للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحيرة والغمة ومناشئهما في الأمة

كتبنا في (المنار) الماضي مقالة في (طفولية الأمة وما فيها من الحيرة والغمة)
بينَّا فيها أن الأمة كالطفل، فهي في أشد الحاجة إلى مربٍّ يربيها التربية القومية،
ومعلم يرشدها إلى ما ترتقي به في حياتها الاجتماعية، كما هو شأن الطفل في حياته
الشخصية، وألمحنا إلى أنه قد يوجد فينا أفراد يصلحون لتربية الأمم وإرشادها،
يشاركهم في منصبهم كثيرون من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ومن هنا
جاءت الحيرة والغمة، الأمة في طور الطفولية لا تميز بين النافع والضار، ولكنها
تميل كما قلنا في تلك المقالة إلى جانب الراحة واللذة، فتسمع لمن لا يخطئها في اعتقاد
ولا رأي، ولا يذم لها خلقًا ولاعادة، ولا يحملها على ترك لذة أو احتمال مشقة في
عمل نافع إلا أن يكون ذلك من الضروريات التي لا تخفى على الأطفال، ولو أن ما
عليه الأمة - رؤساؤها ومرؤسوها - من تقاليدها وآرائها وأخلاقها
وعاداتها وعلومها وأعمالها - صواب لا انتقاد عليه، فكيف تكون حينئذ أمة
مهضومة الحقوق، مسلوبة المنافع، تنتقص من أطرافها ويتخطفها الناس؟ ولأي
شيء كانت في أشد الحاجة إلى المربين والمرشدين؟ حارت الأمة وحقيق بأن
تحار، وغُمَّ عليها الأمر واضطرب فيها فكر كل ذيفكر، وما أجدرها بالغمة
والاضطراب! وقد وعدنا في مقالة (المنار) الماضي بأن نُبين مثارات الحيرة
ومناشئ الغمة في مقالة مخصوصة، وها نحن أولاء نفي بالوعد في هذه المقالة
فنقول:
قد أشرنا في مقدمة العدد الأول من (المنار) إلى أكثر المسائل التي لبَّست على
الأمة الحق بالباطل، وشَبَّهت الرشاد بالغيّ، وشرحنا كثيرًا منها في مقالات مطولة
بعد ذلك، ونُقَسِّم ما نذكره ههنا إلى قسمين: قسم قديم العهد دخل أكثره على الأمة من
باب الدين، فاخترق القلوب ونفذ إلى أعماق النفوس، وقسم حديث النشأة دمر على
الأمة من باب التمدن العصري، أما الأول فمن أهم مسائله اعتقاد أن الأمة يجب أن
تكون دائمًا في تَدَلٍّ وهبوط، وأن الترقي والتقدم مستحيلان؛ لأن هذا من علامات
قرب الساعة، وهذا الاعتقاد فاش في المسلمين، ويروون فيه أخبارًا وآثارًا اشتبه
على الجماهير صحيحها من سقيمها، وحقها من باطلها، ولا يمكن أن تنجح مع هذا
الاعتقاد أمة، ومنها أنه ليس للمسلمين إلا نهضة واحدة تكون قبيل قيام الساعة على
يد المهدي المنتظر الذى يُنصر بالكرامات والعجائب، لا بالقوة والعصبية، وهذا
الاعتقاد قريب مما قبله في مضرته وفي شبهه وأدلته، ومنها أن الدنيا والآخرة
ضرتان وضدان لا يجتمعان، وأن مَن يرغب في زينة الدنيا ولذاتها يكون منحرفًا عن
طريق الآخرة، والكتب والخطب مملوءة بهذا، ويستشهدون عليه بالآيات والأحاديث
من غير فهم، غافلين عن كون وجوب الأخذ بالكتاب كله والجمع بين تلك النصوص
وما يناقضها إذا كان معناها ما يزعمون كقوله تعالى: {ُقلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي
أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ
القِيَامَةِ} (الأعراف: ٣٢) ومنها زعم أن العلم بالموجودات وخواصها المفصل
ذلك في الطبيعيات يؤدى إلى الكفر وترك الدين، مع أنه أصل البراهين على
الاعتقاد، وقد نَبّه عليه القرآن كثيرًا، ويستحيل أن تنجح أمة في هذا العصر إلا
بالصنائع المأخوذة من هذه العلوم، ومنها طلب المصالح والمنافع من غير الطرق
التى جعلها الله تعالى في نظام الخليقة طريقًا لها كالاعتماد على الكرامات والخوارق
من الأحياء والأموات، وهذا شائع في المسلمين، فقد جاءنى وأنا أكتب في هذه
المقالة بريد سوريا وفيه مكتوب من بلدتي القلمون يطلب فيه مني أن أرسل ورقة
مكتوبة لرجل أصابه مرض في رجله فأقعده للاستشفاء بها، فإنه يعتقد أنه لا يُشفى
إلا بهذا، ومن أدلته على اعتقاده أنه رآني مرة في المنام، فخفّ ألم رجله،
وجاءني في مكتوب آخر أن امرأة من أهلي كانت مصدوعة، فوصل إليها أثر مني
فشفيت، وأنا أعتقد أننى وورقتي لا ننفع ولا نضرّ، وأن فشوّ هذا الاعتقاد في الأمة
سببه أمثال هذه الوقائع والحكايات، ويستدلون عليه بجواز وقوع الكرامات، ولا
دلالة فيه لأن مسألة الكرامات من الأمور النادرة التي لا يصح أن يعتمد عليها في
المصالح والمنافع، ومنها فهم القضاء والقدر على غير وجههما، ألا ترى أن سلفنا
الصالح - رضي الله تعالى عنهم - ما ازدادوا بهذا إلا إقدامًا على الأخطار، وتقدمًا
في الفتوح والاستعمار، وخلفنا الطالح جعلهما بمعنى الجبر وسلب الاختيار، واسمع
بعض ما لهم في هذا من الأشعار:
جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين
ومنها فهمهم للتوكل بما يوقع في الكسل، ويحول دون التدبير والجد في
العمل ومما نظموه في ذلك:
لا تدبر لك أمرًا ... فأولوا التدبير هلكى
حقق الأمر تجدنا ... نحن أولى بك منكا
وكذلك فَهْمُهم للقناعة بما يؤدي إلى مثل هذه الشناعة، قالوا:
اقنع بخبز وملح ... وماء وجهك صنه
فالرزق لا شك يأتي ... والموت لا بد منه
ومنها غير ذلك مما أكثرنا الكلام فيه من قبل، فلا نعيده، فالبحث في هذه
الأشياء على غير ما ألِف الناس وفهموا يثير فيهم الحيرة والاضطراب، والخلاف فيها
بين المصلحين وبين المحافظين على مرضاة الجماهير يثير في النفوس رواكد
الأوهام ويوقعها في الحيرة والاضطراب.
ومما يعد في القسم الأول وليس من الدين، الاعتماد على الحكام في جميع
الشؤون العامة، ومنه الانتفاد على الرؤساء من الحكام والعلماء، فإن بعض الباحثين
في أحوال الأمة ممن لهم نظر في علم الاجتماع يرون أن الأمة لا تنجح ما دامت
تخضع لهم الخضوع الأعمى، بل لا بد أن تفهم وظائفهم وتلزمهم بها، ويرون أن
الانتقاد عليهم مضر إلا في مصر بالنسبة لحكومتها، فإن الأكثرين يرون الانتقاد
على حكومتهم لاتهامها بممالئة المحتلين دون الانتقاد على حكومة الدولة العلية، ومنه
أن معرفة الحق بقائله، وهذا مجال واسع ومضراته كثيرة، وله شُعب لا تحصى
من أهمها عدم أخذ العلم والصناعة عن الأوربيين، ومن الناس من يدخل هذا الأخير
في باب الدين، فيزعم أن جميع ما نحتاج إليه في هذا العصر يوجد في كتبنا،
وإذا نازعه في هذا منازع يرميه بنسبة الدين وأهله للتقصير، ومنه مسألة
تربية النساء وتعليمهن فنون تدبير المنزل وتربية الأولاد والاقتصاد في المعيشة،
ومن الناس من يهدم هذا الركن من سعادة الأمة بمعول الدين ذاهبين إلى أن المرأة ما
خلقت إلا للفراش وأن النساء رياحين أو شياطين متشدقين بقول بعض المتحذلقين:
(المرأة ريحانة لا قهرمانة) وهذا الاعتقاد يهتك كل حجاب، ويذهب بالعفاف
والآداب.
وأما القسم الثاني فمن أهم مسائله ذم التعصب الديني، وقد بسطنا الكلام عليه
في عدة مقالات في المجلد الأول من (المنار) وسننشر فيما يأتي مقالة (العروة
الوثقى) فيه إن شاء الله تعالى، ومنها مسائل الحرية والماسونية والمدنية، ومنها
مسألة الجامعة الوطنية، فهي من الآلات المحللة لجسم المجتمع الإسلامي ومقطعة
للرابطة الدينية التي هى أقوى الروابط وأشرفها، وقد ظهر أثر ضررها في المسلمين،
ولكن أَّنى لهؤلاء الأطفال في مهود الحياة الاجتماعية أن يميزوا بين الرابطة الملية
والرابطة الوطنية، فلا يستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير؟
إن الذين نفثوا في المسلمين سُمّ الوطنية وجعلوه أقدس الروابط الاجتماعية
أرادوا به أمرين: أحدهما فصم العروة الإسلامية الوثقى التي تربط المسلمين في جميع
أقطار الأرض وتجعلهم إخوة، وثانيهما التأليف بين المسلمين وبين من يخالفهم
في الدين في بلادهم؛ لتصان بذلك مصالح المسيحيين في بلاد الإسلام، والأول
مضر بالمسلمين دون الثاني، والأمة في طور الانحطاط تختار الضار على
النافع، فأثرت نزعات الوطنية في التفريق بين المصري والسوري المسلمين،
ولم تجمع بين المسلم والقبطي المصريين , والسبب في هذا الأخير أن الارتباط ما
جاءهم من طريق الدين، فلم يؤثر فيهم، وأما التفريق بين المسلمين فقد ساعد
عليه فساد الأخلاق مع الغفلة عن مساسه بآداب الدين وقطعه رحم الأخوة
الإسلامية.
ومن العجيب أن نزعات الوطنية قد تعدى أثرها من المتمدنين الذين نفثوا
سمومها إلى علماء الدين، حتى سمعنا أن رجلاً من أكابرهم ذُكر أمامه المسجد الذي
أوصت به الست الشامية المشهورة، وبناه أقاربها الشوام أحسن بناء، فقال مولانا
الأستاذ كلمة ثناء على المسجد وأعقبها بقوله: (ولكن مِن الأسف أنهم حشوه بالشوام)
مع أن جميع الموظفين فيه مصريون ماعدا الخطيب، فهو رجل من صالحي الشوام
المجاورين في الأزهر، كانت الواقفة رحمها الله تعالى تعتقد صلاحه، ولذلك عينته
خطيبًا في حياتها، فأمضاه الناظر بعد مماتها.
هذا ما سمح المقام بذكره من مناشئ الحيرة والغمة في هذه الأمة؛ لأنها في
طور طفولية كما قلنا، وفهم ما ينفعها ويضرها يعسر عليها إلا بالزمان الطويل، وقد
شرحنا بعض هذه المثارات وغيرها كما قلنا، وسنشرح البعض الآخر مرة بعد مرة لا
سيما (الوطنية) وأرجو بمساعدة الذين بلغوا طور العقل والكمال من أفراد الأمة أن
ينشر ما أقول، لا سيما عند النشء الجديد الذي رجع إليه بعض ما فقده المسلمون من
الاستقلال في الرأى والإرادة، فأمسوا يعرفون الرجال بالحق لا الحق بالرجال،
وعلى الله الاتكال في جميع الأحوال.