للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الخطر على الحجاز وعلى الإسلام

(١)
في أوائل هذا الصيف ألمَّ بالقاهرة رجل سوري كان يشغل عملاً مهمًّا في
حكومة الشريف علي بجدة، فشرح لنا ما وصلت الحال هنالك من القلة والعسرة
واليأس من كل شيء إلا من الإنكليز، وقال: إنه علم أن الشريف علي بن الحسين
استغاث بالمعتمد الإنكليزي، وعرض عليه أن يطلب من دولته مساعدته على
سلطان نجد، على أن يكون الحجاز كله تحت الحماية الإنكليزية.. . وأن المعتمد
وعده بالكتابة إلى حكومته بذلك، وكتب بالفعل، قال الراوي: وقد سافرت قبل
مجيء الجواب، فإن جاء بعدم القبول فلا شك عندي في أن الملك عليًّا يفر من جدة
مبحرًا إلى حيث يعلم الله تعالى، وتسقط في أيدي الوهابيين، وإن جاء بالقبول
تدخل المسألة في طور جديد لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى.
وأقول: قد سبق للشريف علي مثل هذا العرض كما علمنا من الوفد الهندي
الذي كان عنده في جدة في العام الماضي، ولكن المعتمد قال له يومئذ: إن حكومته
على الحياد.
ثم حدثني رجل آخر من الثقات أنه سمع من لسان الشيخ عبد الملك الخطيب
في الإسكندرية يوم أَلمَّ بها الملك فيصل، أن وزارة الداخلية المصرية بلغته أنها
قررت إلغاء الحجز على الذخائر الحربية الهاشمية المحجوزة في السويس، وأن
الحجز عليها كان بإيعاز من الإنكليز لوزير الداخلية إسماعيل صدقي باشا (كان) ،
فعلمت أن هذه الحكومة الماكرة عادت إلى التدخل في أمر الحجاز بمساعدة صنائعها
وملوكها حسين بن علي وأولاده على سلطان نجد، بل على الشعب العربي والأمة
الإسلامية.
وأما السبب في هذا فليس رضا الشريف علي بجعل الحجاز تحت الحماية
الإنكليزية على قواعد والده حسين التي سماها (مقررات النهضة) فقط، بل
السبب الأول المباشر هو بيعه للإنكليز أهم منطقة حجازية حربية، وهي منطقة
العقبة ومعان المجاورة للمدينة المنورة مع اليأس من سلطان نجد أن يسمح بأن
يكون لهم أدنى نفوذ في الحجاز أو غيره من بلاد العرب، وهذا أمر قد أصبح قطعيًّا؛
إذ صرح به السلطان عبد العزيز آل سعود في منشوراته الرسمية، ومنها المنشور
الذي صدر بمكة المكرمة في آخر ذي الحجة الحرام الماضي، ونشر في جريدة أم
القرى، ونقلته عنها أكثر الجرائد المصرية، وناهيك بتصريحه فيه وفيما سبقه بأن
حكومة الحجاز تدار بالنظام الشرعي الذي يقرره المؤتمر الإسلامي العام، الذي
اقترحه هو منذ تصديه لإنقاذ الحجاز من سلطة حسين الشخصية التي عرف فسادها
العالم كله، حتى إن ولي عهده الشريف عليًّا وأنصاره القليلين الذين بايعوه تقربوا
إلى العالم الإسلامي بزعمهم (أنهم خلعوا حسينًا ونصبوا عليًّا ملكًا دستوريًّا على
الحجاز) . وهم كاذبون ومخادعون في دعوى الخلع وفي دعوى الحكومة الدستورية.
لم يكتف الإنكليز بالعود إلى مساعدة هذا البيت المسخر لهم بالمال والسلاح
كما بدؤوا في زمن الحرب الكبرى، بل أنشؤوا يساعدونه على الدعاية الإفسادية في
العالم الإسلامي؛ لتنفيره من الوهابية، وعطفه على البيت الحجازي الذي استولوا
بمساعدته على القدس الشريف والعراق، وأنشبوا براثنهم في قلب الجزيرة العربية،
وبدؤوا يلتهمون الحجاز لقمة بعد لقمة.
أعلن ابن السعود بأنه أرسل جيشًا إلى المدينة المنورة؛ لإخراج الحامية
الهاشمية التي فيها بالحصر دون القتال، ولما كان يعلم أن خصومه يتهمون جيشه
بأنهم إذا استولوا على المدينة المنورة يهدمون الروضة المشرفة وقبة الحرم المعظم،
سبق إلى نفي هذه التهمة والتبرؤ منها، فقال في آخر منشوره الرسمي الذي نشره،
عند إرسال الجيش المذكور ما نصه:
(إن أعداءنا يشيعون أننا إذا استولينا على المدينة نهدم روضة الرسول
صلى الله عليه وسلم، وحاشا أن تحدث نفس مسلم بذلك، إنني أفتديها بنفسي
وولدي ومالي ورجالي) إلخ.
ولكن هذا الاحتياط لا يزيد خصومه إلا جرأة على الكذب والاختلاق، فكما
أنهم اخترعوا للنجديين عقائد يتبرؤون منها، كذلك يختلقون لهم أعمالاً يتبرؤون منها،
ولذلك قلت في تعليقي على هذا المنشور في منار آخر شهر المحرم: وأصدر هذا
المنشور؛ ليعلم العالم الإسلامي بغرضه الشريف، وليحتاط لبهتان دعاية الشريف
علي، ويتقي اتهامه بضرب المدينة أو حرمها المنيع لو دخلها فاتحًا، وقد يكون هذا
الاحتياط مغريًا لا مانعًا من التهمة، بل يستحل علي وقواده فعل ذلك؛ ليتهموا
الوهابيين به كما فعل والده (حسين) ؛ إذ أمر بضرب الكعبة المشرفة بالنار، واتهم
بذلك الترك اهـ.
إنني لست أريد بهذا المقال الانتصار لسلطان نجد على الشريف علي ولا
الطعن بهذا والدفاع عن ذاك، بل أريد تنبيه العالم الإسلامي إلى الخطر الأكبر وهو
استيلاء الأجنبي على مهد دينهم وقبلته ومشاعره وحرم الله ورسوله، واستعانته
على ذلك بعوام المسلمين وبعض خواصهم الدنيويين المسخرين لخدمته، والذين
لولا أمثالهم لم يستول على الهند، ولا على مصر، ولا على القدس والشام
والعراق. وإني لأعرِّض نفسي بهذا التنبيه والتذكير لبلاء عظيم على ضعف أملي
باستفادة جماهير المسلمين من نصحي وتذكيري كما يجب، فالعامة قتلها الجهل،
والخرافات كعبادة القبور، ومعظم خاصة أهل الدنيا قتلهم جهل شر من جهل العامة،
وفساد شر من فسادها، فأصبحوا آلات بأيدي الأجانب يسخرونهم؛ لهدم مجد
دينهم ودنياهم، كما سخروا أمراء الهند وملوكهم في فتحها لهم، ثم سخروا بعض
كبراء المصريين في احتلال مصر وشركتها في السودان، وفي استمرار هذا
الاحتلال والاستئثار بالسودان، ثم سخروا الملك حسينًا والملك فيصلاً والملك عليًّا
والأمير عبد الله، ولا يزالون يسخرونهم في سبيل امتلاكهم للبلاد العربية، وكما
تسخر فرنسة سلطان مراكش اليوم في هدم قوة أبناء جلدته ووطنه ودينه الريفيين،
وهي ما فتحت سلطنته إلا بمسلمي الجزائر، وما فتحت الجزائر من قبل إلا
بمساعدة سلفه الصالحين من سلاطين مراكش.
