للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


استقلال
سورية والعراق

انتهت الحرب العامة الطامة باحتلال جنود الأحلاف من العرب والإنكليز
والفرنسيس لسورية وجعلها ثلاث مناطق: جنوبية، وهي متصرفية القدس الممتازة
ومتصرفيتي نابلس وعكا من ولاية بيروت (وأطلقوا عليها اسم فلسطين)
وشرقية، وهي ولايتا الشام وحلب ما عدا سواحلها، ثم أضيفت إليها متصرفية
الزور الممتازة، وغربية، وهي بقية ولاية بيروت ومتصرفية لبنان الممتازة
وإسكندرونة، وأطنه.
ولما كانت القيادة العليا لجيوش هؤلاء الأحلاف في سورية للإنكليز احتلوا
المنطقة الجنوبية وحدهم، وشاركوا العرب في احتلال المنطقة الشرقية،
والفرنسيس في هذه المنطقة الغربية والشمالية، ولكنهم تركوا لكل منهما إدارة
منطقته فلم يكونوا يتدخلون في أمرها إلا عند الحاجة لِمَا للقيادة العليا من حق
الإشراف، ثم لما اتفقوا مع فرنسة على تنفيذ معاهدة سنة ١٩١٦ المشهورة نهائيًّا
أجلوا جنودهم من هاتين المنطقتين، وتركوا للجيش العربي الذي يقوده الأمير
فيصل السيطرة التامة في منطقته، وللجيش الفرنسي السيطرة التامة في منطقته.
وكانوا قبل إعلان هذا الاتفاق وإجلاء الجنود الذي ترتب عليه، قد طلبوا
الأمير فيصلاً إلى أوربة لأجل الاتفاق معه على تنفيذ معاهدة سنة ١٩١٦، فمكث
بضعة أشهر في إنكلترة وفرنسة، ثم عاد إلى سورية ليوقف زعماء البلاد
وممثليها على نتيجة ما وقف عليه، ويستشيرهم في ما يجب أن يكون عليه حكمها،
وينتهي إليه مصيرها؛ ليعود إلى أوربة ويقرره مع حلفائه، وبعد مباحثات طويلة
سرية وجهرية استقر الرأي على إعلان استقلال القطرين السوري والعراقي، وأن
يتولى ذلك المؤتمر الذي سبق تأسيسه لكل منهما في ما بينهما بالتعاون.
فأما المؤتمر العراقي فأعضاؤه في دمشق حيث تأسس، وأما المؤتمر السوري
فكان أعضاؤه المنتخبون من المناطق الثلاث قد تفرقوا في البلاد بعد اجتماعهم الأول
لمقابلة اللجنة الأميركية وإعلامها برأي الأمة السورية في أمر حكمها، وهو
الاستقلال التام الناجز، ورفض كل حماية ووصاية أجنبية، وترجيح طلب
المساعدة الفنية التي لا تمس الاستقلال من الولايات الأميركية المتحدة، ثم اجتمع
أكثرهم مرةً ثانيةً للحفاوة بالأمير فيصل عند عودته المرة الأولى من أوربة مبشرًا
البلاد بأنه تقرر فيها مبدئيًّا أن تكون البلاد مستقلةً استقلالاً تامًّا، وراغبًا إليهم أن
يوكلوه في تقرير مصيرها وكالةً مطلقةً، فتقرر جمع المؤتمر ليوقفه الأمير على ما
يعلم من كنه الحالة العامة، ويترك له حق تقرير ما يراه باسم الأمة السورية.
كان لحزب الاستقلال العربي أجمل السعي لهذا المشروع الجليل، وكان في
هذه الأثناء يعقد الاجتماعات كل ليلة للبحث في مقدمات إعلان الاستقلال وعمل
المؤتمر، وما يُعده له من الوسائل، وفي تأليف الحكومة الأولى التي سيقررها
ويعلنها.
ولما اجتمع أكثر أعضاء المؤتمر قرر أن يعقد جلساته في النادي العربي،
وحضر الأمير فيصل جلسته الأولى، ومعه أركان حكومته، وألقى الخطاب التالي
على مندوبي الأمة ومن حضر الجلسة من كبار رجال العاصمة، وغيرهم.
خطاب سمو الأمير
أيها السادة:
(في الوقت الذي قرب فيه حل المسألة التركية حلاًّ نهائيًّا في مؤتمر الصلح
رأيت أن أدعوكم مرةً أخرى لتقرير مصير البلاد حسب رغائب الأهلين الذين رأوا
فيكم الكفاءة للنيابة عنهم في مثل هذا الوقت العصيب.
