للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خاتمة المجلد الثاني والثلاثين من المنار

نختتم هذا المجلد من المنار بما افتتحناه به من حمد الله عز وجل والصلاة
والسلام على خاتم النبيين محمد رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه، ثم
بتذكير قرائه بحقه عليهم ولا سيما الذين يعتذرون بالعسرة العامة عن الوفاء له بهذا
الحق، ويقل فيهم من يعجز عن توفير بضعة قروش في كل شهر من شهور السنة
يساعد بها من وقف حياته طول السنة على خدمة دينه وأمته بعلمه وعقله وماله
وسعيه، ومن كان منهم في هذه الحالة من العسر والفقر فلا عتب لنا عليه، ولكننا
نعلم أن كثيرًا من المشتركين المُطْل ينفقون الألوف في الترف والزينة أو اللهو أو
مظاهر الفخفخة الباطلة أو الولائم والمآدب والحفلات، ومن سرواتهم وأغنيائهم من
أخَّر دفع قيمة الاشتراك منذ سنين لم يكن لهم عذر فيها بعسرة عالمية ولا شخصية.
وكأن الذين يعتذرون أو يعذرون أنفسهم بالعسرة العالمية لا يفكرون في إرهاق هذه
العسرة لصاحب المجلة، ولا في أن نفقته عليها أضعاف ما يطلب لها من كل واحد
منهم، بل صار لا يكفيها كل ما يجيء من جملة المشتركين. ونسأل الله تعالى
وندعوه لهم بدعاء الملائكة (اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفًا) .
هذا ولو أن الحكومة نفذت علينا تلك الغرامة التي ذكرناها في الجزء الأخير
من المجلد الحادي والثلاثين لعجزنا عن إصدار هذا المجلد ٣٢، على أننا قد
اضطرتنا العسرة ومضاعفة الحكومة لرسم البريد الخارجي إلى منع أكثر أجزائه
عن الذين لم يدفعوا قيمة الاشتراك عما قبله في أكثر الأقطار النائية، حتى علمنا أن
بعضها لم يصل إلى بعض الأوفياء الذين يؤدون حقه في كل عام لخطأ وقع في
الإحصاء بالتمييز بين الموفين والماطلين، فلهؤلاء الحق في طلب ما لم يصل إليهم،
وأما غيرهم فلا حق لهم في طلب شيء إلا مع إرسال قيمة الاشتراك إلى آخر هذا
العام، وهو حق المجلد الثاني والثلاثين.
لم يرد علينا في هذا العام شيء من الانتقاد على المنار، ولكن مشيخة الأزهر
الرسمية قد هاجمت المنار فيه بمجلتها الرسمية التي سَمَّتْهَا نور الإسلام لا بنقد
علمي يليق بعلماء الدين، بل بالطعن والسب والتجهيل والتضليل، وأفظع لوازم
التكفير، ففضحت نفسها وهتكت الأستار عن جهلها بالكتاب والسنة وهدي سلف
الأمة في عقائدها وآدابها، وعما هو شر من الجهل المقابل للعلم، وهو الجهل
المقابل للعقل والحلم، وبالشتم والسباب، والنبز بالألقاب، وافتراء الكذب والبهتان،
كما علم القراء من جزء المنار الماضي التاسع وهذا الجزء، وسيزدادون علمًا بذلك
في أجزاء المجلد ٣٣.
كان في صدر الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخ الأزهر لهذا العهد سخيمة
وإحنة من حملات المنار على البدع والخرافات والموالد، التي جُعلت من قبيل
شعائر الإسلام يُحتَفَل بها في المساجد، وهو قد تربى في نعمها وثروتها وجاهها،
ولم يكن يتجرأ على الرد ولا على النقد لأسباب يتوقف بيانها على سيرته العلمية
والشخصية، وهذا مما لا نخوض فيه، ولكنه كان منذ سنين يتمنى لو يوجد في
مشايخ الأزهر من يشفي غلته بالطعن في المنار وصاحب المنار، فلم يظفر بما
تمناه إلا بعد أن صار شيخًا للأزهر، وصار للمشيخة مجلة، وجعل هو من
محرري هذه المجلة من ينصر رأيه في بدع القبور والمشاهد والموالد وغيرها وهو
الشيخ يوسف الدجوي، وكان يعلم أن في صدر هذا الشيخ مثل ما في صدره من
سخيمة وحقد على صاحب المنار، فأباح له أن ينشر في مجلة الأزهر ما نشره من
تأييد البدع والخرافات، وكان من المعلوم من البداهة أن ينتقد ذلك عليها صاحب
المنار وقد كان. وكان من جرائه ما كان من عدوان، وافتراء وبهتان، والدليل
على ما بسطناه في حديث السعي للصلح ومنه وعد شيخ الأزهر بنشر أجوبتنا عن
مطاعن مجلة المشيخة، وإصدار أمره بمنع توزيع رسالة الدجوي البذيئة وعدم تنفيذه
إلخ، ولو حاكمنا الطاعن ورئيس تحرير مجلة المشيخة إلى محكمة الجنايات
لحكمت عليهما بالعقاب أو اضطرتهما إلى طلب الصلح بناء على ما يعترفان به من
الذنب والاعتذار عنه، ولكننا حاكمنا المشيخة ومجلتها إلى كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم وقواعد العلم الحق في محكمة الأمة وهي الصحافة، فكان
الحكم العدل عليها شديدًا، ونصر الله صاحب المنار على شيخ الأزهر وعلى الشيخ
الدجوي، وأظهر فضل منار الإسلام الصحيح على مجلة الأزهر ولله الحمد من قبل
ومن بعد. ينصر من يشاء وهو القوي العزيز.
سيكون أهم مسائل المجلد الثالث والثلاثين إتمام بحث الوحي المحمدي ومقاصد
القرآن وكليات فقهه الأعلى على الوجه الذي تبين به أنه لا يمكن إصلاح فساد الأمم
والدول في هذا العصر بدون اتباع القرآن، والإيمان بنبوة محمد عليه أفضل
الصلاة والسلام، وهذا موضوع لم يسبقنا أحد إلى مثله فيما أعلم.
وسَنُقَفِّي على هذا بإبطال مسيحية الدجال ميرزا غلام أحمد القادياني وأتباعه
المدعين للوحي له ولهم في هذا الزمان، وبيان حقيقة حال الأزهر وما ينبغي له فيه.
وسنُتم إن شاء الله تعالى فيه ما كنا بدأنا به من تحرير مسألة الربا وما ألحق به
من الأحكام المالية، ومنها معاملات المصارف (البنوك) والشركات المختلفة
والأعمال وأنواع التأمين على البضائع والدور والسفن والحياة، ولا يزال أهل العلم
يطالبوننا بإتمام هذا التحرير.
وكنا نشرنا المسائل الأولى من موضوع محاضرتينا في التجديد والمجددين وفي
المساواة بين النساء والرجال، ثم شغلنا عن إتمام الأولى ما بسطناه في تاريخ
الإمامين الحكيمين السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري من بيان
تجديدهما وهو المقصد من موضوع هذه المحاضرة، وشغلنا عن إتمام نشر الثانية
أننا بسطنا في رسالتنا (نداء للجنس اللطيف في حقوق النساء في الإسلام) جل ما
أجملناه فيها. وبقي علينا أن نختم المحاضرتين بخلاصة ما في التاريخ والرسالة
لأجل إصدار ما طبعناه من كل منهما على حدته، كذلك كنا وعدنا في المجلد الثامن
والعشرين أن نبين رأينا في قانون الزواج الذي وضعته الحكومة المصرية لمحاكمها
الشرعية، ثم نسيناه فذكرتنا به رسالة أو استفتاء لأحد العلماء في بعض الأقطار
الإسلامية بيَّن لنا شدة حاجة بلادهم إلى هذا القانون وأنه ما منعهم من العمل به إلا
انتظار ما نقوله فيه لشدة ثقتهم بنا وسنعود إلى قراءة هذا القانون وإبداء رأينا فيه إن
شاء الله.
وفي الختام ندعو أهل العلم والرأي بما اعتدنا دعوتهم إليه في كل عام من
الانتقاد على ما يرونه في المنار مخالفًا للحق أو المصلحة العامة ونعدهم بنشره
بشرطه الذي ذكرناه مرارًا. ونسأل الله تعالى التوفيق لما يرضيه من بيان الحق
المبين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا