للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


استفتاء عن الكشف الطبي على الميت

(س ٢٧) من السيد عبد الجليل الزاووش أحد نابغي النابتة العصرية
(بتونس) .
الحمد لله وحده:
حضرة الأستاذ المحقق العالم المدقق، حكيم الإسلام ومرشد الأنام سيدي:
رشيد رضا منشئ مجلة المنار الباهرة الغراء، دام إسعاده وكماله.
أما بعد السلام الأتم عليكم ورحمة الله وبركاته، فإني أرجوكم - ولكم مزيد المنة
والشكر، ووافر الثواب والأجر - أن تتفضلوا بالجواب الشرعي عن السؤال الآتي
ونشره في أقرب وقت على صفحات مناركم. أطال الله بقاكم وإليك السؤال:
ما هو الحكم في إحضار الحكيم المعمول به في بعض الممالك الإسلامية
الشرقية؛ لأجل الاطلاع على من يخبر بموته وشهادته بصحة الخبر، واكتشافه
سبب الموت؛ حتى لا يدفن الإنسان حيًّا، ولا يخفى المرض المعدي وفي ذلك مما
يفيد الأمة في حالتها الصحية ما لا يخفى، فهل ذلك - رعاكم الله - مما لا يجوز
مطلقًا ولو كان الحكيم مسلمًا، ولم يستتبع الكشف على الميت أدنى عملية جراحية،
أو ما يوجب أقل إهانة لكرامة الميت، ولو مع تخصيص حكيم لمباشرة
الرجل وحكيمة لمباشرة المرأة أو يسوغ مطلقًا أم المقام فيه تفصيل؟ أفيدونا
تؤجروا وترحموا.
(ج) ليس في هذه المسألة نص عن الشارع، وهي من المسائل الدنيوية
التي تتبع فيها قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح وحينئذ يختلف الحكم باختلاف
الأموات، فإذا وقع الشك في موت من ظهرت عليه علامات الموتى، وعلم أن
الطبيب يمكنه أن يعرف الحقيقة بالكشف عليه فإن الكشف عليه يكون متعينًا،
ويحرم دفنه مع بقاء الشك في موته وإبقاؤه عرضة للخطر، ويختار الطبيب الذي
يوثق به؛ للعلم ببراعته وأمانته على غيره؛ لأن العبرة في ذلك بالثقة، فإذا لم
يوجد طبيب مسلم يوثق به، ووجد غيره اعتمد عليه، بل إذا وجد طبيب مسلم غير
موثوق به، وطبيب غير مسلم موثوق بتكرار التجربة، يرجح الاعتماد على الثاني؛
لأن المسألة ليست عبادة فيكون الترجيح فيها بالدين، بل أقول: إن مَنْ اشترط
من الفقهاء إسلام الطبيب الذي يؤخذ بقوله في المرض الذي يبيح ترك الغسل
والوضوء إلى التيمم، إلا لاعتبار ذلك من أركان العدالة التي هي سبب الثقة، وقد
صرحوا حتى في هذه المسألة الدينية بأن المريض إذا صدق الطبيب الكافر بأن
الماء يؤذيه في مرضه، كان له أن يعمل بقوله. وإذا كان من اشتبه في موته امرأة
ووجدت طبيبة يوثق بها قدمت على الطبيب حتمًا، فإن لم توجد كشف عليها
الطبيب كما هو الشأن في جميع الأمراض.
ومن درء المفاسد والقيام بالمصالح العامة، ما تفعله (مصلحة الصحة)
بمصر، وحيث توجد من مقاومة أسباب الوباء والأمراض المعدية، ومن أعمالهم ما
هو مفيد قطعًا، ومنه ما تظن فائدته، فإذا علم أن في الكشف على الميت؛ لمعرفة
سبب مرضه مصلحة عامة، لم يكن ما يعبرون عنه بتكريم الميت مانعًا من ذلك،
نعم، إن إهانة الميت محظورة. ولكن الإهانة تكون بالقصد وهو منتف هنا، على
أن درء المفاسد وحفظ المصالح العامة من الأصول التي لا تهدم بهذه الجزئيات،
والمدار على العلم بأن هنا مفسدة يجب درؤها، أو مصلحة يجب حفظها، فإذا علم
أولو الأمر ذلك عملوا به، والشرع عون لهم عليه.