، وقد يتفق في العوارض ما يوجب دوام العطش مع كثرة شرب الماء لكنه نادر، وإختلال الأسباب أبدًا ينحصر في هذين الشيئين وإلا فالمسبب يتلو السبب لا محالة مهما تمت شروط السبب) اهـ بحروفه. فأي نص في التلازم بين الأسباب والمسببات أقوى من هذه الجملة الأخيرة؟ فهذا هو الإمام الغزالي الذي يوهم المسلمين صاحب الجامعة بأنه ينكر الأسباب وينكر أن معنى سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول الأسباب وارتباطها بالمسببات، فهل بعد هذا يوثق بقول صاحب الجامعة أو بحسن قصده؟ وهل يجوز لغير العالم الراسخ أن ينظر في قول هذا المشكك الذي يريد أن يفسد على عوامّ المسلمين عقائدهم؟ ؟ *** التوفيق بين هذا وبين ما قاله في تهافت الفلاسفة مسألة الأسباب التي شرحها الإمام الغزالي في كتاب التوحيد والتوكل هي ما يعتقده المسلمون، وإنما كتبها للمسلمين لأنه بين في هذا الكتاب مقام التوكل الذي هو أعلى مقامات الإيمان، وله كلام آخر في هذه المسألة مع الفلاسفة لا مع المسلمين، وكلامه هناك يجب أن يكون بلسان يخالف هذا اللسان ولكن لا يناقضه ذلك أنه هنا يشرح الواقع الذي يدل عليه الوجود وينطق بموافقته الشرع وهناك يتكلم على العلل والتأثيرات الحقيقة في الإيجاد والإعدام وما قاله في الموضعين هو الحق الذي لا محيد عنه كما نبينه. ولا بد قبل الخوض في القسم الثاني من كلمة تمهيدية في الموضوع وهي أن المغرورين بالظواهر من الفلاسفة المتقدمين كانوا ينزلون الأسباب العادية الظاهرة منزلة العلل العقلية القاطعة وينسبون إليها التأثير ويزعمون أنها مطردة اطرادًا ضروريًّا يستحيل انفكاكه، ولو نهضت لهم الحجة البالغة على ذلك لما خالفهم المسلمون؛ لأن القاعدة المتفق عليها عند المتكلمين هي أن قدرة الله تعالى وإردته لا تتعلقان بالمستحيل وإنما تتعلقان بالممكن فقط، ولكن لا حجة لهم على ذلك وإنما هي شبهات كشف الحجاب عنها الغزالي وغيره، وتلك الأسباب التي مر القول في اطرادها ممكنة فهي مطردة بفعل الله تعالى. ولو سلَّم الناس بقول أولئك الفلاسفة لوقفت حركة العلم عند تلك الظواهر التي كانوا يرون تغييرها محالاً عقليًّا وإنما المحال العقلي شيء واحد وهو اجتماع النقيضين أو الضدين المساويين للنقيضين أو ارتفاعهما، ولو أن هذه الغرائب التي كشفها العلم في عصرنا ذكرت لأولئك الفلاسفة القاصرين لجزموا باستحالتها وأوردوا على ذلك من الشبهات النظرية مثلما أوردوه على القول ببعث الأجساد، وأمثلة بعث الأجساد ظاهرة اليوم لعلماء الكيمياء ظهورًا تامًّا، قال الإمام الغزالي في كتاب تهافت الفلاسفة ما نصه: (هذا ما أردنا أن نذكره في العلم الملقب عندهم بالإلهيّ، أما الملقب بالطبيعيات فهي علوم كثيرة نذكر أنواعها لتعرف أن الشرع ليس يقتضي المنازعة فيها ولا إنكارها إلا في مواضع) وأنبه القارئ إلى عطفه الإنكار على المنازعة لتغايرهما، فالإنكار هو القول ببطلان الشيء مرة واحدة والمنازعة هي المباحثة في دليله ليظهر الصواب مأخوذة من منازعة الثوب بين اثنين، ثم قال الإمام بعد سرد أنواع العلوم الطبيعية المعروفة إلى ذلك العهد: وإنما نخالفهم من جملة هذه العلوم في أربع مسائل: (الأولى) حكمهم بأن هذا الاقتران المشاهد في الوجود بين الأسباب والمسببات اقتران تلازم بالضرورة فليس في المقدور ولا في الإمكان إيجاد السبب دون المسبب ولا وجود المسبب دون السبب وأثر هذا الخلاف يظهر في جميع الطبيعيات، إلى أن قال ما نصه: وإنما يلزم النزاع في الأولى من حيث إنه ينتفي عليها إثبات المعجزات الخارقة للعادة من قلب العصا ثعبانًا وإحياء الموتى وشق القمر، ومن جعل مجاري العادات لازمة لزومًا ضروريًّا أحال جميع ذلك، وأولوا ما في القرآن من إحياء