فقد وعد مؤتمر السلم أن ينظر في رغبة الشعوب بل حتم على نفسه بأن يقرر
مستقبل كل أمة حسب إرادتها ورغائبها تحقيقًا للمبادئ السامية التي خاض لأجلها
الحلفاء غمار الحرب العظمى.
فالرئيس ولسن ذكر في خطابه في (مون فرنون) في ٤ تموز سنة ١٩١٨
المادة الآتية:
كل مسألة أرضيةً كانت أو سياسيةً أو اقتصاديةً أو دوليةً، يجب أن تحسم
على موجب الأساسات المستندة إلى حرية قبول الشعب ذي العلاقة رأسًا بتلك
المسألة لا إلى القواعد النفعية المادية، أو المصالح التي يتطلبها شعب أو أمة
أخرى لأجل تأمين نفوذها الخارجي أو سيادتها.
وقد ذكر جميع رؤساء الحكومات المتحالفة أقوالاً لا تقل في معاني استقلال
الشعوب عن أقوال الرئيس ولسن في هذا الصدد، ونشرت حليفتانا إنكلترا
وفرنسا منشورًا في ٧ تشرين ١٩١٨ أكدتا لنا فيه استقلال بلاد العرب المنشود.
أيها السادة: لما كانت هذه الحرب حرب حرية واستقلال، حربًا جاهدت
فيها الأمم ذَبًّا عن كيانها السياسي - دخل فيها صاحب الجلالة والدي المعظم في
صفوف الحلفاء بعد أن استوثق من العرب في الجزيرة وفي سورية وفي العراق،
فقاتلوا قتالاً شهد لهم فيه أعاظم رجال أوربا السياسيين والعسكريين، وأثنوا
على شجاعتهم وبسالتهم غاية الثناء، ولا بد أن يحفظ التاريخ أعمالهم الجليلة في
إبان الحرب التي استمات فيها الحجازي والسوري والعراقي، وإني واثق بأن
الأمة العربية ستنال من المغنم ما ناله غيرها من حلفائنا الذين نالوا الظفر على
الأعداء.
إن هذا الظفر لم يكن عسكريًّا فقط، بل هو سياسي قبل كل شيء؛ لأنه ظفر
الحق على القوة، والحرية على الاستبداد! فقد انتشرت اليوم فكرة الاستقلال بين
الشعوب ونقشت على أفئدتهم، فلن تزول بعد الآن.
استحق العرب حريتهم واستقلالهم بفضل الدم الطاهر الذي سفكوه، وبفضل
ما قاسوه من أنواع العذاب والقهر، فالأمة العربية لا تقبل اليوم أن تستعبد. كما أني
أعتقد أنه ليس هنالك أمة تريد استعبادها، فرحلاتي الرسمية العديدة إلى أوربا
والأحاديث والكتابات التي جرت بيني وبين ساستها، لم تُبق في نفسي مجالاً للشبهة
والتردد في نوايا حكوماتها الحسنة.
أيها السادة: إننا لا نطلب من أوربا أن تمنحنا ما ليس لنا به حق، بل
نطلب منها أن تصدق على حقنا الصريح الذي اعترفت لنا به كأمة حية تريد حياةً
حرةً واستقلالاً تامًّا , ونود أن نعيش مع سائر الأمم المتمدنة على غاية من الولاء
والمحبة الخالصة , فسياستنا في المستقبل ستكون سياسة صلح وسلم مبنيةً على الثقة
المتقابلة والمنافع المتبادلة , وبكلمة واحدة: سياسة تتفق مع مصالح الأمة ومنفعة
السلم العام , فالعرب لا يستنكفون عن تبادل المنافع بينهم وبين الأمم المتمدنة،
ولا يرفضون صداقة من يريد صداقتهم على شريطة أن لا يمس ذلك بكرامتهم , ولا
يخل باستقلالهم السياسي التام.
أيها السادة: إن وظيفتكم اليوم عظيمة، ومهمتكم كبيرة، فأوربا تنظر إلينا
عن كثب، وستحكم لنا أو علينا بالنسبة إلى الخطة السياسية التي سنسير عليها،
والأعمال التي سنقوم بها في المستقبل. فدولتنا الجديدة التي قام أساسها على وطنية
أبنائها الكرام هي في حاجة اليوم إلى تقرير شكلها أولاًّ، ووضع دستور لها يعين
لكل منا - آمرنا ومأمورنا - حقوقه ووظائفه في حياتنا المستقبلة التي أرجو أن
يكون ماؤها الجد والعمل والإقدام.
