للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مقدمة الطبع والنشر
لرحلة الأمير شكيب الحجازية

بسم الله الرحمن الرحيم
{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ
عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم
مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} (الحج: ٢٧-٢٨) ، {أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى
الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: ٤٦) (الآيات من سورة
الحج) .
يحج بيت الله الحرام، ويزور مسجد رسوله وروضته عليه أفضل الصلاة
والسلام - ألوف كثيرة من مسلمي الآفاق، أكثرهم من العوام والفقراء، وبعضهم
من العلماء والأدباء والكُتاب والشعراء، ويقل في جملتهم مَن يفقه ما يعمل ومَن يعي
ما يسمع، ومن يعقل ما ينظر، ويقل في هؤلاء من يكتب لإخوانه المسلمين ما
يفيدهم شيئًا لا يجدونه في كتب الفقه أو التاريخ والرحلات والأدب.
بل نرى من حجاج إخواننا المصريين مَن يكتبون في كل عام ما يغضب الله
تعالى ويسوء جيرانه في حرمه، وجيران رسوله صلى الله عليه وسلم في روضته،
وخدام قاصدي هذين الحرمين من المطوّفين والمزورين، وحكامهما الحافظين
لأمن السكان، وآمّين البيت الحرام، وأطباءهما المحافظين على صحة أهلهما،
وصحة من يتشرف بأداء المناسك والزيارة فيهما، بل يكتبون ما ينفر المسلمين عن
إقامة هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، ويصدهم عن إحياء هذه الجامعة العامة
التي امتاز بها على جميع الأديان، فهذا يشكو من شدة الحر، وذاك يتململ من كثرة
النفقة، وآخر يتبرم بما يزعم من تقصير المطوفين وطمعهم.
وأغرب من كل هذا أن منهم مَن ينتقدون منع البدع والخرافات، والطواف
بالقبور والاستغاثة بالأموات، وأن منهم مَن كتب في هذا الشهر مشنِّعًا على حكومة
الحجاز التقصير في عمارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وتجديد فرشه، وهو
يعلم أن حكومة الحجاز الحاضرة - على فقرها - قد فعلت ما لم تفعله حكومة قبلها:
من حفظ الأمن، وتسهيل السبل، وتوفير المياه، والإسعافات الصحية للحاج،
فإن هذا قد صار متواترًا، ويعلم أيضًا أن حكومته هو قد منعت ما كانت ترسله إلى
الحرمين وأهلهما من الأموال، والحقوق المقررة لهما التي كانت ترسلها في كل عام،
وأن هذه الحقوق هي بعض ما وقفه الملوك والأمراء، وأهل البر من الأغنياء
ويعلم أن وزارة الأوقاف تجبي من أوقاف الحرمين في كل عام مئات الألوف من
الجنيهات، وتصرفها في غير ما وُقفت عليه، ويعلم أيضًا أن الحكومة التركية قد
استحالت حكومة لا دينية، وضمت أوقاف الحرمين إلى أملاكها، بل هي تمنع مَن
يريد الحج من شعبها، وحجتها الظاهرة على هذا المنع أن الترك أحق بأموالهم أن
تبقى في بلادهم من أن تُصرف في بلاد العرب!!
وخير من هؤلاء الصادّين عن سبيل الله، والمنفرين عن شعائر الله،
والمؤذين لجيران الله - من يؤلفون كتبًا في رحلاتهم الحجازية، ينقلون فيها أحكام
المناسك الفقهية، وبعض الأخبار التاريخية والأدبية، ومن كتبوا في رحلاتهم وفي
الصحف ما أملاه الحق من وصف أمن الحجاز، وتوفير أسباب الراحة للحاج،
والثناء على الحكومة السعودية ورجاء الخير العظيم للإسلام فيها.