الموتى وقالوا: أراد به إزالة موت الجهل بحياة العلم وأولوا تلقف العصا لسحر السحرة بإبطال الحجة الإلهية الظاهرة على يد موسى شبهات المنكرين، وأما شق القمر فربما أنكروا وجوده٠٠ وزعموا أنه لم يتواتر) اهـ بنصه. ولينظر طلاب الحقيقة إلي تحريف صاحب الجامعة النصرانية قول الإمام كيف كان، الإمام قال (وإنما يلزم النزاع في الأولى من حيث إنه ينتفى عليها إثبات المعجزات) ومعناه أن محل النزاع في المسألة الأولى هو انتفاء إثبات المعجزات بجعلها من المحالات العقلية التي لا يمكن وجودها ولا تتعلق قدرة الله بها، وصاحب الجامعة يقول على لسان هذا الإمام ما نصه: ثم قال: وإنما يجب علينا إنكار هذا القول؛ لأنه ينتفي به إثبات المعجزات) فجعل (الإنكار) محل (النزاع) وزاد عليه جعله واجبًا وقد بيَّنا الفرق بين الإنكار والنزاع آنفًا، فإذا كان نقل صاحب الجامعة عن رينان وعن غيره على هذا النحو من الفهم والأمانة فإننا نهنئ من يقرأ ما يكتبه بأن علمه عين الجهالة، وهدايته نفس الضلالة، ثم قال الإمام الغزالي في بيان الحق في المسألة من طريق العلم المؤيد لما يعتقده المسلمون ما نصه (الاقتران بين ما يعتقده في العادة سببًا وما يعتقد مسببًا ليس ضروريًّا عندنا بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر ولا نفيه متضمن لنفي الآخر فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر مثل الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهل، وهلمّ جرًّا إلي كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف، وأن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه لخلقها على التساوي لا لكونه ضروريًّا في نفسه غير قابل للفرق بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل وخلق الموت دون جز الرقبة وإدامة الحياة مع جز الرقبة وهلمّ جرًّا إلي جميع المقترنات وأنكر الفلاسفة إمكانه وادعوا استحالته، ثم ضرب لذلك مثالاً واضحًا حاجة لذكره. وما ذكره الإمام الغزالي هنا هو ما عليه فلاسفة هذا العصر فإنهم لايقولون بأن شيئًا من هذه الأشياء عندهم ممكن، انفكاك التلازم وقع كثيرًا ويسمون ما لا يعرفون له منه علة (فلتات الطبيعة) وبعض الانفكاك كان بما اكتشفه العلم من أسرار الكون ويتوقعون بهذه الاكتشافات ما لم يقع كإحياء الموتى ولو كان في نظرهم محالاً لما توقعوه، ولكن صاحب الجامعة لا يميز بين الضروري والممكن فيخلط المسائل بعضها ببعض، وقد صرح الغزالي فيما تقدم آنفًا بأن المتلازمَيْن في العقل تلازمًا يثبت به أحدهما بثبوت الآخر وينتفي بانتفائه هما اللذان يستحيل انفكاك تلازمهما لأن قدرة الله تعالى لا تتعلق بالمستحيل. *** الوفاق بين قولي الغزالي ومذهب باكون تقدم أن الغزالي قال في كتاب التوكل أن سنة الله في نظام الكون هي أن الأسباب مرتبطة فيه بالمسببات ارتباطا كليًّا لا يختل إلا إذا لم تستوف الشروط التي يتحقق بها السبب حتى قال إن السبب يتلو المسبب عند عدم المانع (لا محالة) وفسر مثل قوله تعالى {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الفتح: ٢٣) بهذا النظام في الارتباط بين الأسباب والمسببات وهو التفسير المتعين، وقال في كتاب تهافت الفلاسفة: إن هذا الارتباط بين الأسباب والمسببات العادية على اطراده ليس بضروري في نظر العقل وعدمه ليس محالاً وإنما هو ثابت في الواقع ونفس الأمر بحكمة خالق الكون ومدبره وإذا كان الله قد أحكم بحكمته الروابط بين حوادث الكون فينبغي للناس أنْ يبحثوا عنها ويهتدوا بها في مصالحهم ومنافعهم ولا يتوقف هذا الاهتداء على كون كل ما يظهر في العادة سببًا لشيء أن يكون انفكاكه عنه محالاً عقليًّا. ويعلم الناظر في فلسفة