وقبل أن أختم كلامي في هذه الجلسة الخالدة أريد أن أذكركم بإخوانكم
العراقيين الذين جاهدوا معكم، وأبلوا بلاءً حسنًا في سبيل الوطن، وبالواجب الذي
يتحتم علينا في أمر التضامن والتعاضد لنعيش حياةً سعيدةً قويةً. وأقرئكم السلام
العربي الخالص متمنيًا لكم التوفيق والنجاح في مساعيكم الوطنية،
والسلام عليكم) اهـ.
وبعد أن انتهت الخطبة حيا الأمير المؤتمر، وحثه على العمل بما تقضي به
الحال من الجد والنشاط، ثم انصرف بين التصفيق والهتاف، وكان خبر افتتاح
المؤتمر قد انتشر في أنحاء العاصمة، فأدركت الأمة أن ساعة تقرير المصير قد
أزفت فقامت بمظاهرة عظيمة أمام المؤتمر طالبةً الوحدة والاستقلال التام، وقد
أرسل المتظاهرون باسم الأمة كتابًا إلى المؤتمر تلاه الكاتب العامة على الأعضاء،
وجاء فيه ما خلاصته:
(إن الأمة صاحبة الكلمة الأولى في تقرير مصيرها تطلب من المؤتمر الذي
يمثلها في هذه الساعة العصيبة أن يعلن استقلال البلاد بحدودها الطبيعية استقلالاً
تامًّا، وأن يأخذ على عاتقه تبعة الدفاع عنه، ويشرف على تأليف حكومة
ديمقراطية مسئولة أمامه ريثما تتم الانتخابات المقبلة لمجلس النواب، وإذا شاء أن
يعلن سمو الأمير فيصل المعظم ملكًا على البلاد فليعلنه ملكًا دستوريًّا ديمقراطيًّا عادلاً،
إلى غير ذلك من المطالب والاقتراحات) .
ثم إن الأعضاء انتخبوا الرئيس الدائم وأعضاء ديوان الرياسة للمؤتمر،
وكانت الجلسة الأولى برياسة رئيس موقت، فكان الرئيس هاشم بك الأتاسي، ثم
ألفت لجنة لوضع رد على خطاب الأمير، ولم يحضر كاتب هذه السطور الجلسة
الأولى إذ كان قبلها بأيام زار مدينة بيروت، وفي أثناء زيارته لها انتخبه أهلها نائبًا
عنهم في المؤتمر انتخابًا قانونيًّا، وعاد إلى العاصمة مع أكثر مندوبي بيروت في
يوم الأحد ١٧ جمادى الآخرة، وحضر الجلسة التي عقدت في مسائه فقرئت فيها
مضبطةً انتخابه وقبلت، واشترك في المناقشة في الرد على خطاب الأمير
وتقريره، وهذا نصه:
رد المؤتمر على خطاب الأمير
(يا سمو الأمير المعظم! بكل فخر وابتهاج سمع المؤتمر السوري العام الممثل
للأمة السورية خطاب سموكم الذي شرحتم به الغاية النبيلة، وأبنتم موقف البلاد
تجاه الأزمات الحاضرة، وأعربتم عن حسن نية الحلفاء وأقطاب السياسة إزاء
استقلال البلاد العربية عامةً وسورية خاصةً، استنادًا على عهودهم ووعودهم.
إن الأمة العربية في الأوطان والمهاجر يا سمو الأمير لم تقم جمعياتها وأحزابها
السياسية في زمن الترك بمواصلة الجهاد السياسي، ولم ترق دم شهدائها الأحرار،
وتثر على الحكومة التركية إلا طلبًا للاستقلال التام والحياة الحرة بصفتها أمةً ذات
كيان سياسي ومدنية خالدة وقومية خاصة لها الحق في أن تحكم نفسها بنفسها، وقد
دخلت الحرب العامة في جانب الحلفاء استنادًا إلى عهودهم المقطوعة لجلالة الملك
والدكم المعظم، وللوعود الرسمية السياسية التي جاهر بها أقطاب سياستهم، واقتناعًا
بتحقيق مبادئ الرئيس ولسن السامية المقررة لحرية الشعوب واستقلالها، وحفظ
مصالحها، وإعطائها الحق في تقرير مصيرها كما تفضلتم في خطاب سموكم العالي،
وإن ما قام به جلالة والدكم المعظم، وما قمتم به سموكم من الأعمال الجليلة كان أعظم
عامل في الظفر وانتصار القضية العربية، مما أوجب ابتهاج العرب عامةً،
والسوريين منهم خاصةً الذين جاهدوا معكم حق الجهاد في سبيل الوصول إلى هذه
الغاية المقدسة غاية الحرية والاستقلال التام.