بيد أنك قلما ترى فيما كتبوا عبرة جديدة، أو شيئًا من الاقتراحات المفيدة، أو
ترغيبًا في البذل لعمارة المسجد الحرام، ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، أو
لتسهيل السبيل على الحجاج والزائرين، وتوفير المياه لهم وللمقيمين، اقتداءً بما كان
من فعل السلف الصالحين.
دعْ ما هو أعلى من ذلك منزعًا، وأروى مشرعًا، وأبعد في الإصلاح غايةً،
وأقوى في درء الخطر عن الإسلام وقاية،فقد علم الواقفون على سياسة الاستعمار
الأوربي أن خطره قد أحاط بجزيرة العرب، ونفوذ بعض دوله تغلغل في بعض
أنحائها، ثم طفق يوغل في أحشائها، ويلغ في دمائها؛ فإن المستعمرين قد استولوا
على سكة الحديد الحجازية، التي كان الغرض الظاهر القريب من إنشائها تسهيل
أداء الفريضة، والباطن البعيد حفظ الجزيرة نفسها من الاستعمار الأوربي، ومن
قتل الإسلام في عقر داره، وإزاحته عن قراره، تمهيدًا لمحوه من الأرض
كلها.
كذلك كان شأن المسلمين في حجهم وزيارتهم، وكذلك كان ما دونوا في
رحلاتهم ومقالاتهم، إلى أن أذن الله تعالى لعبده المجاهد في سبيله بماله ونفسه،
ولسانه وقلمه، وعلمه وعمله - الأمير شكيب أرسلان، الذي بحق لقبته أمته بأمير
البيان - أن يستجيب لأذان إبراهيم خليل الرحمن، فيؤدي فريضة الحج، ويمرض
مرضًا يضطره بعد أداء المناسك إلى الالتجاء إلى الطائف، والتوغل في جبالها
وذُراها، والتنقل في مزارعها وقراها، والهبوط في أخيافها وأوديتها، فينال الشفاء
والعافية من مرضه ومن مرض سابق له، بما شم من هواء نقي، وشرب من ماء
روي، وجنى من ثمر شهي، ويشاهد ما تم من قابلية للعمران، لا يكاد يفضلها
مكان، في عصر عَمَّ الحجاز فيه العدل والأمان، وأن يصف ذلك بقلمه السيَّال،
وبيانه السلسال، الذي يجري، فتكبو في غاياته جياد الفرسان، ومَن ذا الذي يطمع
في لحاق أمير البيان في مثل هذا الميدان؟ ! ، ميدان التاريخ وعلم الاجتماع
والعمران،وما فيه من عِبَر السياسة في هذا الزمان، ولا سيما سياسة الأمة العربية
والإسلام.
أحمد الله تعالى أن وفق أخي شكيبًا لأداء المناسك، وشهود ما قرنه بها القرآن
من المنافع، وإنما هي منافع أمته، لا منافع شخصه وأسرته، وأن يسَّر له السير
في تلك الأرض؛ لفقه ما أرشد إليه عقله، وهدى له قلبه، فيعرف بنفسه جبالها
ووهادها، وأغوارها وأنجادها، وسهوبها وصفاصفها، ومجاهلها ومعارفها، ثم
يبعث ما دُفن في بطون الكتب من تاريخ عمرانها، وكنوز معادنها، مع بيان أماكنها،
ووسائل استخراجها من مكامنها، ويجلي للعقول ما فيها من العبر البالغة، ويقرن
بها وصف حالتها الحاضرة، ويستنبط منهما ما يجب على الأمة العربية وحكوماتها،
والشعوب الإسلامية وزعمائها، من توجيه أصدق ما أُوتوا من إرادة وعزيمة،
وأفضل ما أُعطوا من علم وثروة، في سبيل عمران الحجاز، وصيانته من خطر
الاستعمار، وأن ذلك لا يتم لهم إلا بعمران جزيرة العرب كلها؛ لأن انتقاصها من
أطرافها، يفضي إلى الإحاطة بسائر أكنافها.
