للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مقدمة لذكرى المولد النبوي
فيها بيان تاريخ الاحتفال بالمولد وحكمه شرعًا

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وآله وصحبه
ومَن والاه.
أما بعد: فإن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف قد صار عادة عامة، وقد
اختلف في كونها بدعة حسنة أو بدعة سيئة كما سيأتي، والمشهور أن المُحْدِث لها
هو أبو سعيد كوكبوري بن أبي الحسن علي بن بكتكين التركماني الجنس الملقب
الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل [١] أحدثها في أوائل القرن السابع
أو أواخر القرن السادس، فإن السلطان صلاح الدين ولاه على إربل في ذي الحجة
سنة ٥٨٦ وتوفي سنة ٦٣٠.
وقد كان سخيًّا متلافًا صاحب خيرات كثيرة، وكان ينفق على الاحتفال بالمولد
ألوفًا كثيرة، ففي تاريخ ابن خلكان أنه كان ينصب له مقدار عشرين قبة من الخشب،
كل قبة منها أربع طبقات أو خمس طبقات، له قبة منها والباقي للأمراء وأعيان
دولته، وكانوا يزينون هذه القباب في أول شهر صفر بأنواع الزينة الفاخرة، وكان
يكون في كل قبة جوق من الأغاني وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي،
بل كانوا لا يتركون طبقة من الطبقات بغير جوق من تلك الأجواق. وكان الناس
يتركون كل عمل في تلك الأيام، فلا يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران على
القباب.
قال ابن خلكان: فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم
شيئًا كثيرًا زائدًا عن الوصف وزفَّها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي
حتى أتى بها إلى الميدان ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور ويطبخون الألوان
المختلفة، فإذا كانت ليلة المولد [٢] عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة
ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير، وفي جملتها شمعتان أو أربع
- أشك في ذلك - من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل ومن
ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل. فإذا كانت صبيحة يوم المولد
أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية على يد كل شخص منهم بقجة،
وهم متتابعون، كل منهم وراء الآخر، فينزل من ذلك شيء كثير، لا أتحقق
عدده.
ثم ذكر عرضه الجند وتوزيعه تلك الخلع بعد ذلك على الفقهاء والوعاظ
والقراء والشعراء ومد السماط. وكان قد ذكر قبل ذلك أن الناس كانوا يأتون هذا
الموسم في إربل من بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم
وتلك النواحي، فلا يزالون يتواصلون من شهر المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول.
لخصت هذا من تاريخ ابن خلكان الذي وصف ما رآه بعينيه؛ لأن ما يُعمل
بمصر الآن يشبه ما كان يعمل في إربل، إلا أنه دونه عظمة ونفقة، فهَهُنا تنصب
قباب أو خيام النسيج الجميلة لعزيز مصر ولوزارات حكومته ولبعض الوجهاء في
دائرة واسعة ويختلف إليها الناس من أول شهر ربيع الأول، يسمعون في بعضها
وعظ الوعاظ، وذكر أرباب الطرق المعروفة. ويرأس الاحتفال شيخ مشايخ طرق
الصوفية، ويقيم بجانب خيمته مأدبة فاخرة في مساء اليوم الحادي عشر من الشهر،
يحضرها كبار العلماء وكثير من الوجهاء، ويكون الاحتفال الأكبر في الليلة
الثانية عشرة في خيمته فيجتمع فيها مَن حضر المأدبة، ويؤمها الأمراء والوزراء،
حتى إذا ما انتظم جمْعهم حضر عزيز مصر بحاشيته، وتقرأ بين يديه قصة المولد،
فيخلع على مَن يقرأها خلعة سنية، وتدار بعد قراءتها كؤوس الشراب المحلّى
وصواني الحلوى الجافة. ثم ينصرف العزيز إلى خيمته وهي بجانب قبة شيخ
الشيوخ، فيمكث فيها ساعة زمانية، يشاهد في أثنائها زينة الألعاب النارية، ثم
ينصرف وينصرف الأمراء والوزراء، ويظل الناس يطوفون على تلك الخيام
المزينة بالأنوار الكهربائية وغير الكهربائية عامة ليلتهم. وفي ضحوة ذلك اليوم
يحضر نائب العزيز قبة شيخ الشيوخ فتعرض عليه مواكب الصوفية، يتقدم كلَّ
طريقة شيخُها، وهم يهللون أو يتلون الأوارد، ويقف كل منهم أمام شيخ الشيوخ
قليلاً، فيحييه، ثم ينصرف.
وقد استحسن جماهير المسلمين الاحتفال بالمولد في مشارق الأرض ومغاربها
ويجتمعون لقراءة قصته في المساجد، ومنهم مَن يجعل لها دعوة خاصة في البيوت،
وهذه لا تتقيد بجعلها في تاريخ الميلاد النبوي، ولكن أنكر هذا الاحتفال بعض
العلماء، وعدَّه بدعة مذمومة؛ لأنه عُدَّ موسمًا وشعارًا دينًا وعبادة غير مشروعة،
يظن العوام أنها مشروعة؛ ولما يقترن به من المنكرات الأخرى. وقال بعضهم: إنه
بدعة حسنة؛ لأنه عبارة عن الشكر لله تعالى على وجود خاتم أنبيائه وأفضل رسله
بإظهار السرور في مثل اليوم الذي وُلد فيه، وبما يكون فيه من الصدقات والأذكار،
وقد ألف الجلال السيوطي رسالة في عدِّه بدعة حسنة في جواب مَن سأل عن
حكمه شرعًا، وعرفه بقوله: هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية
الأخبار الواردة في مبدإ أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وما وقع في مولده من
الآيات، ثم يمد لهم سماط، فيأكلون، وينصرفون من غير زيادة على ذلك. وذكر
أن الحافظ ابن حجر سُئل عنه، فأجاب بقوله: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن
أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن
وضدها، فمن جرد في عمله المحاسن، وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، ومَن لا
فلا.
ثم بيّن أن الحافظ خرجه على حديث الصحيحين في صيام عاشوراء شكرًا لله
تعالى على إنجائه فيه موسى نبيه، وإغراق فرعون عدوه، قال: فيُستفاد منه
الشكر لله على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في
نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام
والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من بروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم؟
وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم
عاشوراء ومَن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، وتوسع
قوم، فنقلوه إلى أي يوم من السنة، وفيه ما فيه. فهذا ما تعلَّق بأصل عمله. وأما
ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم
ذكره من الإطعام وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل
الخير والعمل للآخرة، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن ما
كان من ذلك مباحًا بحيث يتعين للسرور بذلك اليوم - لا بأس بإلحاقه وبه وما كان
حرامًا أو مكروهًا فيمنع وكذا ما كان خلاف الأولى. اهـ.
وقد يقال: لماذا لم يقم بهذا الشكر أحد من الصحابة والتابعين ولا الأئمة
المجتهدين ولا أهل القرون الثلاثة الذين شهد الشارع لهم بالخيرية؟ فهل كان
صاحب إربل التركماني ومَن تبعه أعلم وأهدى منهم وأعظم شكرًا لله تعالى؟ ويقال
مثل هذا في تخريج الحافظ ابن رجب إياه على تعليل صيام يوم الإثنين بأنه يوم وُلد
فيه صلى الله عليه وآله وسلم، وسيأتي مزيد بيان لحجة المخالف.
وخرجه السيوطي على أصل آخر استنبطه من تخريج شيخه الحافظ، وهو ما
رواه البيهقي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقّ عن نفسه بعد النبوة،
(قال) : مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عقّ عنه والعقيقة لا تعاد مرة ثانية،
فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد
الله إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته، كما كان يصلي على نفسه؛ لذلك فيستحب
لنا أيضًا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه الآيات
وإظهار المسرات. اهـ.
وهذا تخريج ضعيف من وجوه:
(أحدها) أن هذا الحديث منكر كما قال راويه البيهقي، بل باطل كما قال
النووي في شرح المهذب.
(ثانيًا) أنه لو صح لكان دليلاً على استحباب عقّ الإنسان عن نفسه ولم يقل
بهذا أحد.
(ثالثها) جعل قولهم: إن العقيقة لا تعاد حجة على الحديث على تقدير
صحته، مع كون عبد المطلب عقّ عنه صلى الله عليه وسلم.
(رابعها) أنه لو كان تشريعًا لعمل به الصحابة وغيرهم وقال به أئمة الفقهاء
أو مَن بلغه منهم.
(خامسها) أن يوم البعثة كان أوْلَى بهذا الشكر من يوم الولادة؛ لأن النعمة
والرحمة إنما كانت برسالته صلى الله عليه وسلم بنص قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: ١٠٧) .
وحجة المنكرين في هذا الباب أن كل بدعة دينية تعد من العبادات المحضة أو
تُجعل من شعائر الدين - فهي محظورة؛ لأن الله تعالى أكمل الدين وأجمعت الأمة
على أن أهل الصدر الأول أكمل الناس إيمانًا وإسلامًا، وأن كل بدعة ليست من هذا
القبيل - كالمنافع الدنيوية والوسائل التي يقوَّى بها أمر الدين والدنيا كالمدارس
والمستشفيات والملاجئ الخيرية التي يثاب صاحبها بحسن نيته فيها - فإنها تعد
بدعة حسنة، والتحقيق أن هذه لا تسمى بدعة شرعية، وإنما يطلق عليها اسم
البدعة لغةً، فلا تدخل في عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم من الحديث
الصحيح عند مسلم: (شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ؛
لأن موضوع الحديث المحدثات في أمر الدين، ولكنها تعد من السنن الحسنة في
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر مَن عمل بها
إلى يوم القيامة) -الحديث (وهو في صحيح مسلم أيضًا) فقد رَغَّبَ أمته بهذا
الحديث في الاختراع النافع لها في دينها ودنياها، ولكن ليس لأحد أن يخترع في
الدين نفسه شيئًا.
ثم إن البدعة الدينية إما أن تكون اختراع عبادة أو شعارًا دينيًّا لا أصل لهما
وإما أن تكون تخصيصًا لعبادة مشروعة بزمان معين أو مكان معين أو هيئة معينة
لم يخصصها بها الشارع. ومن هذا النوع عَدَّ الفقهاء صلاة الرغائب في رجب
وصلاة ليلة النصف من شعبان من البدع المذمومة. قال النووي في المنهاج:
وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان. وقد سمّى الشاطبي هذا النوع
بالبدع الإضافية، وسمى النوع الأول البدع الحقيقية. وأطال في بيان ذلك في كتابه
(الاعتصام) وفصله تفصيلاً.
هذا، وإن ما يعهد من الاحتفال بالمولد ليس عبادة مأثورة عن الشارع يؤتى
بها على الوجه المشروع، ولا هو عمل دنيوي محض، بل يجمعون فيه عبادات
يأتون بها أو ببعضها على وجه غير مشروع، وبين لعب ولهو، بعضه مباح
وبعضه محظور، وقد كان يكون في احتفال القاهرة خيام يرقص فيها النساء
المتهتِّكات مكشوفات الصدور والبطون، كما يحصل دائمًا في غيره من احتفالات
الموالد - كالموالد الحسيني والمولد البدوي - وما هو شر من ذلك، ولكن قد أبطل
هذا كله من الاحتفال الذي يكون في القاهرة، ولله الحمد.
وقد حاول مَن ذكرنا من العلماء تخريجه على أصل شرعي بإبطال ما يكون
فيه من اللهو والاقتصار فيه على عمل الخير، ولولا تخصيص تلك العبادة بالزمان
والمكان والصفات المخصوصة التي تشبه بها الشعائر والعبادات المشروعة وتلتبس
بها - لما احتيج في تخريجه إلى ما تكلفوه.