لذلك كان الواجب الأول المتحتم على هذا المؤتمر الذي يتكلم بلسان الأمة
ويعبر عن عواطفها وآمالها - ترتيل آيات الشكر والثناء على جهاد جلالة والدكم
المحمود، وجهاد سموكم، وتكرار الدعاء بتوفيق جلالته وسموكم وسمو إخوتكم
آل بيتكم الكريم الذين اشتركوا معكم في سبيل استقلال البلاد وتحريرها، وكانوا
معكم أكبر عون لهذه الأمة في تحقيق آمالها ورغائبها.
على أن وقوفكم وقفة الأبطال في ميادين الحرب لم يكن أعظم من وقوفكم
موقف الدفاع عن قضيتنا الحقة في ميادين السياسة الخارجية الذي خلد لكم في بطون
التاريخ أفضل الأثر.
إن تنويه سموكم بالظفر الذي تم للعالم، وأنه لم يكن عسكريًّا فقط، بل هو
سياسي قبل كل شيء؛ لأنه ظفر الحق على القوة، والحرية على الاستبداد - قد أثلج
صدور أعضاء المؤتمر الذين اجتمعوا في هذه العاصمة بصفتهم ممثلي الأمة؛
ليقتطفوا من حدائق الحرية ثمرة جهادها المقدس، وقد زادنا اطمئنانًا تصريح سموكم
بأن اختباراتكم ومفاوضاتكم مع رجال السياسة لم تُبق مجالاً للشك في حسن نية
الحلفاء، ولا سيما نحو بلادنا المحبوبة.
إن الأمة يا سمو الأمير لتعتمد في قضيتها الاستقلالية على حقها الصريح
بالحياة واثقةً بأن الحق يؤخذ ولا يعطى، كما صرحتم بذلك مرارًا، على أننا كأمة
حية مدنية تريد حياةً واستقلالاً، وتود أن تعيش مع سائر الدول على غاية من
الولاء والمحبة الخالصة ستسعى لأن تكون سياستها في المستقبل سياسة صلح
وسلام، مبنيةً على الثقة المتقابلة، والمنافع المتبادلة التي لا تمس باستقلالنا التام.
إن المؤتمر السوري العام يقدر يا سمو الأمير مهمته الخطيرة حق قدرها،
وهو يرى أن موقف البلاد السورية من الوجهة الاحتلالية المؤقتة التي قضت بها
الظروف الحربية قد آن أن تنتهي وفقًا لآمال البلاد، وإنقاذًا لها من مشاكلها
الحاضرة، فقد مضى نحو عام ونصف والبلاد لا تزال تئن تحت أثقال الاحتلال
العسكري الذي ألحق بها أضرارًا جمةً، وأوقف سير مصالحها الاقتصادية
والإدارية، وأوقع ريبةً في نفوس أبنائها، فاندفع الشعب وقام بثورات عديدة في
المناطق المحتلة مطالبًا باستقلال بلاده ووحدتها.
(لذلك ولما نشاهده يوميًّا من عزم الأمة الأكيد على المطالبة بحقها ووحدتها
والعمل للوصول إلى هذه الغاية بكل الوسائل الممكنة، واستنادًا إلى حقنا الشرعي
بالحياة الحرة، ودماء شهدائنا الأحرار وجهادنا الطويل، والعهود التي قطعها
الحلفاء لنا، والمبادئ السامية التي أعلنوها - قد أجمعنا بصفتنا ممثلي الأمة
السورية في جميع أنحاء القطر السوري تمثيلاً قانونيًّا، وقررنا بإجماع الرأي
استقلال بلادنا السورية بحدودها الطبيعية استقلالاً تامًّا لا شائبة فيه مبنيًّا على
الأساس النيابي المدني، وقد اخترنا بإجماع الآراء سموكم ملكًا دستوريًّا على البلاد
السورية نظرًا لما امتزتم به من الصفات، وما قمتم به من الأعمال الخالدة لمصلحة
الوطن، وما عرفتم به من حبكم للحرية والدستور، وإخلاصكم للبلاد والأمة،
وضربنا موعدًا لمبايعة سموكم رسميًّا نهار غدٍ الاثنين في ٨ آذار الساعة الثالثة بعد
الظهر، وأعلنا انحلال الحكومات الاحتلالية العسكرية على أن تقوم مقامها حكومة
وطنية ملكية مدنية مسئولة، وتدار مقاطعات البلاد على الطريقة اللامركزية.
هذا وإننا نحتفظ باسم الأمة بصداقة الحلفاء محترمين مصالحهم ومصالح
الأجانب كل الاحترام، ولنا الثقة التامة بأن عملنا هذا سيقابله الحلفاء بكل ارتياح
لما نعهد فيهم من شرف الغاية فيوافقون على استقلالنا التام، وإجلاء جنودهم عن
المنطقتين الغربية والجنوبية، فيقوم بحفظ النظام فيهما الجند الوطني، والإدارة
المستقلة، وتتمكن الأمة السورية بالاحتفاظ بصداقة الحلفاء من أن تبلغ أقصى
درجات الرقي، وتكون عاملاً في المجتمع الدولي المتمدن.
ولما كانت الحكومة التي قررنا تأليفها هي حكومة نيابية مسئولية تجاه الأمة
فقد قررنا إبقاء مجلسنا هذا لسن القانون الأساسي، والسهر على مراقبة استقلال
البلاد، والأسس التي وضعها علنيًّا باسم الأمة إلى أن تتمكن الحكومة من جمع
مجلس النواب.
وقبل أن نختم عريضتنا نعلن بكل شكر وثناء الخدم التي قام بها إخواننا
العراقيون في سبيل النهضة العربية، ولا نزال نؤيد طلبنا السابق باستقلال العراق
التام، ورفع الحواجز السياسية والاقتصادية بينه وبين سورية، ونعضد مطالبه
الاستقلالية بكل ذلك معرضين شعائر الطاعة والإخلاص إلخ) .
***
إعلان الاستقلال وقرار المؤتمر التاريخي فيه
هذا هو نص القرار التاريخي الذي وضعه المؤتمر الوطني العام بإعلان وحدة
سوريا واستقلالها التام، وتلاه عزت أفندي دروزة كاتب المؤتمر على الشعب من
شرفة البلدية:
إن المؤتمر السوري العام الذي يمثل الأمة السورية العربية في مناطقها الثلاث:
الداخلية، والساحلية، والجنوبية (الفلسطينية) تمثيلاً تامًّا يضع في جلسته العامة
المنعقدة نهار الأحد المصادف لتاريخ ١٧ جمادى الثانية سنة ١٣٣٨ بليل الاثنين
التالي الموافق ٧ آذار سنة ١٩٢٠ القرار التالي:
(إن الأمة العربية ذات المجد القديم والمدنية الزاهرة، لم تقم جمعياتها
وأحزابها السياسية في زمن الترك بمواصلة الجهاد السياسي، ولم ترق دم شهدائها
الأحرار، وتثر على حكومة الأتراك إلا طلبًا للاستقلال التام والحياة الحرة،
بصفتها أمةً ذات وجود مستقل وقومية خاصة، لها الحق في أن تحكم نفسها بنفسها
أسوةً بالشعوب الأخرى التي لا تزيد عنها مدنيةً ورقيًّا، وقد اشتركت في الحرب
مع الحلفاء استنادًا على ما جهروا به من الوعود الخاصة والعامة في مجالسهم
الرسمية، وعلى لسان ساستهم وحكوماتهم، وما قطعوه خاصةً من العهود لجلالة
الملك حسين بشأن استقلال البلاد العربية، وما جهر به الدكتور ولسن من المبادئ
السامية القائلة بحرية الشعوب الكبيرة والصغيرة، واستقلالها على مبدأ المساواة
في الحقوق، وإنكار سياسة الفتح والاستعمار، وإلغاء المعاهدات السرية المجحفة
بحقوق الأمم، وإعطاء الشعوب المحررة حق تعيين مصيرها التي وافق عليها
الحلفاء رسميًّا، كما جاء في تصريحات المسيو بريان رئيس وزراء فرنسا بتاريخ
٣ نوفمبر سنة ١٩١٥ أمام مجلس النواب، واللورد غراي وزير خارجية بريطانيا
العظمى في ٢٣ أكتوبر سنة ١٩١١ أمام لجنة الشؤون الخارجية، وتصريح الحلفاء
في جوابهم على مذكرة الدول الوسطى التي رفعها المسيو بريان بواسطة السفير
الأمريكي في باريس , وجواب الحلفاء على مذكرة الرئيس ولسن في ٣٠ كانون
ثاني سنة ١٩١٧، وتصريح مسيو ريبو رئيس نظار فرنسا بتاريخ ٢٢ مارس سنة
١٩١٧ أمام مجلس النواب، وبيان مجلس النواب الإفرنسي ليلة ٤ - ٥ حزيران
١٩١٧، وبيان مجلس الشيوخ في ٦ منه أيضًا، وما جاء في خطاب المستر لويد
جورج في غلاسكو بتاريخ ٢٩ حزيران سنة ١٩١٧.
وقد كان ما قام به جلالة الملك حسين المعظم من الأعمال العظيمة في جانب
الحلفاء هو الباعث الأكبر لتحرير الأمة العربية وإنقاذها من ربقة الحكم التركي،
فخلد لجلالته في التاريخ العربي أجمل الآثار، وأفضلها، وقد أبلى أنجاله الأمراء
الكرام مع الأمة العربية في جانب الحلفاء البلاء الحسن مدة ثلاث سنوات، حاربوا
في خلالها الحرب النظامية التي شهد لهم بها أقطاب السياسة، وقواد الجند من
الحلفاء أنفسهم، وسائر العالم المتمدن، وضحوا العدد الكبير من أبنائهم الذين التحقوا
بالحركة العربية من أنحاء سورية والحجاز والعراق، فضلاً عما قام به السوريون
خاصةً في بلادهم من الأعمال التي سهلت انتصار الحلفاء، وما أصابهم من
الاضطهاد والتغريب والقتل والنفي والتعذيب، تلك الأعمال التي كان لها الأثر
الأكبر في انكسار الترك وجلائهم عن سورية، وانتصار قضية الحلفاء انتصارًا
باهرًا حقق آمال العرب بوجه عام، والسوريين منهم بوجه خاص، فرفعوا الأعلام
العربية، وأسسوا الحكومات الوطنية في أنحاء البلاد قبل أن يدخل الحلفاء هذه
الديار.
ولما قضت التدابير العسكرية بجعل البلاد السورية ثلاث مناطق، أعلن الحلفاء
رسميًّا أن لا مطمع لهم في البلاد، وأنهم لم يقصدوا من مواصلتهم تلك الحروب في
الشرق سوى تحرير الشعوب من سلطة الترك تحريرًا نهائيًّا، وأكدوا أن تقسيم
المناطق لم يكن إلا تدبيرًا عسكريًّا مؤقتًا لا تأثير له في مصير البلاد واستقلالها
ووحدتها، ثم إنهم قرروا بعد ذلك رسميًّا (الفقرة الأولى من المادة الثانية والعشرين
من معاهدة الصلح مع ألمانيا) فاعترفوا فيها باستقلالنا تأييدًا لما وعدوا به من
إعطاء الشعوب حق تقرير مصيرها، وأرسلوا اللجنة الأميركية للوقوف على
رغائب الشعب فتجلت لها هذه الرغبة في طلب الاستقلال التام، والوحدة السورية
التامة.
وقد مضى عام ونصف عام، والبلاد لا تزال رازحة تحت الاحتلال والتقسيم
العسكري الذي ألحق بها أضرارًا عظيمةً، وأوقف سير أعمالها ومصالحها
الاقتصادية والإدارية، وأوقع الريبة في نفوس أبنائها من أمر مصيرها، فاندفع
الشعب في كثير من أنحاء البلاد، وقام بثورات أهلية منتقضًا على الحكم العسكري
الغريب، ومطالبًا باستقلال بلاده ووحدتها.
فنحن أعضاء هذا المؤتمر بصفتنا الممثلين للأمة السورية في جميع أنحاء
القطر السوري تمثيلاً صحيحًا نتكلم بلسانها ونجهر بإراداتها - رأينا وجوب الخروج
من هذا الموقف الحرج، واستنادًا على حقنا الطبيعي الشرعي في الحياة الحرة،
وعلى دماء شهدائنا المراقة، وجهادنا المفيد في هذا السبيل المقدس، وعلى العهود
والوعود والمبادئ السامية السالفة الذكر، وعلى ما شاهدناه كل يوم من عزم الأمة
الثابت الأكيد على المطالبة بحقها ووحدتها، والوصول إلى ذلك بكل الوسائل، قد
أعلنا بإجماع الرأي استقلال بلادنا السورية بحدودها الطبيعية - ومنها فلسطين -
استقلالاً تامًّا لا شائبة فيه، على الأساس النيابي، على أن تراعى أماني اللبنانيين
الوطنية في كيفية إدارة مقاطعتهم لبنان ضمن حدوده المعروفة قبل الحرب بشرط أن
يكون بمعزل عن كل تأثير أجنبي، ورفض مزاعم الصهيونيين في جعل فلسطين
وطن هجرة لهم، وقد اخترنا سمو الأمير فيصل ابن جلالة الملك حسين الذي
واصل جهاده في سبيل تحرير البلاد وجُل الأمة ترى فيه رجلها العظيم - ملكًا
دستوريًّا على سورية بلقب صاحب الجلالة (الملك فيصل الأول) وأعلنا انتهاء
الحكومات الاحتلالية العسكرية الحاضرة في المناطق الثلاث على أن يقوم مقامها
حكومة ملكية نيابية مسئولة تجاه هذا المجلس في كل ما يتعلق بأساس استقلال البلاد
التام إلى أن تتمكن الحكومة من جمع مجلسها النيابي، على أن تدار هذه البلاد على
طريقة اللامركزية.
ولما كانت الثورة العربية قد قامت لتحرير الشعب العربي من حكم الترك،
وكانت الأسباب المستند إليها إعلان استقلال سورية هي التي يستند إليها في إعلان
استقلال القطر العراقي، وبما أن بين القطرين صلات وروابط تاريخية ولغوية
واقتصادية وجنسية، وكل واحد من القطرين لا يستغني عن الآخر - فنحن نطلب
استقلال القطر العراقي استقلالاً تامًّا على أن يتكون بين القطرين الشقيقين اتحاد
سياسي اقتصادي.
هذا، وإننا باسم الأمة السورية التي أنابتنا عنها نحتفظ بصداقة الحلفاء الكرام
محترمين مصالحهم ومصالح جميع الدول كل الاحترام، وإن لنا الثقة التامة بأن
يتلقى الحلفاء الكرام، وسائر الدول المتمدنة عملنا هذا المستند إلى الحق الشرعي
والطبيعي في الحياة بما نتحققه فيهم من نبالة القصد وشرف الغاية، فيعترفوا بهذا
الاستقلال ويُجلوا جنودهم عن المنطقتين الغربية والجنوبية، فيقوم الجند
الوطني والإدارة الوطنية بحفظ النظام والإدارة فيهما، مع المحافظة على الصداقة
المتبادلة حتى تتمكن الأمة السورية العربية من الوصول إلى غاية الرقي، وتكون
عضوًا عاملاً في العالم المتمدن، وعلى الحكومات السورية التي تتألف استنادًا على
هذا الأساس تنفيذ هذا القرار.
***
إعلان استقلال العراق واتحاده بسورية
انتخاب جلالة الملك عبد الله ملكًا عليه وسمو الأمير زايد نائبًا للملك فيه
هذا هو نص القرار الذي وضعه المؤتمر العراقي العام بإعلان استقلال العراق
واتحاده بسورية سياسيًّا واقتصاديًّا، وقد تُلِيَ هذا القرار على الشعب السوري
من شرفة البلدية يوم إعلان استقلال سورية، كما تقدم:
قرر المؤتمر العربي العراقي العام الذي يمثل الشعب العراقي تمثيلاً قانونيًّا في
جلسته المنعقدة في دمشق الشام بتاريخ ٨ آذار ١٩٢٠ و١٨ جمادى الأولى سنة
١٣٣٨ إعلان القرار الآتي:
باسم الشعب العربي العراقي
خاضت الأمة العربية غمار الحرب الماضية في جانب الحلفاء لرفع نير
الأجانب عن عاتقها، واسترجاع سالف مجدها، واستئناف مهمتها الطبيعية في
تمدين الشرق، وتحقيق آمالها القومية بالوحدة والاستقلال التام أسوةً بغيرها من
الشعوب التي نالت استقلالها، وهي دونها حضارةً ورقيًّا، وكان الحلفاء الكرام قد
قطعوا لها العهود على الأخذ بنصرتها في هذا السبيل، وأعلنوا بلسان رؤساء
حكوماتهم ومجالس نوابهم أن لا غاية لهم من الحرب إلا استقلال الشعوب، وترك
الخيار لها في بت مصيرها وتعيين شكل حكوماتها، فأبرمت بريطانية العظمى مع
جلالة الملك الحسين تلك المعاهدة المعروفة التي اعترفت فيها باستقلال العرب من
جبال طوروس وشمالي ولاية الموصل إلى خليج فارس والأوقيانوس الهندي
والبحر الأحمر. وأيد الرئيس ولسن ذلك بما أعلنه من المبادئ السامية التي وافق
عليها الحلفاء قاطبةً، واتخذوها أساسًا للصلح الدائم، كما جاء في بيان اللورد غراي
وزير خارجية إنكلترة العام أمام لجنة الأمور الخارجية في ٢٣ تشرين الأول ١٩١٦،
وتصريح المسيو بريبان رئيس وزراء فرنسة في ٣ تشرين الثاني ١٩١٥، وردود
الحلفاء على مذكرة الدول الوسطى التي أرسلت على يد السفير الأميركي في باريس
وجوابهم على مذكرة الرئيس ولسن في ٢٢ أيار ١٩١٧، وبيان مجلس النواب
الفرنسي في ٥ حزيران ١٩١٧، وبيان مجلس الشيوخ في ٦ منه، وتصريح
المستر لويد جورج في غلاسكو في ٩ حزيران ١٩١٧، وما شاكل ذلك من البيانات
القائلة بتحرير الشعوب الكبيرة والصغيرة، واستقلالها وترك الخيار لها في بت
مصيرها، وإلغاء المعاهدات السرية المجحفة بحقوقها.
وقد كان لجلالة الملك الحسين الأول وأنجاله أصحاب السمو الأمراء العظام
الفضل الأكبر في تحرير الأمة العربية وإنقاذها من نير العبودية والذل
وإحراز النصر المشترك على الأعداء في الشرق، فأبلوا في الحرب أحسن بلاء،
وقادوا الأمة من نصر إلى نصر ثلاث سنوات متواصلةً أراقوا فيها دماء زهرة أبناء
العراق وسورية والحجاز، وكانوا موضع إعجاب الحلفاء والأعداء على
السواء، ذلك فضلاً عما تحملته الأمة في الأقطار العربية المختلفة من المصائب
والأهوال، وما قامت به من جليل الأعمال تأييدًا لقضيتها، وانتصارًا لجلالة الملك
وحلفائه الكرام.
وقد أسفر هذا الجهد المشترك المتواصل عن اندحار الأعداء، وجلائهم عن
العراق، ودخول الجيوش البريطانية إليه بصفة حلفاء ومحررين، فأعلنوا حينئذ
أن لا مطمع لهم في البلاد، ولا غاية إلا استقلال الأمة، وترك الخيار لها في بت
مصيرها وتعيين شكل حكومتها.
على أن الحرب العظمى قد وضعت أوزارها منذ نحو عام ونصف عام،
والبلاد لا تزال تئن تحت رزء الاحتلال الأجنبي الذي ألحق بها أضرارًا جسيمةً
ماديةً وأدبيةً، وأوقف سير أعمالها ومصالحها الاقتصادية والإدارية بشكل كاد
يزلزل موقعها السياسي فعيل صبر الشعب من هذه الحال، وانتقض في أماكن
مختلفة على الحكم العسكري الأجنبي مطالبًا باستقلاله التام.
فنحن أعضاء هذا المؤتمر الذي يمثل الشعب العربي العراقي تمثيلاً قانونيًّا
صحيحًا رأينا الآن أن نجهر بإرادته، ونخرج البلاد من هذا الموقف الحرج،
والحال المبهم المضطرب، فاستنادًا إلى حق الأمة الطبيعي بالحياة الحرة والاستقلال
التام، وإلى المبادئ السامية التي أعلنها الحلفاء العظام أكثر من سبعين مرةً في
خلال الحرب الماضية، وإلى الرغائب التي أعربت عنها الأمة العربية العراقية في
٦ ربيع ثاني سنة ١٣٣٧ بوثائق رسمية وقعها الأمراء والرؤساء والزعماء
والمفكرون، وسائر طبقات الشعب، وإلى ما شاهدناه، ونشاهده كل يوم من عزم
العرب العراقيين على نيل استقلالهم التام، والتوسل بكل الوسائل الممكنة التي
تؤدي إليه، وبصفتنا ممثلي الشعب المكلفين بالإعراب عن إرادته - أعلنا الآن بإجماع
الآراء استقلال البلاد العراقية المسلوخة عن تركيا بحدودها المعروفة من شمالي
ولاية الموصل إلى خليج فارس استقلالاً تامًّا لا شائبة فيه، وأيدنا استقلال سوريا
التام، وأعلنا اتحاد العراق بها اتحادًا سياسيًّا واقتصاديًّا، ونادينا بحضرة صاحب
السمو الملكي الأمير عبد الله ملكًا دستوريًّا بلقب صاحب الجلالة ملك العراق،
وعهدنا في نيابة الملك إلى صاحب السمو الملكي الأمير زايد المعظم، وأعلنا انتهاء
الحكم الاحتلالي العسكري الحاضر، على أن تقوم مقامه حكومة وطنية مسئولة أمام
الشعب.
وإننا باسم الأمة العربية العراقية التي أنابتنا عنها وعهدت إلينا بتقرير
مصيرها، نعلن محافظتنا على صداقة الحلفاء الكرام، وعزمنا على احترام مصالحهم
ومصالح جميع الدول الأجنبية في بلادنا راجين منهم أن يعترفوا بهذا الاستقلال،
ويجلوا عن بلادنا العراقية، فيحل محلهم فيها الجند الوطني والإدارة الوطنية،
فتتمكن دولتنا حينئذ من أن تكون عاملاً من عوامل الرقي في العالم المتمدن.
هذا وإن الحكومة العراقية التي تتشكل عاجلاً مكلفة بتنفيذ قرارنا هذا.
تحريرًا في ٨ آذار سنة ١٩٢٠ و١٨ جمادى الأولى سنة ١٣٣٨.