(لم يجد الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي طريقة لخدمة الإسلام والمسلمين في مجلة الأزهر (نور الإسلام) إلا الطعن في العقيدة السلفية وأهل الحديث والطعن على متبعيها عامة وأهل نجد خاصة، وترويج البدع. وقد جاءتنا عدة رسائل في الرد عليه أبينا نشر شيء منها، ولو اخترنا أمثلها حجة وأدبًا لفضلنا منها ما كتبه الأستاذ العالم الشيخ محمد بهجة البيطار الشهير، إذ كنا اطلعنا على أوله فاستحسناه، وقد نشر أربع مقالات منه في مجلة الرابطة الإسلامية الدمشقية، ثم عُطِّلت هذه المجلة فأرسل إلينا الخامسة فرأينا أن ننشرها ضنًّا بها أن تضيع، وهذا نصها والعنوان من الأصل. قال الأستاذ الدجوي: (وقد توسل صلى الله عليه وسلم بالأنبياء السابقين بعد موتهم كما في الحديث الصحيح، ثم أورد حديث فاطمة بنت أسد، والشاهد منه: اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع لها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي؛ فإنك أرحم الراحمين. قال: أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط وابن حبان والحاكم بسند صحيح) . أقول: قوله: في الحديث الصحيح وبسند صحيح، هو حكم غير مسلَّم ولا صحيح؛ فإن في سنده روح بن صلاح المصري، ضعَّفه ابن عدي، والحديث لم يرضه الشيخان، ولذا لم يخرجاه في الصحيحين ولا سائر أصحاب الكتب الستة، ويعلم النقاد البصيرون بعلل الأحاديث أن كل ما لم يخرجه هؤلاء فلعلة قوية، وعلل الحديث يعلمها الراسخون في علم السنة، ولست الآن في صدد التصحيح والتضعيف فأورد ما قاله أئمة هذا الشأن فيه. وعلى فرض صحته لا شاهد فيه، إذ هو توسل بحق النبيين صلوات الله عليهم وحقهم هو ما فضَّلهم الله به على غيرهم من النبوة والرسالة، وما خصهم به من الخصائص والمزايا كاجتبائهم واصطفائهم، وما وعدهم به من النصر والتمكين والعز والتأييد، وقبول شفاعتهم إذا شفعوا بعد الإذن والرضا، فهذا توسل إليه تعالى بأفعاله، وأفعاله سبحانه ليست من مخلوقاته، بل هي من مقتضى أسمائه وصفاته. ومثل حديث فاطمة ما رواه أحمد وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا) الحديث، وفي سنده عطية العوفي وهو ضعيف كما قالوا؛ ولكن معناه صحيح فهو توسل إلى الله بعمل المتوسل من دعائه والمشي إلى الصلاة وبما وعد على ذلك، فحق السائلين عليه الإجابة، وحق الماشين إلى المساجد الإثابة، قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: ٦٠) وقال: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: ١٨٦) وقال: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد: ٧) وقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: ٤٧) فالسائلون يسألونه تعالى تحقيق ما وعدهم به، وقد تفضل فجعله حقًّا لهم عليه سبحانه، وتحقيق وعده هو من صفاته تعالى الفعلية، وليس ذلك من محل النزاع في شيء. وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حقهم عليه؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم) . وقد قدمنا عن الإمام أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله قولهم: يُكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام؛ لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق لله تعالى على خلقه. ويوافقهم في هذا جميع المتمسكين بهدي السلف وآثارهم ممن يقول كشيخ الإسلام ابن تيمية (اللهم بجاه فلان عندك أو ببركة فلان أو بحرمة فلان عندك افعل بي كذا وكذا، فهذا يفعله كثير من الناس لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كان يدعون بمثل هذا الدعاء) وقد يظن بعض