للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت

التعليم الابتدائي لا بد منه لكل فرد من أفراد الأمة صُناعها وزراعها وأجرائها
والتعليم العالي لا بد منه لطائفة من خواصّ الأمة الذين يعملون الأعمال الكبيرة
كالمعلمين والمؤلفين والساسة والقضاة والأطباء ومديري الشركات المادية وكبار
التجار فإذا لم تتعلم الطبقات الدنيا التعليم الابتدائي كان أفرادها كالبهائم لا صلة بينهم
وبين المتعلمين ويسهل على كلِّ دجال ومحتال أن يقودهم إلى ما شاء من الشرور،
وإذا اكتفى الخواص بالتعليم الابتدائي كان ضررهم في الأمة أشد من ضرر العوام
الأميين لأنهم يعجزون عن الرقي بها والقيام بشؤونها الكلية فيختل النظام، ويعتل
مزاج المصالح، وينصرف هؤلاء الزعماء إلى الإفساد في الأرض بجهالاتهم
وشهواتهم، ولا يكون لهم حظ من التعليم الناقص إلا تقليد الأمم الراقية في الأزياء
والماعون والأثاث وذلك يُذهب بثروة الأمة ويمينيها بسوء الأسوة، ويجعلها ألعوبة
بأيدي الفاتحين، وحلبانة ركبانة للمستعمرين.
ومن العار على مصر أن تكون على سبقها البلاد العربية كلها إلى التعليم
العصري خالية من مدرسة كلية للعلوم العالية بجميع فروعها فإن المصريين
يشتغلون منذ قرن كامل بالتعليم ومنهم مَن تخرج في مدارس أوربا العالية ومع هذا
لم تَسْمُ همتهم إلى إنشاء مدرسة كلية تغنيهم عن المدارس الأجنبية الخالية من لغتهم،
ومن التربية الملّية التي تليق بهم، على أن مصر أغنى البلاد العربية وأحوجها
إلى العلوم العالية، وخواصها أعرف بهذه الحاجة من خواص مسلمي سوريا وتونس،
بله الجزائر ومراكش فإن الكثيرين منهم يرسلون أبناءهم إلى أوربا وإلى سوريا
لتكميل دراستهم في مدارسهما العالية.
في بيروت عدة مدارس كلية وليس في القاهرة مدرسة واحدة وفي تلك
المدارس مئات من أبناء المصريين وقليل من أبناء مسلمي سوريا وإنما كان هؤلاء
قليلين لأن الآباء يخافون على عقائد أبنائهم من هذه المدارس فإنها كلها دينية
ومديروها ونظارها من القسيسين وهم يُلزمون التلميذ المسلم بدخول الكنيسة
وصلاة النصارى فيها.
وفي مدارس الجزويت يَحُولون بينه وبين كل ما يذكِّره بدينه حتى إنهم يحرفون
ما يطبعونه من كتب المسلمين فينسبون كلام الله فيه إلى الناس المجهولين،
وكذلك كلام رسوله عليه السلام ويكذِبون على الإسلام والمسلمين في التاريخ لينفّروا
تلامذتهم عنه، وأَمْثَلُ مدارس سوريا وأوربا للمسلم (المدرسة الكلية الأمريكانية) في
بيروت فإنها أحسن تربية لما فيها من روح الحرية والاستقلال، واللغة العربية فيها
معتنى بها لا سيّما في هذا العهد؛ إذ الأستاذ الأول لعلومها جبر أفندي ضومط صاحب
كتاب (الخواطر الحسان في المعاني والبيان) وكتاب (فلسفة البلاغة) ، الواسع
الاطلاع على الآداب الإسلامية، المجبولة طينته بفضيلة الإنصاف، المغرم بتربية
النفوس على الفضائل، غرامه بتربية العقول على الاستقلال في طلب الحقائق،
الذي يعتمد في علم الأخلاق على كتاب (الإحياء) للغزالي أكثر مما يعتمد على سواه.
وقد وجد هذا المعلم المربي مجالاً فسيحًا للعمل بمذهبه في التعليم والتربية
على عهد رئيس المدرسة الكلية الحاضر الدكتور (هوردبلس) الذي يقول إن حياة
المدرسة في ثلاث: (كلمة لا إله إلا الله) وطلب الحقيقة بالإخلاص، والنظر إلى
المخالفين في الدين من جهة الاتفاق لا من جهة الاختلاف. هكذا حدثنا عنه صديقنا
جبر أفندي عند زيارته القاهرة في أوائل هذا الشهر وخطبته في كنيسة المدرسة يوم
المولد النبوي تؤيد ذلك، وقد نشرت (ثمرات الفنون) يومئذ مُلَخَّصًا فدلَّ ذلك
على أن هذا الرجل أشبه بفيلسوف إلهي منه بقسيس نصراني، فأين منه الأمريكان
المتعصبون في مصر؟ !
وجملة القول: إن المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت أمثل للمسلم من
مدارس مصر وسوريا والآستانة وأوربا فهي مدرسة رَبَّت ولا تزال تربي رجالاً؛ بل
هي الآن للمسلم خير منها قبل الآن. أما المدارس الابتدائية فخيرها للمسلمين
المدرسة العثمانية الأهلية في بيروت.