اتفق لي أنني عندما زرت في العيد صاحب الفضيلة الأستاذ شيخ الجامع الأزهر المعظم حدثته بالجمعيات الدينية الأوربية، لا سيما الفرنسوية كالجزويت والفرير، وذكرت له أولاً ما كان من معاداة رجال الدين المسيحي للعلم في العصور التي يسمونها المظلمة، وكيف انقلب الحال بعدما ظفر رجال العلم، وسُلبت السلطة السياسية من البابا، فصارت أَزِمَّة العلوم بأيدي الجمعيات الدينية، حتى إن الجزويت الذين هم أشد الفرق تعصبًا للدين هم الذين غيَّروا نظام التعليم في أوربا فارتقى بسعيهم إلى الدرجة التي هو فيها، وذكرت لفضيلته ثروة جمعية الجزويت ومسالكها في التعليم الديني والدنيوي، وأن غايتها هي وأمثالها إرجاع السلطة السياسية لرجال الدين كما كانت، وأنها تعلم كما يعلم كل بصير بأحوال الكون أنه لا يمكن أن يكون مثل هذا الانقلاب إلا بالعلوم العصرية والثروة المالية التي هي حليفة العلم، وانتقلت من هذا إلى بيان كون الديانة المسيحية ليست ديانة سلطة بخلاف الديانة الإسلامية التي يجب فيها أن يكون الخليفة فيمن دونه من الحكام عالمين بالدين في كلام طويل نتيجته أن حفظ الدين الإسلامي وحفظ كرامة أهله وإعادة سلطته يحتاج فيه إلى العلوم الكونية والجمعيات المالية، وأن هذا ما يدعو إليه المنار. لم تمض على حديثنا أيام حتى جاءتنا البرقيات، ثم الجرائد بخبر معارضة الحكومة الفرنسوية للجمعيات الدينية ورجال الدين عامة، واتهامها إياهم بالسياسة وعداوة الحكومة الجمهورية، والسعي التمهيدي في نكث فتلها وحل عراها، وقد اقترحت الحكومة على مجلس البرلمان أن يصدق على قانون قدمته له، ملخصه على ما في رسالة المؤيد الأغر: إنه يجب على كل جمعية دينية أن تعرض قانونها على الحكومة، وتأخذ منها إجازة رسمية وإلا فإنها تنحل وتبطل، وإنه لا يجوز لأعضاء الجمعيات التي تنحل أن يزاولوا صناعة التعليم مطلقًا، وإِنْ في مدارس الجمعيات المأذونة. وإن الحكومة تستولي على ما تملك الجمعية المنحلة من عقار ونحوه وتبيعه، وتنشئ بثمنه صندوق إعانة لعملة الشيوخ والمتقاعدين، وقد قدرت الحكومة قيمة ما للجمعيات غير المأذونة من ذلك بمليار فرنك (ألف مليون فرنك) فهاج ذلك الاشتراكيين، وطفقوا يقولون: إن من الجناية على الأمة أن يحتكر صنف من الناس هذا المال الكثير، ويكنزه ويحول بين الناس وبين استثماره والانتفاع به. وقد صدَّق المجلس على هذا القانون بعد مناقشات أثبت فيها الموافقون للمعارضين - وهم الأقل - أن الرهبان يعلّمون الشعب في مدارسهم وكنائسهم أن الحكومة الجمهورية حكومة فساد واختلاس وقرارة أقذار، وأنه يجب تقويض أساسها، ومن الشواهد التي أوردها الباحثون على ذلك أن الموسيو لايك أظهر أن الكتب التي يتعلم بها تلامذة المدارس الدينية تحرف الكلم بما تقلب به الحقائق ليوافق مشربها، ومنها أن الموسيو برجو لما كان رئيسًا لِلَجْنَةِ جوائز تلامذة المدارس في المعرض أرادوا منح الجائزة الكبرى لأكثر التلامذة مهارة، فوجدوا أن الذين يستحقونها هم تلامذة مدارس الفرير؛ ولكنهم وجدوا في كتاباتهم دلائل كثيرة على بغضهم للحكومة الجمهورية ونظاماتها، واعتبارهم من يخالفهم في المذهب من سائر الناس أعداء لهم، فلذلك حُرم من هذه الجائزة تلامذتهم في أوربا، وأعطيت لتلامذتهم في الشرق؛ لأنه لم يوجد في كتاباتهم مثل ذلك، ومنها أنهم يعلِّمون النساء في أوقات الاعتراف تعليمًا مخلاًّ بالآداب؛ كالكذب على الزوج لإخفاء ما يأتينه من البهتان بين أيديهن وأرجلهن، كأن تقول المرأة لزوجها: ما زنيت. وتنوي في نفسها تتمة للقول مثل: لأقول لك، وتقول: ما سرقت، وتنوي: قبل ولادتي أو نحو ذلك، إلى غير ذلك من الشواهد. وقد تقرر الآن أن تعليم جميع الجمعيات الدينية لا بد أن يكون تحت مراقبة الحكومة، ولا شك أن خوف الحكومة في محله، وأن هذه الجمعيات تنوي الانقلاب الذي حذرته الحكومة، وهي سائرة إليه من طريقته المثلى، وهي طريقة التربية والتعليم. فليعتبر رجال الشرق عامة وعلماء المسلمين خاصة الذين فقدوا كل شيء وما بقي عندهم إلا حثالة ما أُلِّف من قبلهم من الكتب يتلهون أو يتعيشون بالبحث في أساليبها وترديد ألفاظها، ولا يخطر على بالهم السعي في دوامها وحفظ كرامة أهلها فضلاً عن السعي بالارتقاء وإعادة أحكام الدين ومجده السالف، ومن ينبههم على ذلك يتخذونه عدوًّا ويمضغون لحمه بالغيبة ويسلطون عليه عقارب السعاية؛ وإنما يبحثون عن حتفهم بظلفهم، فحسبنا الله ونعم الوكيل.