إن لدى سلطان نجد جندًا يفوق جند الريف المغربي أضعافًا مضاعفة في العدد،
ولا يقل عنه في الشجاعة والصبر عن القتال، بل ربما يفوقه فيهما أيضًا، وإنما
ينقصه النظام الحديث والأسلحة العصرية، وما هما عن متناوله ببعيد لو فطن
سلطانه لذلك وأقدم عليه، وهذا هو الذي يخشاه الإنكليز الطامعون في امتلاك
جزيرة العرب بعد استيلائهم على ما جاورها من البلاد العربية الخصبة؛ ليقتلوا
الإسلام وقوم محمد - عليه الصلاة والسلام - في عقر دارهم ومهد دينهم، وقد
أعياهم استخدام سلطان نجد وإمام اليمن في هذه السبيل، كما استخدموا الشريف
حسينًا وأولاده، فهم يكيدون لهما المكايد.
وقد كان آخر خدمة عملية خدمهم بها البيت الهاشمي جعله هذه المنطقة
الحربية من أرض الحجاز (العقبة ومعان) تابعة لما يسمونه الانتداب البريطاني،
وآخر دعوة لهم إلى التدخل في أمر الحجاز ما كتبه الشريف حسين من قبرص إلى
الحكومة الإنكليزية يطالبها بالتدخل الفعلي في أمر الحجاز وإخراج النجديين منه وفاءً
بوعدها له - كما لخصته جريدة كوكب الشرق في هذا الأسبوع عن بعض الصحف
الإنكليزية - فأي مسلم يؤمن بالله ورسوله، ويغار على قبلته وشعائر دينه يرضى
أن يكون لأحد من أهل هذا البيت أدنى سلطة في الحجاز؟
قلت: إن الإنكليز عادوا إلى مساعدة البيت الهاشمي حتى في نشر الدعاية
لخداع العالم الإسلامي. وقد بدئت هذه الدعاية بفرية نشرها وكيل الشريف علي
بمصر في المقطم، وهي أن الوهابيين قد جعلوا قبة الحرم النبوي الشريف
والروضة الطاهرة هدفًا للرصاص، ولم تقل هذه الدعاية على ما نعهد من إسرافها
في الكذب: إنهم رموها بالمدافع ولا أنهم أصابوها بسوء.
وقد ثبت رسميًّا أنه ليس معهم مدافع، ومن المعقول ما قاله لنا ضابط مغربي
كان في مدفعية الجيش الهاشمي بالمدينة وهو أن رصاص بنادق الوهابية يستحيل
أن يصل إلى قبة الحرم الشريف؛ لأنهم يعسكرون في مكان بعيد عن العمران؛ لئلا
تصيبهم مدافع حصون المدينة، على أنهم مأمورون رسميًّا بعدم إطلاق النار على
شيء منها، ويعلمون أن رميها يضرهم ولا ينفعهم.
ولكن شركة روتر البريطانية نشرت هذه الفرية في العالم الإسلامي كله
وكبرتها تكبيرًا، وكان سماسرة الإنكليز في كل قطر يشرحونها ويثيرون بها الفتن،
فيصدقهم كثير من المسلمين الغافلين الجاهلين، فأوهموهم أن الوهابيين يريدون
تدمير الحرم النبوي بمدافعهم، بل أذاعوا في بعض الأقطار البعيدة كإيران أنهم
دمروه بالفعل.
فقد علمنا مما جاء من أخبار الهند العامة في جرائدها، والخاصة بنا وببعض
معارفنا أن وفد الشريف علي الذي كان أرسله؛ لبث الدعاية في الهند قد اتفق مع
جماعة أغاخان رئيس الإسماعيلية وغيرهم من الشيعة الباطنية والظاهرية كالخوجة
والبهرة.. . على إثارة الفتنة في المساجد، واستخدموا بالدراهم بعض المعدين
لذلك في كل مكان، فأعدوا لها الخطب والأدعية والاستغاثات، وساعدهم بعض
الوجهاء المناوئين لجمعية الخلافة كأمين صندوقها السابق الذي أكل مئات الألوف
من أموالها، وصار بعد ذلك عدوًّا لها، وتربص بها الدوائر؛ للطعن في رئيسها
وأعضائها، وتشويه سمعتهم كما شوهوا سمعته بخيانته لها.
فقد كتب إلينا أديب سائح من (بمباي) أنه تعجب من وجود هؤلاء الباطنية
في المسجد، ومشاركتهم للمسلمين في الصلاة والدعاء على الوهابية، مع أنهم لا
يصلون صلاتنا، ولا يتوجهون إلى قبلتنا، ولا يحجون، ولا يزورون قبر الرسول-
صلى الله عليه وسلم - مع عبادتهم لمن يزعمون عصمتهم وألوهيتهم من آل بيته؛
ولكن لا عجب فإذا كان معبود هؤلاء (آغاخان) عبدًا للإنكليز قضى حياته في
خدمتهم، فكيف يكون عبيد العبد؟!
ومما يدل على أن الفتنة إنكليزية ما نشره أحد دعاة الشريف علي في المقطم
عن تأثير الدعاية في عدن وما حولها من تهامة اليمن، واحتجاج السلاطين
البريطانيين هنالك، فقد قال الكاتب في أول رسالته: إن الأخبار التي وصلت عن
أحوال بلدة نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد تركت إخواننا في عدن اليمن، وفي
هياج عظيم، فقد احتج عظمة سلطان لحج (؟) ، والشيخ فضل بن عبد الله
سلطان العقارب (؟) ، وسلطان الحواشب (؟) ، وسلاطين يافع والعوالق (؟) -
ما أكثر أسماء السلاطين عند الإنكليز! - وجميع أمراء العرب على الفعل الشنيع
الذي ارتكبه رجال ابن سعود في حصارهم المدينة المنورة، ولا عبرة بتكذيب
وكيل ابن سعود، بل إن هذه عقيدتهم إلخ.
نقول: أين كان هؤلاء السلاطين البريطانيون العظام والملوك الفخام عندما
انتهك الشريف حسين حرمة حرم الله - عز وجل - وقاتل الترك في بطن بكة مع
قول الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة (إنها أحلت له ساعة
من نهار ولن تحل لأحد من بعده) أظن أن خدمته الإنكليز بذلك نسخت هذا
الحديث عندهم.
وأين كان هؤلاء السلاطين البريطانيون العظام عندما حاصر الشريف حسين
وأولاده المدينة المنورة والترك فيها، كما يحاصرها الوهابيون اليوم؟ أيحلون له
ذلك؛ لأنه كان يحارب الترك بأمر الإنكليز وسلاحهم ومالهم؟ ويحرمونه على ابن
السعود؛ لأنه يريد أن تكون هي وسائر الحجاز بمنجاة من النفوذ الإنكليزي تحت
رعاية العالم الإسلامي؟
وأين كان هؤلاء السلاطين البريطانيون العظام عندما هدد الشريف علي كل
من يقصد أداء فريضة الحج في الموسم الأخير بالقتل، وزعم أن أساطيله بالمرصاد
لكل سفينة تحمل الحجاج إلى ثغور الحجاز الخاضعة للوهابيين: القنفذة والليث
ورابغ؟!