وأما اجتماع الناس في مثل القباب والخيام التي تنصب في العباسية، وتزين
بالمصابيح والأنوار الكهربائية، وإظهار البهجة والسرور، بذكرى مولد ذي الضياء
المعنوي والنور، وذكر إخراج الله الخلق بهديه من الظلمات، وما آتاه من الهدى
والآيات - فهو في نفسه من المباحات، المقرونة بالمستحبات والمندوبات، بشرط
أن يخلو من البدع والمنكرات، وأن لا يعد من الشعائر الدينية ولا من العبادات،
فإذا كان بحيث يظن العامة أنه مطلوب شرعًا حرم فعله قطعًا، بل كان بعض
الصحابة يتركون بعض المسنونات؛ لئلا تظن العامة أنها من الواجبات، ومن هنا
صرح الشاطبي في (الاعتصام) [٣] بكون اتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه
وآله وسلم عيدًا من البدع، وأفتى ابن حجر المكي بأن القيام عند ذكر ولادته صلى
الله عليه وسلم بدعة، وذكر أن الناس يفعلونه تعظيمًا وقال: (فالعوام معذورون
لذلك بخلاف الخواص) [٤] وقد علل فتواه بأن القيام يوهم العامة أنه مندوب، ويزاد
عليه أن بعضهم يظن أنه واجب، وقد يعلل أيضًا بأنه يُفعل بهيئة العبادة لما يكون
من الصلاة المخصوصة المعينة بالعدد في أثنائه.
ولكن لم يأخذ أحد بهذه الفتوى، فما زال العلماء يقومون كغيرهم ولم نَرَ لهم ردًّا
للفتوى بدليل أرجح من دليلها، ولعل أكثر العوام يعتقدون وجوب هذا القيام لالتزام
العلماء وسائر الناس له، ولو فطنوا لِتَرْك أحدٍ له لعدُّوه فاسقًا متهاونًا بالدين أو كافرًا
مارقًا منه! ، ولعلك لو اقترحت على جماعة العلماء - الذين يحضرون قراءة قصة
المولد - تركه في بعض الأوقات ليعلم العامة أنه غير واجب لما تجرءوا على ذلك.
والحق أن قصد التعظيم هو الذي زين للعوام والخواص أمثال هذه البدع. فإن
من طباع البشر أن يبالغوا في مظاهر تعظيم أئمة الدين أو الدنيا في طور ضعفهم في أمر الدين أو الدنيا؛ لأن هذا التعظيم لا مشقة فيه على النفس، فيجعلونه بدلاً مما يجب عليهم من الأعمال الشاقة التي يقوم بها أمر الدين أو الدنيا، وإنما
التعظيم الحقيقي بطاعة المعظم والنصح له والقيام بالأعمال التي يقوم بها أمره، ويعتز
دينه إن كان رسولاً، وملكه إن كان ملكًا. وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم
تعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم ثم للخلفاء، وناهيك ببذل أموالهم وأنفسهم في هذه السبيل. ولكنهم دون أهل هذه القرون التي ضاع فيها الدين في مظاهر التعظيم
اللساني. ولا شك أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أحق الخلق بكل
تعظيم، وليس من التعظيم الحق له أن نبتدع في دينه بزيادة أو نقص أو تغيير أو
تبديل لأجل تعظيمه به، وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين؛ فقد كان جُل ما
أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم عن حسن نية، ومازالوا يبتدعون بقصد
التعظيم وبحسن النية؛ حتى صارت أديانهم غير ما جاءت به رسلهم! . ولو تساهل
سلفنا الصالح كما تساهلوا وكما تساهل خلفنا الذين اتبعوا سَنَنهم شبرًا بشبر وذراعًا
بذراع - لضاع أصل ديننا أيضًا، ولكن السلف الصالح حفظوا لنا الأصل، فالواجب
علينا أن نرجع إليه ونعَض عليه بالنواجذ، ويجب على العلماء أن يبينوا للناس
الإحداث والبدع محذرين منها، كما يجب عليهم أن يبينوا لهم الفرائض والسنن
مرغّبين فيها، والبيان يحصل بالقول والفعل والإقرار والترك، كما أن التشريع حصل
بذلك؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يترك بعض سننه لئلا تُفرض.