تلك الغاية البعيدة المرمى هي التي وضع لها الأمير رحلته الحجازية التي
سماها (الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف) وقد أقام الدلائل على
إمكان ما دعا إليه وسهولته، من قابلية في المكان، ومواتاة من الزمان، وأشار إلى
ما يعترض به على ذلك من شبهات داحضة، وكرّ عليها بما ينقضها من حجج
ناهضة، بما لم يبق لمعتذر عذرًا مقبولاً، ولمقصر قولاً معقولاً.
ثم إنه لم يقف في ارتساماته دون هذا المقصد الأسمى، بل ألمَّ فيها بكل ما يهم
المسلم من حال الحجاز وأهله وحكومته، فأفاض القول في تعظيم شأن المياه فيه،
وما يُرجى من زيادتها بالوسائل العصرية، ولا سيما الآبار الارتوازية، واستشهد
التاريخ على ما كان من عناية السلف الصالح بعمرانه، وحبس الأوقاف الواسعة
عليه، وعناية الخلف الطالح بتخريب ما عمروا، وإضاعة أكثر ما وقفوا، وتمهيد
حكامهم الفاسقين سبيل ذلك لسالبي ملكهم من المستعمرين. وضرب لذلك الأمثال
بتاريخ أكبر المعمّرين من الملوك والأمراء والوزراء، وأسهب في بيان أحوال
المطوفين والمَزُورين وقناعتهم، وما يجب من إصلاح حالهم، ونوه فيها بفضل
الحكومة السعودية الحاضرة وخدمة ملكها للحجاز، وأعظمها والمقدم منها تعميم
الأَمَنة في بدو البلاد وحضرها، قريبها وبعيدها، وما يرجى بحكمته من سائر
أركان الإصلاح فيها.
وقد مَنَّ عليَّ بأن عهد بنشر هذه الارتسامات إليَّ، بأن أطبعها بمطبعة المنار،
وأشرف على تصحيحها بنفسي؛ لتعذر إرسال مثل الطبع إليه في أوربة ليتولى
تصحيحها بنفسه، بل منّ علي بالإذن لي بتعليق بعض الحواشي على بعض
المواضع التي أرى التعليق عليها مفيدًا لقارئيها؛ ليكون اسمي مقرونًا باسمه في هذا
الأثر الخالد له في خدمة العرب والإسلام، كما منّ علي قبله بمثله في رسالته التي
جعل عنوانها (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ !) وهي هي الرسالة التي:
سارت بها الركبان تطوي نفنفا ... فنفنفا وسبسبًا فسبسبا
فاضطربت بها بعض دول الاستعمار وزُلزلت زلزالاً شديدًا، حتى قيل لنا
إنها أغرت حكومة سورية بمنع نشرها فيها، وهي أحق بها وأهلها، فانفردت بهذه
العداوة للإسلام دون مَن أغروها بها!
ولقد كان سماح الأمير حفظه الله لي بهذا وذاك إعلامًا لقارئي الرسالة والرحلة
بما بيننا من الأخوة الإسلامية الصادقة، والاتفاق في المقاصد الإصلاحية النافعة للأمة
العربية، والشعوب الإسلامية، التي نفخ روحها في كل منا شيخنا الأستاذ الإمام
الشيخ محمد عبده بالتبع لأستاذه موقظ الشرق وحكيم الإسلام السيد جمال الدين
الأفغاني قدس الله روحهما، وأجزل ثوابهما.
هذا، وإن الأمير - أمتع الله بعلمه وعمله، ولسانه وقلمه - قد وضع للرحلة
حواشي كثيرة، عزوتها إليه في مواضعها، وكان يجب أن أشير إلى ذلك في
ديباجتها، ولكنني ما علمت بها إلا عند أول حاشية منها.