فهل كان المنع من أداء فريضة الحج وإقامة ركن الإسلام مباحًا في دينهم، فلم
يحتجوا على منعه أم مرضاة الإنكليز الذين سعوا لمنع الحج، مرجحة عندهم على
مرضاة الله تعالى؟
وأين كان هؤلاء السلاطين البريطانيون العظام عندما أصدر الشريف علي
(إرادته السنية) من عهد قريب بجعل أعظم منطقة حربية من الحجاز تحت
الانتداب الإنكليزي؟ لماذا لم يحتجوا على هذا ولا ذاك؟ أم يريد هؤلاء السلاطين
العظام أن تكون المدينة المنورة ومكة المكرمة تحت الحماية الإنكليزية مثلهم؟
وإذا كان الأمر كذلك فما لهم وللإسلام ولاسم الإسلام؟
إنهم يدعون اتباع مذهب الشافعي رضي الله عنه، فما لهم لا يهتمون من أمر
الحجاز إلا بهدم بعض القبور المشيدة المشرفة التي تعبد من دون الله تعالى، وتؤتى
عندها المعاصي المجمع عليها؟ وقد ذكر الإمام الشافعي في كتابه الأم ما نقله عنه
عمدة الشافعية الإمام النووي في شرح صحيح مسلم أن أئمة مكة كانوا يهدمون في
عصره ما رفع من القبور عملاً بحديث علي - كرم الله وجهه - (أن لا تدع تمثالاً
إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) أي: بالتراب، فهل كان الشافعي وأولئك
الأئمة من الوهابية؟ أم الوهابية هم المقتدون بهم، والمعتصمون بسنة الرسول
مثلهم، وأنتم وسادتكم من أمراء مكة الذين يتقربون إليكم بتعظيم القبور، وما
يقترف حولها من أعمال الوثنية أعداء السنة والمخالفون لجميع الأئمة؟
لو لم يكن من فتنة جهال المسلمين بقبور الصالحين التي اتبعوا فيها سنن من
قبلهم الذين لعنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على اتخاذ قبور أنبيائهم
وصلحائهم مساجد، وعلى اتخاذ السرج والمساجد عليها إلا جعلهم اتباع السلف
الصالح بهدم بعضها أهم من منع فريضة الحج، وبيع أرض الحجاز للإنكليز؛ لكفى
ذلك موجبًا لهدمها؛ لإزالة هذا الاعتقاد الفاسد، فقد كان علماء الصحابة يتركون
بعض السنن المتفق عليها؛ لئلا يظن العوام بالتزامهم إياها وجوبها، كما روي عن
ابن عباس (رضي الله عنه) في ترك التضحية في عيد النحر، على كونه كان
يذبح الذبائح كل يوم لإطعام الناس، ولذلك نظائر فصل القول فيها الإمام الشاطبي
في كتابه (الاعتصام) فما القول: في بدعة مخالفة للسنة الصحيحة ترتب عليها
من الضلالات والمعاصي والشرك ما هو معروف: كتشيد القبور وتشريفها، وبناء
المساجد وإيقاد السرج عليها، وقد صح لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن
فعل ذلك قبل حدوث افتتان الناس بالطواف بها، ودعاء أصحابها من دون الله تعالى؛
لكشف الضر وقضاء الحاجات ورفع المصائب، ونذر النذور لهم، وذبح القرابين
بأسمائهم، والحلف بهم- إلى غير ذلك من أنواع العبادة - وقد بلغ من شركهم أن
صاروا يصلون لهم لا إلى قبورهم فقط، كما حدثني الشريف محمد شرف عدنان
باشا قال: رأيت رجلاً توجه إلى قبر ابن عباس (رضي الله عنه) في الطائف،
وشرع في الصلاة، فظننت أنه أعمى، فأردت تحويله إلى القبلة فامتنع، ورأيت أنه
بصير، وأنه يتعمد الصلاة إلى القبر مستقبلاً له دون القبلة؛ لأنه يصلي لابن
عباس لا لله تعالى، فقلت للخدم: أخرجوا هذا المشرك من هنا بالقوة؛ ففعلوا.
صرح بعض فقهاء الحنابلة وغيرهم من أهل السنة بوجوب هدم القبور
المشرفة التي لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيدوها وعظموها، وذلك
قبل وجود الوهابية بعدة قرون، كما كان يفعل الأئمة بمكة في زمن الإمام الشافعي،
وقد أمر عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بقلع الشجرة التي بايع النبي - صلى
الله عليه وسلم - أصحابه تحتها؛ لأنه علم أن بعض الناس يزورونها، فقلعت
وعفي أثرها، وذلك قبل أن تصل فتنة المسلمين بمثل هذه الآثار إلى عشر معشار
ما وصلت إليه الآن، فهل كان عمر رضي الله عنه وهابيًّا؟
وقد فصلنا القول في هذه البدع من قبل، وليس من غرضنا إعادته الآن، بل
غرضنا أهم من ذلك وهو بيان الخطر على الحجاز من الإنكليز، الذين سعوا لمنع
إدخال السلاح إلى بلاد العرب كلها؛ تمهيدًا للاستيلاء عليها، وأكبر أعوانهم على
ذلك بيت الشريف حسين بن علي، فهو الذي قرر جعل الحجاز وسائر البلاد
العربية تحت الحماية البريطانية، وجرى هو وأولاده على هذا بالفعل، وآخر
جناياتهم إعطاء أعظم منطقة حربية من أرض الحجاز للإنكليز وهي منطقة
(العقبة - معان) التي تمكنهم من الاستيلاء على بقية الحجاز، أو جعله بحيث لا
يقدر أهله أن يعيشوا فيه إلا تابعين للإنكليز؛ لإحاطتهم بهم من البر والبحر،
وسنبين في الفصل التالي من هذا المقال حال الحجاز بين سلطان نجد والشريف
علي، وما يجب على المسلمين من درء الخطر عن مهد دينهم ومشاعره العظام؛
وكون بقاء سلطة بيت الشريف حسين على الحجاز مفضيًا إلى جعله تابعًا
للإمبراطورية البريطانية حتمًا، وكل من يسعى إلى بقاء سلطتهم فيه فهو يخدم
الإنكليز ويحارب الله ورسوله والمسلمين قصد ذلك أم لا، وقد أعذر من أنذر.
***
(٢)
الموازنة بين سلطان نجد والبيت الهاشمي
لما زحف جيش ابن السعود؛ لإنقاذ الحجاز من سلطة الشريف حسين كان
ضلع الرأي الإسلامي العام معه، فلم ينتدب شعب من شعوبه، ولا جماعة من
جماعاته، ولا فرد من كبار رجاله للدفاع عنه، بل صرح المعروفون من رجاله
بظلمه وفساد سياسته، وزعموا أنهم خلعوه خلعًا، وكذلك فعلت الجرائد التي كانت
تمدحه وتدافع عنه كالمقطم، واتخذوا ذلك وسيلة لإقناع سلطان نجد بإمكان الاتفاق
بينه وبين ولده الشريف علي الذي سموه ملكًا دستوريًّا، ولو أن سلطان نجد بادر
في ذلك الوقت إلى الاستيلاء على جدة والمدينة المنورة لغنم كنوز الملك حسين
واستعان بها على إصلاح الحجاز، ولعقد المؤتمر الإسلامي، وتقرر فيه نظام الحكم
في الحجاز بما يرضي جميع المسلمين، ولكنه قاس الحجاز على إمارة ابن الرشيد
التي استولى عليها بالحصار الطويل دون المناجزة اختيارًا لخسارة المال على
خسارة الأنفس، فأعطى البيت الحسيني فرصة طويلة للاستعداد الحربي وللدعاية
الإفسادية، ولما هو شر من ذلك وهو العود إلى إقناع الإنكليز بأنه قادر على تمكينهم
من سائر بلاد العرب، فعادوا إلى مساعدته بالمال والدعاية كما تقدم في الفصل
الأول من هذا المقال، فطفقوا يهيجون العالم الإسلامي على الوهابية وسلطانهم،
فوجب أن نقيم الوزن بالقسط بين الفريقين.