قال الإمام الشاطبي في الاعتصام [٥] : وقد ثبت في الأصول أن العالِم في
الناس قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء ورثة الأنبياء، فكما أن النبي
صلى الله عليه وسلم يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره، كذلك وارثه يدل على
الأحكام بقوله وفعله وإقراره، واعتبر ذلك ببعض ما أحدث في المساجد من الأمور
المنهي عنها، فلم ينكرها العلماء أو عملوا بها فصارت تعد سننًا ومشروعات
كزيادتهم مع الأذان: (أصبح ولله الحمد) ... إلخ. وقد أطال في هذه المسألة وبيَّن
مفاسد السكوت قبل هذه العبارة وبعدها، ولا سيما عمل (الخواص من الناس
بالبدعة عمومًا وخاصة العلماء خصوصًا) وذكر في هذا السياق أن علماء الصحابة
كانوا يتركون بعض السنن لئلا يظن الناس أنها واجبة، ومن ذلك أن أبا بكر
وعمر وابن عباس تركوا التضحية في عيد النحر؛ لئلا يظن الناس أنها واجبة [٦]-
على أن بعض الفقهاء بعدهم قال بوجوبها - ونُقل عن الإمام مالك أنه قال في
الموطأ - في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان - إنه لم يَرَ أحدًا من أهل العلم
والفقه يصومها، قال: ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم
يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يُلحق أهل الجهالة والجفاء برمضان ما ليس
منه لو رأوا رخصة من أهل العلم، ورأوهم يقولون ذلك. اهـ.
وقد كان الإمام مالك يعرف الحديث في صيامها، وكلامه يدل على ذلك، كما
قال الشاطبي ولكنّ سد ذرائع البدع اقتضى ترك هذا المستحب، ومالك من أشد الأئمة
تشديدًا في ذلك. ومما نقله عنه الشاطبي وغيره قوله: (مَن أحدث في هذه الأمة شيئًا
لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله
يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: ٣) ، فما لم يكن يومئذ دينًا لا يكون اليوم دينًا. اهـ[٧] ، وقوله عندما
سئل عن القراءة في المساجد: (لم يكن بالأمر القديم، وإنما هو شيء أُحدث،
ولم يأتِ آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، والقرآن حسن) . اهـ[٨] .
وجملة القول: إن خلط العبادات الدينية باحتفالات الزينة واللهو وجعْل ذلك
عملاً واحدًا عن باعث ديني - هو الذي يجعل مجموع تلك الأعمال من قبيل
الشعائر الدينية ويوهم العوام أن تلك العادات - وكذا العبادات المبتدعة في هيئتها
وتوقيتها وعددها - من أمور الدين المشروعة بهذه الصفة ندبًا أو وجوبًا، كما قال
الفقيه ابن حجر في مسألة القيام عند ذكر ولادته عليه أفضل الصلاة والسلام وما
يكون فيه من الصلاة المخصوصة كما قلنا.
وأما قراءة قصة المولد فهي عبارة عن قراءة شيء من الحديث والسيرة
النبوية كما قال السيوطي، ولكن كثيرًا من الناس كتبوا (موالد) حشوها بالأحاديث
الموضوعة والمنكرة وفي بعضها وصف النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يليق
كالتغزُّل بجماله. وكنت منذ سنين أتمنى لو يوجد بين أيدي الناس رسائل في هذا
الموضوع يتحرى فيها الصحيح المفيد، عسى أن يستبدل بها بعض ذلك الضار
السيئ التأثير، بيد أنني كنت أتحامى أن أكتب في ذلك شيئًا باسم المولد؛ لئلا
أكون محدِثًا أو مساعِدًا أو مقرًّا لما لم يفعله السلف الصالح.