القدماء أنهم كانوا يعتمدون على الأدلة النظرية في الحكم باستحالة الشيء أو وجوبه عقلاً فالغزالي وغيره من أئمة علم الكلام بينوا أن المستحيل العقلي هو ما كان بمعنى اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما أو اجتماع الضدين بمعنى النقيضين. وقالوا: إن المستحيل والواجب الضروري في نظر العقل لا تتعلق بهما قدرة الله تعالى وإنما تتعلق قدرة الله تعالى بالممكن فقط، فكانت فائدة قول المتكلمين في أمرين عظيمين هما أساس لترقي البشر (أحدهما) أن ما ثبت أنه ضروريّ (واجب) أو مستحيل لا يطمع فيه الطامع لا من جهة الكسب ولا من جهة الالتجاء إلى الله تعالى لأنه لا يتغير. (ثانيهما) أن للممكنات سننًا منتظمة ينبغي للإنسان أن يعرفها وينتفع بها، ولكن لا ينبغي أن يوقف حركة استعداده، عند ما يظهر له بادي الرأي أنه لا يتغير بل عليه أن يبحث لعله يقف على سنة إلهية أخرى تكون السنة التي ظهر له اطرادها مشروطة بها فيجمع بين الانتفاع بالسنتين معًا، مثال ذلك أن السنة الإلهية الظاهرة في النار أنها تحرق ما يقبل الاحتراق، فلا ينبغي للإنسان أن يجزم بأنه لا يمكن أن ينتفي هذا الاحتراق؛ لأنه ضروري بل عليه أن يبحث لأن الاحتراق ممكن وربما يكون حصوله مشروطًا بانتفاء وجود مادة من المواد لو عرفت يمتنع الاحتراق بها، وقد اكْتُشِفَ الآن ما يمنع الاحتراق في الجملة وانتفع به في وقاية المكاتب العمومية. فبهذا التقرير أتى حجة الإسلام على تلك الفلسفة النظرية من القواعد (وإن أساء ابن رشد في فَهْمِ بعض قوله وكابره في بعضه) وأظهر حكم الدين الإسلامي في إطلاق العقل الإنساني من تلك القيود النظرية ليسبح في فلك الله مهتديًا بسنن الله فيه وقد جرى (باكون) على هذا الأثر فقرر أن الأدلة النظرية لا يعتمد عيها في إثبات المسائل العلمية ما لم تؤيد بالتجربة والاختبار، قال باكون هذه الكلمة التي يعدونها أساس النهضة العلمية الجديدة في أوربا وقد كانت معروفة عند المسلمين من قبله (كما تقدَّم في مقالات الإسلام والنصرانية) وما كانت عنده أكثر جلاءً ووضوحًا لأنه كان يعتقد بخلافها كالتنجيم والكيمياء القديمة وحجر الفلاسفة وهي أمور وهمية لا ترتقي إلى أن تكون نظرية مظنونة، ولكن أوربا كانت مستعدة بارتقاء العلم فيها إلى الأخذ بما قال من وجوب الاعتماد على التجربة والاختبار فعملوا بذلك وارتقى العلم به وعُدَّ باكون إمام هذه الطريقة التي قررها المسلمون وعملوا بها من قبله. والنتيجة أن صاحب الجامعة أخطأ في زعمه أن الإمام الغزالي أنكر الأسباب، وفي زعمه أن مذهبه في السنن الإلهية غير ما قلناه في (المنار) وندعو إليه دائمًا، وفي زعمه أن بينه وبين قاعدة باكون سورًا عاليًا، وفي زعمه أيضًا أن التلازم بين الأسباب والمسببات أو النواميس إذا لم يكن ضروريًّا (أي واجبًا عقليًّا يستحيل عدمه) تصير النواميس فوضى فإن خالق الكون وواضع نواميسه إذا كان حكيمًا لا يفعل شيئًا إلا بنظام كما دلَّ على ذلك كتابه العزيز ودل عليه الوجود فكيف يكون الأمر فوضى، ومن قال: إنَّ النظام في الكون مشروط بكونِ الله تعالى غير قادر وغير حكيم؟ ما قال بهذا إلا صاحب الجامعة النصرانية يثبت أن مذهب المتكلمين المسلمين باطل في نفسه ومؤدٍّ إلى إنكار حكمة الله تعالى وقدرته، ولم نر من المنكرين على الدِّينِ أشد تهافتًا في طعنه بالإسلام وأئمته الأعلام مثل هذا الكاتب الجديد الذي حاول الشهرة والنجاح من غير طريقهما كما فعل ذلك المعتوه الذي تخلّى في مذبح تلك الكنيسة العظيمة ليشهر اسمه، فبئست الشهرة بمكابرة الحق وتحريف كلام الأئمة لأجلِ دريهمات تجيء من عدو للإسلام يحب أن يتشفى من أهله ولو بزور الكلام، وهو أعلى من أن تعرج إليه الأوهام.