***
سيئات جند ابن السعود في الحجاز
إن ما نسب إلى جند ابن السعود من السيئات في الحجاز كان ينحصر في
أمرين:
(أحدهما) : أنهم قتلوا في الطائف بعض الأهالي غير المقاتلين.
(ثانيهما) : أنهم هدموا بعض المباني الأثرية التي يتبرك بها الناس؛ فكل
الدعاية الهاشمية في الطعن فيهم لا تعدو هذين إلا إلى ما يذكر في هذه الأيام من ذم
الإدارة في الحجاز، ولم يثبت من ذلك إلا منع شرب الدخان: كمنع الخمر
والحشيش وأمثال ذلك مما كان يلوث به الحرم الشريف، ولا نبحث في هذا فإنه لا
يتعلق بما نقصد من السياسة العامة ومستقبل الحجاز والإسلام.
فأما الأول فيقع مثله في كل حرب، وفي الغالب يكون خطأ وقد يكون بعضه
لضغائن وأسباب شخصية، فإذا كان قد وقع من الوهابية، فقد وقع قبلهم من خير
جنود البرية، وهم الصحابة رضي الله عنهم، فقد روى البخاري في صحيحه
وغيره عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنه) أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
بعث خالد بن الوليد إلى بني خذيمة (داعيًّا لا مقاتلاً) ، فدعاهم إلى الإسلام فلم
يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل منهم
ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل منا
أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا
على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه له فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم -
يديه وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) - مرتين.
وهذا ذنب مضى لا يضر البلاد ولا الأمة وإثمه على من فعله لا نبرئهم منه،
وأما الثاني: فإذا عقد المؤتمر الإسلامي الذي يدعو إليه السلطان ابن السعود، وقرر
أنه خطأ أمكن إعادة تلك المباني أو الأثري منها، بشرط مراعاة أحكام الشرع في
اجتناب كل منكر يتعلق بها، والمنع منه بالقوة المنفذة للشرع.
***
سيئات البيت الهاشمي
وأما سيئات الشريف حسين وأولاده فلا تُعَدُّ وقد ألفنا كتابًا في ذكر بعض
سيئات الأول، جعلناه خطابًا للعالم الإسلامي، وفيه شيء من ظلم ولي عهده،
والشريف علي بالمدينة، ولكننا لا نذكر هنا إلا ما هو خطر على الحجاز وحصنه
من جزيرة العرب وهو:
(١) وضع الشريف حسين عند شروعه في الثورة بإغواء الإنكليز صورة
اتفاق معهم سماها (مقررات النهضة) ، صرح فيها بأنهم الذين هم يؤسسون
الحكومة العربية، وتكون البلاد تحت حمايتهم في داخلها وخارجها، وأعطاهم فيها
حق إشغال ولاية البصرة إلخ، ويؤكد إصراره على ذلك أنه رفع استقالته من الملك
مكررة إلى الحكومة البريطانية في لندن، ونشر ذلك في جريدته التي كانت تسمى
(القبلة) ، وقد عاد الآن إلى مخاطبة الحكومة الإنكليزية بإنجاز وعدها له، وإخراج
ابن السعود من الحجاز، كما أشرنا إليه في الفصل الأول.
(٢) لا يزال ولده الشريف فيصل يمهد لهم سبيل امتلاك العراق بالصور
والأساليب التي يأمرونه بها، وكان قد اتفق مع فرنسة على وصايتها الانتدابية على
سورية وعجز عن تنفيذ ذلك.
(٣) مهد لهم ولده الشريف عبد الله سبيل امتلاك شرق الأردن، وإخضاع
قبائله وعشائره وما جاورها، فأسسوا فيها حظيرة للطيارات الحربية، وجعلوها
برضاه تابعة لفلسطين في الانتداب، وكانت مستقلة، وأعطاهم وثيقة رسمية بحق
إدارة سكة الحديد الحجازية التي تمر منها، وباسمه وسعيه أخذوا المنطقة الحجازية،
يريدون أخذ منطقة الجوف النجدية باسمه أيضًا، وهم إذا شاؤوا إخراجه في أي
وقت، فإنهم يخرجونه كما أخرجوا والده طوعًا أو كرهًا.
(٤) الشريف علي هو الذي أعطاهم المنطقة الحربية الأخيرة من أرض
الحجاز بمحض إرادته (التي يصفها بالسنية تقليدًا لسلاطين آل عثمان) كما تقدم.
ومن المعلوم بالضرورة أن أهل هذا البيت متضامنون في خدمة الإنكليز،
وممالكهم الصورية يعدونها منحة من الإنكليز، ويعلمون أن الشعب الحجازي يمقتهم،
وأنه لا سبيل إلى تمتعهم بعظمة الإمارة والملك إلا بحماية الإنكليز بل في ظلمهم،
فإذا ظلوا متمتعين، بها فلا تمضي إلا سنين قليلة، ويستولي الإنكليز بالفعل على
بلاد العرب وفي مقدمتها الحجاز.
وقد علم من أعمالهم الرسمية أنه لا يردعهم عن ارتكاب أعظم الجنايات
الموبقة - ولا سيما خدمة الإنكليز -خوف من الله ولا حياء من قومهم ولا من أهل
الدين الذي ينتسبون إليه، حتى إن الذي سمى نفسه ملكًا دستوريًّا - وهو علي -
يعطي بعض أرض الحجاز المقدسة للإنكليز بمقتضى (إرادته السنية) ، فأين
الحكومة الدستورية التي ادعاها؟ وأين الحزب الوطني الذي بايعه عليها بعد
ادعاء خلع الملك حسين لاستبداده.. .؟
***
الدعاية الهاشمية
ليس هنالك أحزاب حجازية، ولا مبايعة شعبية دستورية، ولا خلع لمن
ادعى الخلافة الإسلامية، وسمى نفسه ملك البلاد العربية، وإنما هنالك أفراد رباهم
حسين لنفسه قاموا ولا يزالون يقومون بهذه الدعاية التي يعتمد عليها حسين وأولاده،
كما يعتمدون على الإنكليز، ولا يقيمون لغيرهما من العلم والعمل ولا من الناس
وزنًا، منهم عبد الرؤوف أفندي الصبان الملقب بمندوب الحزب الوطني الحجازي
بمصر، وحسين أفندي الصبان مدير جريدة القبلة، وكل ما ينشر في مصر من
الدعاية فهو منهما، ومن الشيخ عبد الملك الخطيب الملقب بوكيل الحكومة العربية.
ومنهم الوفد الذي أرسل إلى الهند فأحدث فيها فتنة لا يستهان بها، وزعيماه
محمد طاهر الدباغ والطيب الساسي، وهما من المغاربة المقيمين بالحجاز،
وثانيهما كان مستخدمًا في إدارة جريدة القبلة الحسينية.