ثم كان أن دعاني في غرة ربيع الأول من عام ١٣٣٤ شيخ مشايخ طرق
الصوفية بمصر السيد عبد الحميد البكري [٩] إلى مأدبة أعدها في داره وسماع قصة
المولد بعدها، فأجبت الدعوة، وتوسلت بها إلى تنفيذ تلك الفكرة؛ إذ كنت علمت
من أحاديث جرت بيني وبينه أنه من محبي الإصلاح للطرق الصوفية وغيرها،
وهنالك كلّمته في قصص الموالد المشهورة ووجوب تغييرها، فاستحسن ذلك، فقلت
له: أرأيت إذا كتبتُ شيئًا في هذا الموضوع أتستبدل به ما يُقرأ عندك في الاحتفال
الرسمي وغيره؟ ، قال: نعم، فانتهزت هذه الفرصة لبيان الحق في هذه المسألة
شكلاً وموضوعًا، ثم شرعت في كتابة شيء من ذلك في ساعات المساء من النهار،
فأتممته في بضعة أيام متفرقة، لم تتم أسبوعًا، وكتبت أكثره في دار البكري،
وكنت أُطْلعه على ما أكتب، فيُسرّ به، ولكنه جاء طويلاً لا يمكن أن يُقرأ في
الحفلة الرسمية كله، فاختصرنا منه نسخة قُرئت من الحفلة الرسمية، فكانت
موضع إعجاب أهل الفهم والذكاء من الوزراء والكبراء وغيرهم من أهل الروية.
ثم اطلع على ما كتبت كله بعض أهل العلم ومحبي الإصلاح فرغبوا إليَّ في
طبعه ونشره، ورأوا أنه من أحسن ما يُنشر في هذا العصر لبيان حقيقة دعوة
الإسلام وكليات الدين وخلاصة السيرة النبوية، فشرعت في طبعه وزدت فيه عند
الطبع حديث البعثة وقصة الهجرة وما تلاها من الخاتمة ومسائل أخرى في أثناء
الكلام. طبعته في المنار ثم جردته منه، وطبعته على حِدَتِه، وحذفت مما طبع في
المنار جملة وجيزة اقتبستها من (رسالة التوحيد) ، وزدت مسائل أخرى قليلة.
فكان فوق ما كنت أقدر وأتوخى في هذا المقام، الذي اعتيد فيه الاختصار، فجاء
كتابًا وجيزًا حاويًا لخلاصة الحقائق المتفرقة في أسفار التاريخ والسيرة النبوية،
وكتب التفسير والحديث والعقائد الإسلامية، مبينًا لِكُنْه الإسلام وحقيقته، وكليات
أحكامه وحكمته، بعبارة يسهل على الناس فهمها، ويتيسر لمريد الحفظ حفظها،
وحروف مضبوطة بالحركات، وأسجاع غير متكلفات، فهو جدير بأن يُقرأ في
البيوت وفي المحافل، وبأن يُلقَّن لطلاب العلوم الدينية والدنيوية في المدارس، وإذا
اكتفى سامعوه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ذكره فُرادى ولم
يرفعوا أصواتهم بصيغة مخصوصة في أوقات معينة - لا يكون في قراءتهم ولا
سماعهم له شبهة على الابتداع الحقيقي ولا الإضافي.
طريقة اختصاره في القراءة:
هذا، وإن لمَن يقرؤه على الناس في وقت ضيق أن يختصر منه بعض
الفصول كفصل الهجرة بطوله من منتصف الصفحة ٣٠ إلى فصل أخلاقه وسيرته
صلى الله عليه وسلم في الصفحة ٣٦، ويمكن ترك هذا الفصل أيضًا إلى الخاتمة
في الصفحة ٤١، وإذا كان المقروء عليهم من العوام فللقارئ أن يحذف مما يقرأ لهم
بحث اصطفاء الله لقومه وقبيلته وآل بيته صلى الله عليه وسلم من أول الصفحة ٤
إلى نهاية الصفحة ١٠؛ لأن هذا البحث لا يفهمه حق الفهم إلا الخواصُّ من أهل
العلم، ومازال كثير من الناس يستشكل ما ورد في الحديث الصحيح من اصطفاء
الله تعالى كنانة وقريشًا وبني هاشم، وحكمة جعل دين العلم والمدنية على لسان
نبي أمي بُعث في أمة أمية، ولم أَرَ أحدًا سبقني إلى بيان مزايا العرب التي أعدهم
الله بها لهذه المنقبة العظيمة، ولله الحمد والمنة، {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي
تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ} (الأحقاف: ١٥) ، وصلى الله على سيدنا محمد
خاتم النبيين، وآله وصحبه ومَن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين.
وكتب هذا في ٥ رمضان سنة ١٣٣٥.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا