لا نلمس هذا الموضوع من حيث علاقته بفن الطب , ولا نبحث فيه من حيث إصابة قطرنا المصري بذلك الداء إصابة المحموم بالحمى المتقطعة ولا من حيث تحيّفه الألوف من سكان الهند , ولا من حيث وسائل الوقاية والعلاج منه , فإن ذلك خصيص بالمجلات الطبية البحتة. وإنما نبحث فيه من وجهة الحوادث الملازمة له كظنون بعض الناس فيه وغير هذا مما هو أليق بصحيفة أدبية أن تنشره على قرائها استتمامًا للفوائد وتقييدًا لبعض الأوابد. شاع على أثر انفضاض معرض باريس أن الطاعون لا بد من انتشاره في أوربا كما انتشرت فيها الإنفلونزا أي الحمى الوافدة عقب انتهاء معرض عام ١٨٨٩ , وهو قول لا يؤخذ به , ولا يعول عليه؛ لأننا إذا جعلناه قاعدة يقاس عليها لزم أن يكون الداءُ الذي يخشى من تفشيه بعد المعرض الأخير الإنفلونزا لا الطاعون , ثم على فرض صحة ذلك القول , ووجوب الأخذ به فليس ثمت ما يدعو إلى قلق الخواطر واضطراب الأفكار لأن جرثومة الطاعون اكتشفها الأطباء فاستنبطوا الطرق العلاجية له , وقرروا القواعد الصحية الواقية منه بحيث صار دخوله إلى أوربا متعسرًا جدًّا. ولقد حاول أن يلتمس طريقًا إليها من الإسكندرية وفيينا وأوبورتو (في أسبانيا) وجلاسكو (في إنكلترا) فأرتجت دونه الأبواب , وسيلبث كذلك ما دامت القواعد الصحية مرعية والوسائل الواقية مأخوذًا بها. ورب معترض يقول: إن الطرق التي استنبطها الأطباء لعلاج الطاعون أو الوقاية منه غير وافية بالمرام كشأنها في كل داءٍ عضال كالسل الرئوي والدفتيريا , ويرد هذا الاعتراض بما ساقه الأستاذ كيتوزاتو الياباني الذي شاطر الدكتور يرسين الفرنسوي الفضل في اكتشاف جرثومة الطاعون من الأدلة على تأثير الوسائل الواقية في حصر هذا الداء ومنع سريانه في اليابان في أخريات العام الغابر حيث قال: (في أكتوبر سنة ١٨٩٩ دخل الطاعون في كوبه وأوزاكا من بلاد اليابان متطرقًا إليهما من جزيرة فرموزة وعدد سكان المدينة الأولى ٢٠٠٠٠٠ نسمة والثانية ٧٥٠٠٠٠ فلم يصب منهم فيهما سوى ٦٩ نفسًا شفي أغلبهم) , ولا ريب في أن أضعاف هذا العدد من أهالي باريس مثلاً يصابون بالحمى التيفوسية أو غيرها من الأمراض العادية. وقد تمهدت للأستاذ كيتوزاتو من دخول الطاعون في اليابان فرصة للبحث عن تأثير الفيران في انتشاره فرأى في ١٦ إصابة من الإصابات التي حدثت بمدينة كوبه بمنازل المصابين أو بجوارهم فيرانًا ميتة بذلك الداء , ثم وجدت فيران ميتة بالطاعون في جمرك المدينة , فحدث بعد هذا الاكتشاف باثني عشر يومًا أن طفلاً أصيب بالطاعون , وتوفي به , وكان منزل أهله لا يبعد عن مركز الجمرك بخمسمائة متر , واتضح من توالي البحث وجود فيران كثيرة ميتة بالطاعون بين منزل الطفل والديوان. عندئذ قرر المجلس البلدي في مدينة كوبه واقتدى به مجلس مدينة أوزاكا مكافأة من يأتي اليهما بفأر حي أو ميت بما يوازي من النقود المصرية أربعة مليمات , فبلغ ما قتله الناس من الفيران في المدينة الأولى ١٥٠٠٠ , وفي المدينة الثانية ٢٠٠٠٠ وذلك في أثناء شهر دسمبر ١٨٩٩ فقط. وبان من البحث أن نسبة المطعون من الفيران في كوبه كنسبة واحد إلى خمسة , وفي أوزاكا كنسبة واحد إلى عشرة , وأن أغلبها أخذ من الجهات التي لم يظهر فيها الطاعون في تلك الجهات وفتك بالكثيرين من أهليها. ومن الأمور المقررة عند الأطباء , ويخشى الناس بأسها ضرر البصاق على الأرض , حتى إنك لترى في مركبات السكك الحديدية والترمواى والأمنيبوس , وفي كل مزدحم للناس في أوربا إعلانات رجاء بأن لا يبصقوا خشية الإضرار بغيرهم , ونحن لا نخالف آراء أولئك الأطباء فيما قرروه من أذى البصاق وضرره , ولكن ألم تكن العطسة أو السعال أكثر ضررًا من البصاق بالمجاور للعاطس أو الذي تأخذه الحدة في الكلام ويسبق لسانه جنانه في التعبير بحيث يتناثر البصاق من فيه رذاذًا فيصيب أفواه سامعيه؟ لا ريب في أن العاطس أو المتكلم أو الخطيب الذي هذا شأنه أولى بأن يتجنبهم مجاوروهم من الباصق الذي لا يضر بصاقه إلا بعد الجفاف , فالبصاق كما ترى أخف ضررًا من العطسة أو السعال أو من الأحوال الملازمة للمتكلم بسرعة. ولا حاجة إلى إقامة الدليل على ما تقدم فقد أثبته تجارب العلماء إلا أن الأستاذ كنيجر لم يكتف بها , ولذا أخذ على نفسه أن يحدد مدة وجود الذرات التي تخرج من الأفواه في الهواء قبل سقوطها على الأرض ويعين الاتجاه الذي تتبعه لدى خروجها , والمسافة التي تجتازها فرأى بعد تجارب قضى فيها زمنًا طويلاً أنه إذا كان هواء القاعة ساكنًا لا تلبث تلك الذرات معلقة في الفضاء أقل من نصف ساعة , وأما إذا كان متحركًا فلا يلزم لها أقل من ساعة ونصف ليرسو على الأرض , وأن العاطس تنبعث ذرات عطسته إلى مسافة تختلف من خمسة أمتار إلى ستة متجهة إلى الأمام , ولكن منها ما يرجع إلى جانبيه أو خلفه بحيث تكنفه من جميع الجهات. ويختلف عدد الذرات أو الجراثيم التي تخرج من الفم باختلاف كيفية الكلام من وضوح أو إبهام في النطق , وارتفاع أو انخفاض في مقام الصوت , فالجهوري الصوت مثلاً تكون الذرات أو الجراثيم المتناثرة من فيه كثيرة وموجبة للقلق والخوف. والأغرب من هذا أن للحروف المتحركة والساكنة تأثيرًا في قلة الجراثيم الخارجة من الفم أو كثرتها عند النطق بها , وللحروف الشفوية والتي مصدرها اللسان والأسنان امتياز على باقي الحروف في كثرة الذرات المصاحبة للنطق بها وعلى الخصوص حروف التاء والراء والكاف والباء والزاي والفاء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م م