ونرى هؤلاء الدعاة ينفقون الأموال بألوف الجنيهات على الجرائد وغيرها من
حيث تواترت الأخبار بعجز ملكهم الشريف علي عن أداء رواتب الجنود التي
استأجرها من فلسطين وسورية وغيرهما؛ لإقامة ملكه حتى انفض أكثرها من حوله،
وعادت إلى بلادها، ومن أخبار الهند الخاصة أن وفد الهند بذل للشيخ أبي الكلام
أحمد الزعيم الشهير عشرة آلاف جنيه؛ ليبث دعوتهم، ويلقي خطبة في الطعن في
الوهابية، فكان ذلك دليلاً عنده على كذبهم.. . وما هو ممن يعبد المال مثلهم،
فلذلك رد طلبهم، وقد أنشأ هذا الوفد جريدة أسبوعية في بمبي هي أسفه من جريدة
القبلة قليلاً، وأضل سبيلاً، فاغتر بهذه الدعاية كثيرون، وأخذ الزعماء العارفون
بالحقائق على غرة، فتريثوا في الرد على هذه الدعاية حتى خاطبوا ابن السعود في
الأمر بلسان البرق كما فعل ملك مصر، ولما وقفوا على الحقيقة، وأن جيش الإخوان
لم يضرب قبة المسجد النبوي بقنبلة ولا رصاصة، حملوا حملة عظيمة على
دعاية وفد الشريف علي حتى اضطر إلى مغادرة الهند.
***
افتراض الإنكليز للفتنة
في أثناء هذه الضجة أمر الإنكليز حكومة العراق بمطالبة سلطان نجد بإعادة
عقد المؤتمر الذي كان قد اجتمع في الكويت؛ لوضع الحدود بين العراق ونجد
وشرق الأردن والحجاز، وأرسلوا هم من قبلهم وفدًا إلى الحجاز لمفاوضة سلطان
نجد في هذه المسألة، وجل ما يبغونه منه أن يعترف لهم بالحدود الجديدة لمنطقة
شرق الأردن بعد أن ضموا إليها من بلاد الحجاز ما علمنا، وأن يضموا إليها
(الجوف) الذي كان تابعًا لإمارة ابن الرشيد، وصار بعد ذلك جزءًا من سلطنة
نجد.
وإنهم يتوسلون إلى إقناعه بما يخوفونه الآن من تأليب العالم الإسلامي عليه،
وإغراء مصر وإيران وغيرهما من الأقطار الإسلامية به، حتى الهند التي كانت
مشايعة له، فأصبح كثير من أهلها عليه كالإسماعيلية وفرق الشيعة، وبعض عوام
أهل السنة، بحيث إذا عقد المؤتمر الإسلامي الذي يطلبه يسعون بنفوذهم السياسي
والمالي، وخداعهم إلى جعل الأكثرية الساحقة فيه عليه لا له، ومؤيدين لخصمه
الشريف علي عليه. وذلك أن أكثر مسلمي الأرض خاضعون لسلطانهم وسلطان
حليفتهم فرنسة بالفعل، بل يوهمونه أنه يسهل عليهم خداع سائر الشعوب الإسلامية
بموافقة مندوبي هؤلاء، بدليل أنهم هيجوا بعضها بالفعل كالشعب الإيراني، ولكنهم
لا يصرحون بهذه الإيهامات.
فإن هو خاف من ذلك، واعترف لهم بهذه الحدود يكون كمن شحذ مديته
وبخع بها نفسه بيده، ويكون كل هؤلاء المسلمين الذين هاجوا عليه، وطفقت
جرائدهم تطعن في جنده، شركاء له في هذه الجناية على الحجاز وعلى الإسلام،
نعم إن الإنكليز ربما يكافئونه على اعترافهم له بهذه الحدود مكافأة سلبية خادعة، وهي
ما لا يزالون يدعونه من التزامهم موقف الحياد في التنازع بينه وبين الشريف علي،
وماذا يفعل بعد ذلك وهو محاط به من البر والبحر، ولا سيما بعد مد الإنكليز لسكة
الحديد الحربية من فلسطين إلى العراق مارة بأرض الحجاز ونجد؟
الواجب على السلطان عبد العزيز شرعًا وعقلاً وسياسة أن لا يخاف من تهديد
الجنرال كليتن وخداعه، ولا يبالي بوعده ولا بوعيده، فإن دولته المرسلة له لا
تقدر الآن على إيذاء نجد وغيرها من بلاد العرب بأكثر مما فعلت من الدسائس،
ومن مساعدة الحجازيين بما أجملناه في هذا المقال، أعني: إنها لا يمكن أن تسوق
عليه جيوشًا بريطانية تقاتله بها، فإن فرضنا أنها يمكنها أن تحمل دولة إسلامية
على قتاله؛ لإخراجه من الحجاز - وما ذلك بالأمر السهل - فعاقبة ذلك خير له من
السماح للإنكليز بشبر من أرض الحجاز أو من أرض نجد، يأخذونها باختياره ثم لا
تكون عاقبة أمرها إلا القضاء على كل من الحجاز ونجد بعد زمن قليل، ولأن
يضيع الحجاز بيد غيره أشرف له وأسلم من خزي الدنيا والآخرة من أن يضيع بيده.
إذا أحدث الإنكليزي فتنة حربية في الحجاز بأيدي دولة إسلامية فلا ينتظر من
ابن السعود إلا أن يترك الحجاز لهذه الدولة الإسلامية، ويحملها تبعة حفظه أمام الله
والمسلمين، ويزحف بكل قوته على شرق الأردن وفلسطين والعراق، فهو إن فعل
ذلك يجد الترك قد انتهزوا هذه الفرصة وزحفوا على الموصل، وإذا أنقذ العراق
وقلب جزيرة العرب من الإنكليز ذهب تسعة أعشار الخوف على الحجاز ونجد،
ولن ترضى الأمة البريطانية من حكومتها الماكرة أن تحملها أعباء حرب جديدة في
بلاد العرب تضحي فيها مئات الألوف من الإنكليز، وتغتال مئات الملايين من
ذهبهم، بعد أن كادت الديون وبطالة العمال وكساد التجارة تقضي على ثروتهم.
ولئن كانت الحكومة الهندية تظن أنها يمكنها الاعتماد على مسلمي الهند في
إيقاد نيران الحرب في الحجاز؛ بإيهام عوامهم أنها تنقذ بذلك القبور والقباب من
الوهابية، فهي لا تأمن لهم ولا للهندوس في إيقاد نيران الحرب في بلاد العرب
لقتال العرب والترك دفاعًا عن تاج فيصل وعقال أخيه عبد الله، بل هي لا تأمن
عاقبة إرسالهم إلى الحجاز أيضًا؛ لأن العارفين بكيدها للحجاز من ضباطهم وجندهم
كثيرون.
إن الدولة البريطانية لا تثير حربًا جديدةً قط، وما لديها إلا الخداع، فلا
يكونن سلطان نجد من المخدوعين.
لا يتوهمن أحد من ذكرنا لزحف الترك على الموصل أننا نعتقد أن لهم الحق
في ذلك، أو أننا نفضل جعل هذه الولاية تركية على جعلها عربية، كلا، وإنما
نعتقد أن طمع الترك قد يقف عند حد الموصل من بلاد العرب، وأما طمع الإنكليز
فلا يقف عند حد، وهم عازمون قطعًا على امتلاك جميع البلاد العربية، وإزالة
سلطان الإسلام وشريعته من الأرض، فإذا ظفروا بقوة ابن سعود وهي أكبر قوة
عربية في الجزيرة فقل: على العرب وعلى الإسلام السلام، ونعتقد أن ابن سعود إذا
زحف لإنقاذ العراق لأهله يقوم معه معظم العرب، وإقناع العراقيين بذلك سهل.
***
(٣)
دسيسة الصلح بين الحجاز ونجد
نحن من المصدقين بأن سلطان نجد كان ولا يزال قادرًا على أخذ جدة والمدينة
المنورة عنوة كما حكي عنه، ثم صرّح به هو رسميًّا. ومن المصدقين بأنه اختار
الحصر بالمطاولة على المناجزة، كراهة لسفك الدماء، وتخريب العمران، ويعتقد
مع هذا أن هذا الاجتهاد كان خطأً، ضرره على سياسة السلطان وعلى الحجاز أكبر
من نفعه، فلو أنه بعد أن علم بما كان من تحصين جدة أعد للهجوم عليه عدته،
وأخذها عنوة لانتهت المسألة الحجازية، وأقبل الحجاج على مكة من جميع الآفاق؛
فاتسع الرزق على أهل الحجاز، وشاهد وفود مسلمي الأرض كلها الفرق العظيم
بين عدل ابن السعود، وتأمينه للبلاد، ومنعه للظلم والإلحاد، وتعففه عن أموال
الحجاج، وإقامته لأحكام الشريعة، وبين بظلم حسين بن علي وإلحاده في حرم الله،
ولعقد المؤتمر الإسلامي العام، وقرر شكل حكومة الحجاز وما يجب من الإصلاح
الديني والعمراني فيه (كما تقدم آنفًا) ، واستراح المسلمون عامة والعرب خاصة،
واطمأنوا بذلك على حرمهم وقبلتهم ومشاعر دينهم، وروضة نبيهم صلى الله عليه
وآله وسلم، وأمنوا نفوذ الأجنبي أن يفسد عليهم أمر دينهم، ويذلهم حيث أعزهم
الله تعالى.
لقد آن للسلطان الذكي العاقل أن يدرك الفرق العظيم بين حصره لابن الرشيد
في جبل شمر، وبين حصره للشريف علي صنيعة الإنكليز وابن صنيعتهم في ثغر
بحري، يتصل فيه بهم وبمن شاؤوا وشاء من العالم، وقد علم بعض ما في ذلك من
الضرر، ومنه أن رجال العرب وكثيرًا من زعماء الإسلام الأعاجم؛ وكثيرًا من
الأجانب كانوا يقدرون قوته الحربية قدرها، وينتظرون أن تتضاعف هذه القوة
بإدخال النظام العصري فيها، وتسليحها بالأسلحة الجديدة التي كانت فاقدة لها،
وكانوا ينتظرون أن تتجدد بذلك دولة عربية قوية، تحفظ بالاتحاد مع قوة الإمام
يحيى مهد الإسلام وجزيرة العرب من النفوذ الأجنبي، وتجدد شباب هذه الأمة.
فلما مرت سنة كاملة، بل قبل أن تنتهي هذه السنة على حصار جدة التي
يحميها أوشاب من متطوعة بلاد كثيرة، استؤجروا للدفاع عنها بحشو بطونهم من
لماج العيش (اللماج بالفتح أدنى ما يؤكل) ، ظن الأكثرون أن هذه قوة يدوية لا
غناء فيها ولا استعداد، ولا قابلية فيه لمناجزة أضعف الجنود المنظمة، مهما يكن
نظامها ناقصًا وضعيفًا، وذهبت بهذا الظن هيبة الوهابيين من أنفس أولئك الظانين،
وانقطع حبل الرجاء بكثير من أولئك الراجين، وزالت مهابة الخوف من كثير من
الخائفين، وصار لطلاب الصلح بين المتحاربين أنصار كثيرون حتى من العارفين
بفساد بيت حسين وظلمهم وكونهم صنيعة الإنكليز، وشبهتهم على هذا، أن القوتين
متكافئتان، لا يرجى حقن الدماء وأمن البلاد وحرية الحج إلا بالصلح بينهما.
ولم يكن ينطق بكلمة الصلح بينهم وبين سلطان نجد قبل هذه الأيام إلا
صنائعهم ودعاة فتنتهم، ولم تردد هذه الكلمة إلا الصحف القليلة التي تنشر دعايتهم
وفي مقدمتها المقطم، فهي التي ما زالت تنشر هذه الدعوة إلى الصلح حكاية عن
بعض دعاة الشريف علي وباسم بعض محرري المقطم، وزعمت أن الوفد المصري
الذي سافر إلى جدة فمكة بأمر جلالة ملك مصر المعظم برئاسة الأستاذ الكبير الشيخ
محمد مصطفى المراغي رئيس المحكمة الشرعية العليا لم يذهب إلا للوساطة بعقد
الصلح بين الشريف علي وسلطان نجد؛ لما كان من استغاثة الشريف علي بجلالة
الملك في البرقية المشهورة التي نشرت في الصحف المصرية، ونشرناها نحن في
الجزء الخامس من المنار، وإنما يقول المقطم هذا رأيًا لا رواية، ونحن نخالفه في
هذا الرأي، ونرجح أن الوفد أرسل لاختبار حالة الفريقين لا للتدخل في شؤونهما
بالفعل، إذ لا يعقل إقدام هذا المقام الجليل على مثل هذا التدخل إلا بعد العلم
باستعداد الفريقين لقبول وساطته، والعلم بأن الصلح بينهما على قاعدة بقاء الحكم
في الحجاز للشريف علي موافق للمصلحة الإسلامية العامة، وأي مصلحة للإسلام
في توطيد السلطة في الحجاز لمن يدعون أن البلاد ملك لهم، وأنه يباح لهم
التصرف فيها حتى ببيع ما شاؤوا منها للأجانب كما وقع بالفعل؟ ولهذا نعتقد أن
دعاة الفتنة الذين يحرضون الدولة المصرية على قتال الوهابيين، وفتك هذه البقية
الضعيفة من قوى المسلمين بعضها ببعض، لا تثمر لهم دعوتهم إلا الخزي في
الدنيا والآخرة.
إننا نعتقد بما لنا من الاختبار الواسع أن عقد الصلح بين الشريف علي
وسلطان نجد على قاعدة جعل الأول ملكًا في الحجاز يفضي إلى المفاسد الآتية:
(١) عودة الشريف حسين إلى مكة مدعيًا للخلافة الإسلامية تحت حماية
الإنكليز عملاً بمقررات النهضة، فقد علمنا علم اليقين أن أولاده الملوك
البريطانيون على العراق وشرق الأردن والحجاز لا يزالون متمسكين بخلافته، وقد
صرح ولي عهده الشريف علي في (الإرادة السنية) التي أصدرها بجعل منطقة
العقبة وشرق الأردن الحجازية تابعة لشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني
بالتعبير عن والده بالخليقة الأعظم، وإذا هو عاد إلى مكة يعود إليها الظلم والإلحاد
والإفساد والشقاق بين الحجاز وسائر حكومات الجزيرة، ولا سيما نجد، إذ يعود
هو إلى مطالبة سلطنة نجد وإمام اليمن بوجوب اتباعه من حيث هو خليفة الرسول
وأمير المؤمنين، وإلى التصدي لتنفيذ ما وضعه من النظام لوحدة البلاد العربية التي
يسميها (الممالك الهاشمية) ، ومنها أن تكون كلها تابعة له في السياسة والحرب
والإدارة العامة، وحينئذ يسمح لأمرائها بالاستقلال الإداري بشرط رد إمارة ابن
الرشيد وإمارة أولاد عايض اللتين استولى عليها سلطان نجد! ! (راجع: خطاب
عام إلى العالم الإسلامي) فأي إصلاح وخير يرجو الداعون إلى صلح هذه أولى
نتائجه؟
(٢) إن الشريف حسينًا صرح بالقول والكتابة والنشر بكفر الوهابية، وأنه
يجب على ولي أمر المسلمين إقامة شرع الله فيهم؛ أي: بقتالهم إلى أن يعودوا إلى
الإسلام الذي يدعيه هو كما يفهمه أو ينقرضوا، وقد اتهم هو الوهابية بمثل هذه
التهمة بالتبع لاتهام سلفه الشريف غالب لسلفهم عند مبدأ ظهورهم، وثبت أنه كاذب
كسلفه وخلفه، فقد استولوا على بلاد الحسا التي كانت سلطة الدولة العثمانية، ولم
يعاملوا الشيعة من أهلها معاملة الكفار في شيء، مع أن الخلاف بين الوهابية
المتعصبين للسنة وبين الشيعة شديد جدًّا، ولذلك نجد شيعة إيران والهند والعراق
وسورية أشد الناس تحاملاً عليهم، حتى إن صديقنا السيد هبة الدين الشهرستاني
الذي كنا نعده من دعاة الجامعة الإسلامية ومن المعتدلين في التشيع ألف رسالة في
صد المسلمين عن الحج، مع وجود الوهابية في الحجاز، وأما أهل الحجاز فقد
اجتمع علماؤهم بعلماء نجد عقب احتلال ابن السعود لها، وقرروا بعد المذاكرة أنه
لا خلاف بينهم في العقيدة، وأنهم كلهم على السنة، كما جرى مثل ذلك عند احتلال
الأمير سعود لمكة المكرمة منذ قرن وسنين حذو القذة بالقذة، فأي مصلحة في عقد
صلح يفضي إلى إعادة تكفير من يدعي الخلافة لأقوى شعوب الجزيرة دينًا ونجدة
وقتاله لهم إن قدر، ولو بمساعدة الإنكليز؛ لأجل إكراههم على ترك السنة وعبادة
القبور؟
(٣) إن الشريف حسينًا وأولاده ليس لهم قوة ولا عصبية في بلاد الحجاز
ولا في غيرها من بلاد العرب كما كنا نقول، وثبت قولنا بالفعل بما علمه القاصي
والداني من كون جميع قبائل الحجاز القوية مشايعة لسلطان نجد عليهم، ولولا ذلك
لم يستطع الوهابيون البقاء في الحجاز، ومن كون الجند الذي يدافع عن جدة قد جمعه
الشريف علي وأعوانه من فقراء اليمن وفلسطين وسورية المحتاجين إلى القوت
الضروري؛ ولأجل هذا بنى الشريف حسين ثورته وما سماه (مقررات النهضة)
العربية على تأسيس الإنكليز للمملكة العربية وحمايتها لها من الداخل والخارج،
وكان أول من نشر هذه المقررات الأمير فيصل في سورية، ومن المعلوم
بالضرورة أن الشريف حسينًا وأولاده متكافلون متعاونون في سياستهم، وأن الحجاز
لا يستغني عن مساعدة حكومتي شرق الأردن والعراق، مع عداوته الراسخة لنجد،
وطمعه في إخضاعها هي واليمن وتهامة كما تقدم، ومن المعلوم بالضرورة أن
هاتين الحكومتين بريطانيتان، فلن تكون حينئذ الحجاز غير بريطانية.
***
غرض الإنكليز حماية الحجاز
وجملة القول وخلاصته أن الدولة البريطانية طامعة في ضم جزيرة العرب
إلى الإمبراطورية البريطانية المرنة، وفي القضاء على الإسلام، وعلى سلطان
المسلمين فيها كغيرها من أقطار الأرض، وقد كانت طريقتها في الفتح والاستعمار
خفية، فأصبحت ظاهرة جلية، فهي تصطنع الزعماء ورؤساء الأمم بالمال
والإغواء والإغراء، وتضرب بعضهم ببعض كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود، بل
مثلها كمثل جنة الأدواء (الميكروبات) في إفساد الأجسام، وجنة [١] الشياطين في
إفساد الأرواح، من حيث لا يشعر أولئك ولا هؤلاء، وإنما العالمون بأمر تلك
الجنة أطباء الأجساد النطاسيون، وبأمر هذه الجنة أطباء الاجتماع السياسيون،
وأكثر المسلمين لا يزالون يعتمدون على أطباء الخرافات الدجالين.
وهي لم تحدث هذه الجلبة والضوضاء في تخويف الشيعة وجهلاء المنتسبين
إلى السنة من قوة الوهابيين، التي هي مع قوة إمام اليمن حصنان منيعان في وجه
طمعها في جزيرة العرب إلا لتهون على العالم الإسلامي ما تبغي من التصريح
بحماية الحجاز، فالشيعة يساعدونها على حد المثل (لا حبًّا في علي، ولكن بغضًا
في معاوية) ، وجهلاء المبتدعة من المنتسبين إلى السنة يوافقونها لاعتقادهم أنها
تحمي لهم القبور والآثار التي صارت معبودات لهم، وهنالك آخرون مستذلون
تحت حمايتها يوافقونها على كل شيء جبنًا وجهلاً ونفاقًا، ووالله أنها لشر على
الجميع وخطر على دينهم ودنياهم كلهم، ووالله إن قضاءها على قوة العرب في
جزيرتهم، وجعل مهد دينهم وقبلته وشعائره تحت حمايتها لقضاء على الإسلام كله
مؤذن بزواله وإذلال جميع أهله، ووالله إنه لا يرجى بعد ذلك أن يبقى لإيران ولا
لمصر ولا لغيرهما استقلال، وقد عرف المصريون عاقبة حماية عرش أميرهم من
العرابيين كيف كانت.
إن من الممكن السهل التناول إنشاء قوة عسكرية في جزيرة العرب؛ تحفظ
استقلالها ومجد الإسلام فيها، والإنكليز يحاولون التعجيل بالاستيلاء على الجزيرة
كلها قبل أن يعقل العالم الإسلامي هذا الأمر ويسعى لمساعدة ابن السعود وإمام اليمن
عليه، ولذلك حملت ربيبتها جمعية الأمم على تقرير منع السلاح عنها، فإن تم لهم
ذلك وصار البحر الأحمر إنكليزيًّا محضًا، وصار للإنكليز قوة برية في فلسطين
ممتدة إلى العراق لا تجاورها قوة تحسب لها أدنى حساب، فأي مصري أو إيراني
يسفه نفسه ويخلع عقله، فيزعم أن بلاده يمكن أن تستقل وقد أحاط بها الإنكليز من
البر والبحر؟
وقد ظهر كالشمس في رابعة النهار أن الشريف حسينًا وأولاده هم أكبر أنصار
الإنكليز على الاستيلاء على بلاد العرب ما تم منه وما لم يتم، ولما كان المصريون
يعلمون من هذه الحقيقة ما لا يعلم شيعة إيران والهند لم تؤثر فيهم الدعاية الهاشمية
البريطانية الأخيرة، حتى صرحت جريدة التيمس بالتعجب من ذلك (!) ، وقد آن
للإيرانيين أن يفقهوا هذا، ويتركوا التعصب الضار الذي لم يعد له عذر في هذا
العصر، وقد عرف عقلاء الشيعة في العراق كنه الملك فيصل البريطاني،
وليرجعوا إلى منشآت السيد جمال الدين موقظ مصر وإيران والشرق، ويتدبروا ما
كتبه في الإنكليز.
***
علاوة مؤيدة لما تقدم
كنت بدأت بكتابة هذا المقال لجزء المنار الخامس الذي صدر بتاريخ سلخ
صفر، فلما لم يتسع له أرجأت إتمامه، وقد جاءني بعد نشر بعضه في الجرائد
والمنار وقبل ختامه كتاب من قلب الهند، أكد عندي كل ما رأيته وكتبته من
الأراجيف التي ذاعت في الهند بسعي وفد طاهر الدباغ ودسائس الإنكليز، ومما
جاء فيه (فتأثر كثير من الناس بهذه الأراجيف، وأخذوا يشتمون ابن سعود، بل
بعض من أصحاب الأغراض أخذ يقول: يجب أن تتدخل الدولة البريطانية في
الأمر؛ فتخرج ابن سعود بقوتها العسكرية) ، تأملوا تأملوا، هذا بيت القصيد،
وهو أعظم خيانة صدرت من أحد يدعي الإسلام.
وجاء فيه أيضًا أن الشيخ عبد الباري الفرنج محلي اللكهنوي (وهو نصير
الإنكليز والبيت الهاشمي والمبايع الوحيد من علماء الهند الغافلين لحسين بن علي
بالخلافة) ، ومجتهدي الشيعة وحزب الحكومة الإنكليزية قد أجمعوا أمرهم وعقدوا
في لكهنو مجلسًا كبيرًا؛ لكيد النجديين، فعارضهم في مبادئهم اثنان من أفاضل أهل
السنة العارفين بدسائس الحكومة ومقاصدها السيئة في الحجاز، وجادلاهم بالحجة
فلم يكن لهم عليهم من سلطان إلا السب والضرب، وإخراجهما جرًّا على الأرض،
وقد ذكر ذلك في أكثر الجرائد الهندية.
(ثم بشرنا الكاتب بانتشار الحركة الإصلاحية بعد هذه الدعاية بسرعة (قال) :
حتى إن عباد القبور والقبب يرجعون إلى التوحيد الخالص بمئات الألوف) ،
ورأينا جرائد المسلمين الكبرى في الهند تنشر الأحاديث الصحيحة وأقوال العلماء
في بدع القبور ووجوب هدم المشيدة المعظمة منها.
نقول: يا حسرة على المسلمين لا يزال يوجد فيهم ألوف وملايين يتصرف
فيهم أعداؤهم، ويسخرونهم كالأنعام، ويخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي خصومهم كما
وصف الله أهل الكتاب في عصر التنزيل، ومنهم بعض المعممين الجامدين النفعيين
(كالشيخ عبد الباري) ، يسير هؤلاء العلماء في الطريق التي يسوقهم فيها أعداء
دينهم ودنياهم، وهم لا يشعرون بخطره وسوء عاقبته.
***
ما يجب على المسلمين للحجاز
فالواجب على أهل الغيرة والإخلاص والوقوف على الحقائق من المسلمين أن
يتداركوا هذه الفتنة الإنكليزية، ويحولوا بينها وبين حرم الله وحرم رسوله،
وسياجهما من جزيرة العرب، مادامت قوة سلطان نجد مائلة مانعة للنفوذ الإنكليزي
أن يستحوذ عليها. وليتذكروا وصية الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في
مرض موته بأن لا يبقى في جزيرة العرب دينان، وقوله: (إن الإسلام بدأ غريبًا
وسيعود كما بدأ، ويأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها) رواه مسلم عن
ابن عمر، وللترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني مرفوعًا (إن الدين ليأرز
إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى حجرها وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية [٢]
من رأس الجبل، إن الدين بدأ غريبًا ويرجع غريبًا، فطوبى للغرباء الذين
يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنتي) ، فليعقل المسلمون كافة وأهل السنة
خاصة هذه الأحاديث، وليفقهوا حكمتها، ويعملوا بمراد نبيهم - صلى الله عليه
وسلم - منها، ويتعاونوا على إبعاد الإنكليز عن الحجاز تنفيذًا لهذه الوصية،
وليعلموا أن كل من يقربهم من الحجاز فهو عدو لله ورسوله والمسلمين، وفي مقدمة
هؤلاء الأعداء حسين بن علي وأولاده وأنصارهم أجمعون أكتعون أبتعون أبصعون.
يجب على المسلمين المخلصين المعتصمين بكتاب الله وسنة رسوله - صلى
الله عليه وسلم - أن يبادروا إلى عقد المؤتمر الذي دعا إليه سلطان نجد، ويقرروا
إبعاد الإنكليز عن الحجاز وانتزاع منطقة العقبة - معان وسكة الحجاز منهم ومن
فرنسة، ووضع نظام لحكومة الحجاز من قواعده أن لا يكون لغير المسلين أدنى
نفوذ فيه ولا وجود بأي اسم من الأسماء، وليعلموا أنه لا يتم لهم عقد المؤتمر إلا
بقوة سلطان نجد الذي أقام الحجة عليهم بتفويض أمر حكم الحجاز وحفظه إليهم،
فلم يبق لأحد منهم عذر لا للشيعة ولا لمبتدعة القبور ولا لغيرهم، فمهما يكن أمر
هذا السلطان في نفسه وأمر قومه في أنفسهم فهو يعلن رسميًّا أن الحرمين الشريفين
ليسا له ولا لحسين بن علي وأولاده، بل يجب تفويض أمرهما إلى زعماء المسلمين
كافة، فمن يرغب عن هذه الخطة إلى جعلها مملكة موروثة في بيت الشريف حسين
يتصرفون فيه كما شاؤوا، حتى يجعلها تحت حماية أعداء الإسلام والطامعين فيه،
ويبيعون ما شاؤوا من أرضهما، فهم أعدى أعداء الإسلام، ويجب أن يظهر نفاقهم
لجميع المسلمين.
ونقترح على سلطان نجد أن يجدد الدعوة إلى عقد المؤتمر لذلك بصفة رسمية؛
بالكتابة إلى ملوك المسلمين ورؤساء حكوماتهم المستقلة ومنها دولة إيران، وإلى
جماعات الشعوب الإسلامية المعروفة بخدمتها للإسلام، وأن يذكر في كتاب الدعوة
الموضوع الذي يبحث فيه المؤتمر بالتفصيل، وأهمه أن لا يكون لأجنبي مُلك ولا
نفوذ ولا مقام في الحجاز، وأن تكون حكومته حكومة شورى شرعية، ولا يتسع
هذا المقال لبيان رأينا التفصيلي فيه، وسنشرحه عند الحاجة إليه إن شاء الله.
أيها المسلمون، الأمر جدٌّ، والخطب إدٌّ، وليس بعد اليوم كوفة، فإذا استولى
الأجنبي الطامع على مهد دينكم، واستعبد قوم رسولكم، وهم أعرق شعوب الأرض
في الحرية والاستقلال، فماذا يبقى لكم؟ وإذا لم تظهروا الغيرة على حرم ربكم
وحرم رسوله - صلى الله عليه وسلم - فأي شعور يحترم الطامع لكم؟ وأي مقاومة
يخشى منكم؟
لا تسمعوا كلمة لدعاة حسين وعلي وعبد الله وفيصل، فقد ثبتت خيانتهم
للإسلام وللعرب بالفعل، ولم يتجرأ أحد منهم على تكذيبنا في جعل ملكهم على
منطقة عظيمة من الحجاز تحت الانتداب الإنكليزي؛ لأن جريدة شرق الأردن
الرسمية نشرت الخبر كما نشرته صحف سورية والعراق.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ *} (الأنفال: ٢٧-٢٨) .
{وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} (الأنفال: ٢١) .
((يتبع بمقال تالٍ))