وقد كان لي وقفة ونظر في اقتراحه على الحكومات المختلفة في الدين والسياسة
- أن تشدِّد على حجاج بلادها الفقراء، فيما تفرضه من الشروط للسماح لهم بالسفر
إلى الحجاز، لا لأن هذا الاقتراح منكر في نفسه؛ بل لأن الحكومات الاستعمارية
التي تكره للمسلمين المرزوئين بسيطرتها عليهم أن يؤدوا هذه الفريضة لم تقصر
في إرهاقهم بالشروط المالية والصحية، بل أنا أعلم علم اليقين أن جميع الدول
الاستعمارية تمقت قيام المسلمين بهذه الفريضة، وتتعاون على صدهم عنها بما
تستطيع من حول وحيلة، ولولا ما لبواخرها وتجارتها من المنافع ومن نقل
الحجاج لكان تشديدهم في الصد أكبر، ولكن ما وضعوه من العواثير والعقاب في
سبيل الحج باسم المحافظة على الصحة - قد أنالهم بعض مرادهم منه بقلة من
يتحمل مشقته من ملوك المسلمين، وأمرائهم المترفين، وأغنيائهم المحسنين،
وزعمائهم المفكرين.
وقد كانوا حاولوا أن يقرروا في مؤتمر طبي عقد بمصر في أوائل عهد
الاحتلال البريطاني أن الحجاز بيئة وبائية بطبعه - يجب جعْله تحت سلطة الحجر
الدولي دائمًا لذاته! فجاهد المرحوم سالم باشا سالم كبير أطباء مصر (والطبيب
الخاص لسمو الخديو توفيق باشا وأسرته) يومئذ جهادًا كبيرًا دون ذلك، حتى دحض
كل شبهة تؤيد هذا الاقتراح، وأثبت بالأدلة الفنية الطبية والتاريخية أن الحجاز ليس
بوطن لوباء الهيضة الوبائية (الكولرة) ولا لغيرها من الأوبئة السارية المُعْدية.
ولكنني لم أضع لهذه المسألة حاشية، بل أدعها إلى علم الأمير الواسع،
ورأيه الناضج؛ لعله يستدرك ما يرى استدراكه ممحّصًا لهذا الرأي [١] .
وها أنا ذا أزفّ إلى قراء العربية هذه الرحلة النفسية، والارتسامات اللطيفة،
ولا ريب عندي في أنهم يقدرونها قدرها، ويُعنون معي بنشرها، وبث الدعاية إلى
العمل بما فيها من النصيحة الثمينة، التي تتوقف عليها حياة هذه الأمة المسكينة،
التي كانت الناشرة لدعوة الإسلام، والمفيضة لنور هدايته، والمفجرة لأنهار
حضارته، وبإحيائها وعمران بلادها يُناط بقاؤه، ويعود رواؤه، وينضر إهابه،
ويتجدد شبابه.
وأختم هذا التصدير لها بما يؤيد قولي هذا من الأحاديث النبوية في شأن
الحجاز ومستقبله، وكونه مأرز الإسلام ومعقله، وحصنه ومَوْئله،عندما يشتد على
المسلمين البغي والعدوان، ويركبون المناكير فيناكرهم الزمان، أو تُستباح بيضتهم
بما أعرضوا عن هداية القرآن:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان لَيأرز إلى المدينة كما تأرز
الحية إلى جحرها) [٢] رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
وأعم منه وأدل على المراد قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الإسلام بدأ
غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها)
رواه مسلم من حديث ابن عمر.
وأعم منه وأظهر قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين ليأرز إلى الحجاز كما
تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلنّ الدين من الحجاز معقل الأُرويّة [٣] من رأس
الجبل، إن الدين بدأ غريبًا ويرجع غريبًا؛ فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما
أفسد الناس بعدي من سنتي) .
وأوسع من ذلك كله وأدل على الباعث عليهما - ما رواه أحمد والبخاري
ومسلم من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته بثلاث:
أولها: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وما رواه أحمد ومسلم والترمذي
عن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لأُخرجنَّ
اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أدَع فيها إلا مسلمًا) وما رواه أحمد
من حديث عائشة رضي الله عنه قالت: (آخر ما عهد به رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن قال: لا يُترك بجزيرة العرب دينان) وروي عن أبي عبيدة عامر
بن الجراح قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجوا يهود
أهل الحجاز ونصارى نجران من جزيرة العرب، والمراد أنه آخر ما أوصى به عند
موته، وأما آخر كلمة نطق بها صلى الله عليه وسلم فهي: (اللهم الرفيق الأعلى) .
وقد بينت في مواضع من جزء التفسير العاشر وغيره حكمة هذه الوصايا
النبوية، وهي ما أطلع الله تعالى عليه رسوله وأخبر به كما في حديث ثوبان رضي
الله عنه وغيره: من تداعي الأمم على المسلمين كما تتداعى الأكَلة على قصعتها،
وسلبهم لملكهم، واضطهادهم لهم في دينهم، إلى أن يضطروا إلى الالتجاء إلى مهد
الإسلام الأول، ومعقله الأعظم، ومأرزه الآمن، وهو الحجاز وسياجه من جزيرة
العرب؛ ولذلك أوصى بأن يكون هذا المعقل خاصًّا بالمسلمين لا يشاركهم فيه
غيرهم، فهذه الوصية من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم قد ظهر سرّها في هذا
العصر.
وها نحن أولاء نرى أعداء الإسلام مازالوا يطاردون المسلمين حتى انتهوا بهم
إلى جزيرة العرب، وطفقوا ينازعونهم فيها، بل وصلوا إلى الحجاز واستولوا
بمساعدة بعض أمرائه على أعظم موقع من معاقله البرية والبحرية (ما بين العقبة
ومعان) وصاروا باستيلائهم على سكة الحديد الحجازية على مقربة من المدينة
المنورة التي خصها الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الوصايا بالذكر، وأنشئوا
يؤسسون وطنًا لليهود في جوارها من فلسطين التي يدَّعون أنها لهم وحدهم
وسيطلبون ضم خيبر إليها، بأنها كانت لهم وأخرجهم عمر بن الخطاب منها.
فإذا لم تتعاون جميع الشعوب الإسلامية على مساعدة حكومة الحجاز بالمال
والنفوذ الصوري والمعنوي على حفظ الحجاز وعمرانه، بل إلجائها إلى ذلك
واضطرارها إليه - فستقطَّع قلوبهم أسفًا وندمًا، ويذرفون بدل الدموع دمًا؛ إذ لا
ذات مندم، ولا متأخر ولا متقدم، ولقد كنت في حيرة لا أهتدي السبيل إلى أقرب
الوسائل لهذا العمران، حتى وجدته مرسومًا في هذه الارتسامات، داحضة أمامه
جميع الشبهات، فبادرِوا إليه - أيها المسلمون -.
{وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ} (آل
عمران: ١٠٥) .
... ... ... ... ... ... ... ... وكتبه ناشر الارتسامات
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ مجلة المنار
الإنكليز في جزيرة العرب
(المنار)
كتبنا هذه المقدمة لرحلة الأمير شكيب الحجازية في الشهر الماضي وهو شهر
المحرم عندما تم طبعها ثم أردنا نشرها في هذا الجزء من المنار وهو جزء (صفر) ؛
لتكون تقريظًا لها، فاتفق أن رأينا في جريدة (الضياء) الغراء مقالاً مترجمًا عن
اللغة الإنكليزية لرجل من كبار ساسة الإنكليز، كان من أكبر العاملين في سبيل
استعمارهم لهذه الجزيرة، بيَّن فيها ما وصل إليه نفوذهم فيها وأنواعه وما هم
مستهدفون له في هذا العصر بيقظة الأمة العربية وسعي المستيقظين منها لإعادة
مجدهم واستقلال بلادهم؛ لينبه دولته لما ينبغي لها من الحذر والحكمة في هذا
الطور الجديد لهذه الأمة ذات التاريخ العجيب.