من لا نصيب له من التحقيق - وبعض الظن إثم - أن هؤلاء ينكرون حرمة الرسل وجاههم وكرامتهم على ربهم في حياتهم أو بعد وفاتهم، مع أن ثبوت الجاه لهم وارد في القرآن، قال تعالى في حق موسى عليه السلام: {وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} (الأحزاب: ٦٩) وقال في حق عيسى عليه السلام: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (آل عمران: ٤٥) . قال شيخ الإسلام في كتاب التوسل: فإذا كان موسى وعيسى وجيهين عند الله عز وجل فكيف بسيد ولد آدم، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب الكوثر والحوض المورود الذي آنيته عدد نجوم السماء وماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، ومن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة حين يتأخر عنها آدم وأولو العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم أجمعين، ويتقدم هو إليها، وهو صاحب اللواء، آدم ومن دونه تحت لوائه، وهو سيد ولد آدم وأكرمهم على ربه عز وجل وهو إمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا، ذو الجاه العظيم صلى الله عليه وسلم وعلى آله؛ ولكن جاه المخلوق عند الخالق ليس كجاه المخلوق عند المخلوق؛ فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَداًّ} (مريم: ٩٣-٩٤) وقال تعالى: {لَن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلَّهِ وَلاَ المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ} (النساء: ١٧٢) الآية ، والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب والله تعالى لا شريك له لما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ} (سبأ: ٢٢-٢٣) اهـ. فقد علمت من هذا أنه ليس الخلاف في جاه الرسل الثابت لهم عند ربهم والذي لا يزايلهم ولا ينفك عنهم أبدًا، بل هو في مزيد عنده تعالى يرفعهم به أعلى الدرجات، فكيف بسيد ولد آدم وروحي له الفداء صلى الله عليه وسلم؛ وإنما الخلاف في فهم المراد من التوسل بالجاه أو الحرمة أو الحق، وهل جعله الله سببًا شرعيًّا في إجابة الدعوات؛ فإن كان المراد منه معنى يرجع إلى أفعاله تعالى وصفاته كاصطفائهم واجتبائهم وما وعدهم به تعالى من النصر والتمكين ورفع الدرجات في الحياة الدنيا وفي الآخرة فبه نقول ونحن متفقون. بيد أن ههنا مسألة مهمة، وهي أن حقوق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وصلاح الصالحين، ليست من أعمال السائل التي يستحق عليها الجزاء، ولا رابطة بينها وبين إجابة سؤاله، فإذا قال الداعي أسألك بحق فلان الصالح أن تقضي حاجتي، فمعنى ذلك اقض حاجتي لكون فلان صالحًا، فأي مناسبة بين قضاء حاجتك وصلاحه، وإذا قلت بجاه فلان اغفر لي، كان المعنى: أطلب المغفرة لكون فلان ذا جاه، وأي ملازمة بين جاهه ومغفرة ذنبك؟ فصلاحه أو جاهه ليس منفيًّا عنه لا في حياته ولا بعد مماته، ولا هو محل نزاع؛ ولكنه ليس من عملك الذي تستفيد أنت منه، وتستحق الجزاء عليه؛ وإنما العامل هو الذي يجنى ثمرة عمله في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: ٩٧) فقول الأستاذ الدجوي في خاتمة مقاله الثاني: (على أن التوسل بالأعمال متفق عليه منا ومنهم فلماذا لا نقول: إن من يتوسل بالأنبياء والصالحين هو متوسل بأعمالهم التي يحبها الله تعالى، وقد ورد بها حديث أصحاب الغار فيكون من محل الاتفاق، ولا شك أن المتوسل بالصالحين إنما يتوسل بهم من حيث هم صالحون، فيرجع الأمر إلى الأعمال الصالحة المتفق على جواز التوسل بها، كما قلنا في صدر المقالة) اهـ. أقول: قوله هذا غير مُسلَّم على إطلاقه، بل فيه نظر