فرأيت أن أنشرها في هذا الجزء بجانب هذه المقدمة مفصِّلة لما أجملته فيها
وحجة على صحة رأيي وصدقه في الإنكليز الذي بينته في المنار مرارًا كثيرة؛
عسى أن يكون نشرها من أسباب انتشار اليقظة العربية التي نسعى لها سعيها منذ
سنين كثيرة، وإقناع بعض الزعماء والأمراء بما يرمي إليه هذا السياسي الإنكليزي،
من أن الأمم إذا عرفت نفسها تعذر على غيرها استعبادها أو استعمارها؛ فإن
أكثر أمراء الجزيرة يجهلون هذه الحقيقة؛ فلذلك خنعوا واستخذوا أمام هذه الدولة
الطامعة. وهذا نص المقالة:
بريطانيا ستخرج من جزيرة العرب
كما خرج الفرس والرومان
هكذا يقول بريطاني كبير من رجال السياسة [*]
كانت قد وافتنا التلغرافات بنبذ مقتضبة من مقال نشرته الديلي تلغراف لجناب
السر هنري دوبس مندوب العراق السامي البريطاني بين سنة ١٩٢٣-١٩٢٩.
ثم جاء بعد ذلك أصل المقال وقد رغب فيه إلى حكومته أن تكون أكثر اهتمامًا
وأوفر درسًا للحالة الروحية التي عليها بلاد العرب، وقد اقتطفنا من هذا المقال
الخطير الجزء التالي، قال:
إن المناقشة الحديثة العهد التي جرت في مجلس اللوردات حول اقتراح اللورد
ترانشود - الذي يرمي به إلى توحيد زمام السيطرة والسياسة في الشرق الأوسط -
قد انتهت بالخيبة. وقد كان فحوى جواب اللورد باسفيلد يفيد أن الحكومة البريطانية
تظل قابضة بيديها على جميع زمام السياسة، وأن تنوع المصالح العديدة في البلدان
المختلفة، تلك المصالح المتصلة المرجع بعدة من دوائر الحكومة - يقضي بأن تكون
هذه الدوائر متصلاً بعضها ببعض اتصالاً مستمرًّا بتبادل الرأي والمشاورة، وعلى
هذا لا تبقى هناك فائدة في إنشاء دائرة واحدة يعهد إليها اسميًّا في إدارة الشؤون
المتعلقة بالبلدان المذكورة.
فما هي تلك البلدان ذات المصالح والشأن في هذه القضية، وما هي الأساليب
التي تجري سياستنا عليها في تلك البلدان؟
تلك البلدان هي:
سوريا، وهي تحت الانتداب الفرنسي، وعلاقتها تدار من قِبَل وزارة
الخارجية عن طريق باريس.
فلسطين، وهي تحت الانتداب البريطاني الذي سيتطاول أمده إلى حد غير
معروف (!!!) ، وتدار من قبل وزارة المستعمرات.
شرقي الأردن، وهي أيضًا تحت انتداب مندرج في صلب معاهدة معقودة مع
الأمير الحاكم، وتدار تحت إشراف وزارة المستعمرات.
العراق، ويرجى دخوله عضوًا في عصبة الأمم في السنة المقبلة بصفته
مملكة مستقلة. وعند حصول هذا يُعتاض عن المندوب السامي - المرتب الآن
بوزارة المستعمرات - بسفير مرتبط بوزارة الخارجية.
نجد والحجاز، ومنهما يتألف معظم جزيرة العرب، وهما تحت حكم الملك
ابن السعود الذي تدار علاقاته من قبل وزارة الخارجية بواسطة وزير مفوض.
الإمارات المستقلة والمقاطعات الواقعة في الخليج الفارسي، وهذه الإمارات
والمقاطعات داخلة في نطاق دائرة الشؤون الخارجية في حكومة الهند.
عدن، وبعضها من الأملاك البريطانية، وبعضها الآخر من البلاد المحمية،
إدارتها الداخلية مرتبطة بحكومة الهند في بُومْبِي، وتقوم وزارة المستعمرات
بالإدارة السياسية تجاه القبائل التي في الأراضي المحمية وتجاه سائر جزيرة العرب.
اليمن، وهي تشمل جانبًا من البحر الأحمر إلى شمالي عدن وهي تحت
الإمام يحيى المنافس الكبير لابن السعود، والمقيم السياسي في عدن يجري - في
علاقاته مع الإمام يحيى - على ما يتلقاه من إرشاد من وزارة المستعمرات.
ففي جميع هذه البلاد اللغة العربية هي السائدة، والإسلام هو الدين الغالب،
وفي أي قطر من هذه الأقطار سرحت بصرك - ترى الجيل الحديث من أهل
السياسة من العرب يطوون صدورهم على أحلام وآمال، تتعلق بتكوين بلاد عربية
مستأنفة الحياة والقوة، بحيث يكون بوسع هذه البلاد المتجددة النشأة القبض على
المراكز الخطيرة لطرق المواصلات الكبرى في العالم بحرًا وهواءً، وإحراز الثروة
من التجارة الحديثة العزيزة التي لا بد لها أن تمر في هذه الطرق.
هذا من ناحية - ومن ناحية أخرى لا يصح أن نعتقد أن أفكار النشء العربي
الحديث فيما لبلادهم من الخطورة الجغرافية - هي مجرد تصور وخيال، فإن
تجارة أمريكا جمعاء تخترق الآن البحر الأحمر، وجميع الطرق الهوائية إلى آسيا
وأستراليا - ما عدا الاتجاه الذي تقوم به روسيا الآن - كل ذلك لا بد له من اجتياز
العراق. وأنابيب الزيت أوشك يُشرع في إنشائها بين آبار الزيت العراقية والبحر
المتوسط، بحيث ينتهي خط من هذه الأنابيب في طرابلس لسورية وينتهي خط آخر
في حيفا بفلسطين. وسكك الحديد ستماشي أنابيب الزيت جنبًا إلى جنب. ومما لا
يكون عنه مندوحة أن سكك الحديد ستمد شرقًا إلى الهند مخترقة أرجاء إيران.
وإن الأهمية التاريخية الكبرى التي كانت لهذه البلدان العربية في الزمن
السابق - باعتبار أنها صاحبة طرق التجارة - وقد زالت هذه الأهمية مؤقتًا
باكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح ستستعاد عما قريب بكاملها، فينجلي من هذا
أن ضمان سلامة المواصلات هذه في الأقطار مصلحة حيوية للإمبراطورية
البريطانية.
وفي جميع هذه البلاد - ما عدا سوريا - لم يبرح النفوذ البريطاني هو
المسيطر الغالب كل هذا الزمن الحديث، وقد ازداد هذا النفوذ بسطة واتساعًا إلى
حد كبير بنتائج الحرب الكبرى. فيتعين علينا - والحالة هذه - أن نأخذ بالوسائل
التي تحفظ هذا النفوذ حتى لا يعتوره تناقض ينشأ عن الجري على خطة مشوشة في
علاقاتنا مع هذه الأقطار أو عن أي غموض أو ارتباك في إيضاح الغاية والقصد. أو
عن خرق في السياسة؛ فإنه إذا سارت الحال مصابة بآفة من هذه الآفات؛ فالعرب
- وجذوة الأمل في إحراز الاستقلال حديثة الاشتعال في صدورهم - سينابذون مثل
هذه السياسة بقسوة وعنف.
وأقول بعبارة أخرى: إن سياستنا مع هذه البلاد ينبغي أن لا يفسدها أقل
افتقار إلى العطف على طموح العرب إلى استعادة ماضيهم وقوتهم.
وآمال العرب هذه لا يبعد أن يكون مكتوبًا لها التحقق والنجاح. وإن الأقوام
العربية بعد أن هجعت سنين طوالاً دبت فيها روح اليقظة ثانية وانطلقت فيها
عوامل الحركة والحياة. وكل أمة تُقْدِمُ على تجاهل ما للعرب من خطورة وعلو شأن -
لا بد لها من تحمل مرارة النتيجة،فيصيبها مثل ما أصاب المملكتين: الرومانية
والفارسية من قبل، يوم أقدمتا على مصارحة العرب العداء عند قيام النبي صلى الله
عليه وسلم في جزيرة العرب وظهور قوته فيها، فندمتا ولات ساعة مندم.
وإن عليَّ أن آخذ وأعطي مليًّا مع اللورد باسفيلد؛ فإن الخلاصة الموجزة التي
شرحتها بصدد أوضاعنا الحالية توضح أن وزارة الهند ووزارة المستعمرات ليستا
أهلاً لتصريف هذه الشؤون؛ ولا يزيد عملها أن يكون تخبطًا وارتباكًا، في حين
ينبغي أن نقبض على زمامه في وزارة الخارجية. فإذا لم تبدل الحالة بأحسن منها؛
فتكون النتيجة فساد الأمر، وفوات الفرصة، وتضارب الغايات والمقاصد.
فالمقصد الكبير الذي أومئ إليه هو أن سياستنا إزاء القضية العربية الكبرى
ينبغي أن تتفرغ بحلة متناسقة الشكل، تسود الرجال العاملين فيها روح السخاء
المشتقة من بعد النظرين، وهذه الروح ينبغي أن تسيطر لا على مديري دفة الأمور
في المركز، بل يجب أن تشمل أيضًا أولئك الذين يعهد إليهم في تصريف الشؤون
والإدارة في مواطن الأمور وأماكنها مباشرة. اهـ
(المنار)
صرحنا في المنار مرارًا كثيرة جدًّا بأن الدولة الإنكليزية مجدة في تأليف
إمبراطورية بريطانية من بلاد العرب، وأن أمراء العرب وزعماءهم جاهلون ما
يحيط بهم، وما يجب عليهم، ودهاة هذه الدولة يسخّرونهم لما يحاولون من سلب
ملكهم واستعباد أمتهم؛ فينقادون مذعنين، طائعين أو كارهين، محترمين أو
محتقرين، وغير المسخر منهم للخدمة الإيجابية، يقنعون منه بالخطة السلبية، فلا
يوجد في البلاد العربية مقاوم لهم في عمل من أعمالهم المنظمة البطيئة لاستعمار
البلاد العربية وهم لا يتمون عملاً ويُحكمونه إلا ويشرعون في غيره؛ إذ يكونون قد
مهدوا له.
وصاحب هذا المقال يحذرهم يقظة الشعب العربي الجديدة؛ لما أثبته التاريخ
من وثبات العرب القوية عقب النومات الطويلة، وهو ينصح لهم بثلاثة أمور، لا
يرجى بقاء نفوذهم وامتداده في هذه الأمة بدونها:
(الأول) توحيد المرجع الذي يتولى السياسة والإدارة الخاصة بالبلاد العربية
جزيرتها وولايتها وهو وزارة الخارجية.
(الثاني) عدم الاكتفاء بما يجرون عليه من توطيد السيطرة والنفوذ في مركز
كل حكومة عربية (أي وإن كانت كلها مركزية لا شريك للحاكم العام في نفوذه فيها)
- فإن هذا لا يدوم إذا استيقظت الأمة، بل لا بد من استمالة جميع الرجال العاملين
في كل منها، ممن ظهر وممن سيظهر في كل موطن وكل ناحية.
(الثالث) أن يكون الرجال - الذين يتولون السياسة العربية والإدارة الخاصة
بها - قادرين بما أُعطوا من المرونة وروح السخاء على مداراة العواطف الوطنية
وعدم تنفيرها من الإنكليز.
(فتدبروا واعقلوا أيها المستيقظون!) .