ظاهر؛ فإن المتفق عليه هو توسل كل عامل بعمله، ويشهد له حديث أصحاب الغار الذي استدل به، فهو حجة عليه لا له؛ لأن كل واحد من أولئك النفر الثلاثة توسل بعمله الصالح الذي أخلص فيه لله تعالى ولم يتوسل بعمل غيره، والأصل في هذا قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: ٣٩) فالقول بأن الأعمال الصالحة تنفع العاملين وغير العاملين، ومنفعتها وثمرتها تشمل الصالحين والطالحين، والمؤمنين والفاسقين، مما يجرئ على ترك العمل والزهد فيه، والاكتفاء بالتوسل بدلاً عنه، ويجعل المتقين والفجار سواء في العاقبة والجزاء، الأولون ناجون بعملهم، والآخرون بتوسلهم بعمل غيرهم؛ ولكن الله يقول: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: ٢٨) ويقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: ٢١) . لو كان التوسل بصلاح الصالحين وعمل العاملين يفيد المتوسلين لهان الأمر علينا معشر المسلمين، ولنالنا كل خير من ذلك، إذ يمكننا أن نقول مثلاً اللهم أزل ضعفنا وآمن خوفنا وانصرنا على عدونا بجاه سلفنا الصالح الذين جاهدوا في سبيلك لإعلاء كلمتك، ففتحت لهم فتحًا مبينًا، ونصرتهم نصرًا عزيزًا، ربنا هب لنا الملك والسلطان، والعلم والعرفان، والحضارة والعمران، مثل ما وهبت لهم، نسألك اللهم أن تمنحنا ذلك كله بجهادهم وسعيهم وعلمهم وعملهم، إذ نحن لا جهاد لنا ولا سعي، ولا علم ولا عمل؛ وإنما نحن عالة على غيرنا يا أرحم الراحمين، أفترى أنه تفيدنا هذه التوسلات بجاه أسلافنا وقوتهم وسعة سلطانهم واستبحار عمرانهم، ونحن قد تداعت علينا الأمم فجعلتنا مغنمًا ونهبًا مقسمًا؟ وهكذا شأن التوسل الديني الأخروي، من وفقه الله وألهمه رشده يتقي عقاب الآخرة بما شرعه الله لاتقائه من التوبة والإيمان والأعمال الصالحة، فرب الدارين واحد وحكمته واحدة لا يناقض بعضها بعضًا ولا يبطل بعضها بعضًا، كما حققه الإمام ابن القيم وآثرناه عنه في المقال المتقدم فجدد به عهدًا، ومثله في كتابي (العجب والقرور من إحياء الغزالي) والأصل في ذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: ٥٣) فهو توسل إلى الله تعالى بالإيمان والاتباع ومثله قوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} (آل عمران: ١٩٣) فقد رتب الله عليه الاستجابة بقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم} (آل عمران: ١٩٥) الآية، وفي معناها آيات أخرى. فانظر رحمك الله إلى هذه الآيات الكريمة، والأدعية الجليلة، كيف أرشدتنا إلى التوسل إلى الله عز وجل بما شرعه من الإخلاص في الدعاء له وحده، والإيمان بما أنزله الله من عنده، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي جاء به من عند ربه، ثم تأمل كيف جعل ذلك سببًا لاستجابة الدعاء بمغفرة الذنوب وتكفير السيئات والوقاية من النار، والنظم في سلك الأبرار، وأين هذا التعليم الإلهي والتوسل الشرعي، من (المعامل) التوسلية التي أنشأها المبتدعة لأنفسهم ولغيرهم، وهم يصدرون عنها كل حين من التوسلات المبتدعة أنواعًا منوعة ما أنزل الله بها من سلطان {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} (البقرة: ١٤٠) وهل كان دين الله ناقصًا فأكملتموه بهذه المبتدعات المحدثات؟ أختم بهذا مباحثي في موضوع التوسل وألوي عنان القلم عنه لأجيب عما هو أهم منه كمباحث الألوهية والصفات على طريقة السلف الصالح بما يوضح للمشتبهين أن مذهبهم هو الأسلم والأعلم والأحكم إن شاء الله تعالى. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... دمشق ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بهجت البيطار