للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تتمة الخطبة الأولى
من خطبنا الإسلامية في الديار السورية
(٢)

تابع لما نشر في (ص ٦٤١ ج ٩ م ١١)

الإسلام هو الذي هدى المسلمين إلى العلم، وكانت عنايتهم بالعلوم تنمو بنمو
سلطانهم وقوة شوكتهم، ثم دالت دولة العلم، ودولة السيادة والحكم، وضَعُفَ الدين
مع ضعف العلوم العقلية، وقام الاستبداد يحارب العلم ويضطهده، فإن الحاكم
المستبد يرى من مصلحته أن تكون الأمة جاهلة ذليلةً، إذ الاستبداد في الأمة العالمة
بحقوقها أمر عسير غير يسير. قال حكيمنا السيد جمال الدين: العاقل لا يظلم ولا
سِيَّمَا إذا كان أمة. فهذا سبب ما كنتم تقاسون من محاربة الحكومة التي سقطت منذ
عهد قريب للعلم، واضطهادها للمتهمين به وهو عندها أشد الجرائم! ! !
أتى على المسلمين حين من الدهر وهم لا يجارون أحدًا من الأمم في العلوم
والفنون، وقد ذاقوا مرارة ذلك ورأوا سوء عاقبته في أنفسهم ودولتهم، فصاروا
يفتنون من كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون، كما قال تعالى في
المنافقين: تنقص بلادهم من أطرافها وتسقط في أيدي الأجانب ولاية بعد ولاية بل
مملكة بعد مملكة وهم لا يهتدون إلى سبب ذلك، ولا إلى طريق تلافيه، بل يعتمدون
ويتكلون على ما لا يتكل عليه من كرامات الأولياء ومدد الأموات! ولم يجعل الله
ذلك سببًا للنصر، بل أمر بإعداد ما يستطاع من القوة، حتى في زمن النبي صلى
الله عليه وسلم المؤيد بالآيات الإلهية.
أذكر لكم من الشواهد على ذلك ما يُؤْثَرُ عن أهل بخارى: فإنهم أُنْذِرُوا هجمة
روسيا عليهم، فلم يعدوا لها ما يستطيعون من قوة، بل هزِئوا بذلك وسخروا،
وقالوا إن بلادنا في حماية شاه نقشبند! (هو الولي الذي تعزى إليه الطريقة
النقشبندية) فلما زحف عليهم جيش الروس، لم يملكوا من نجدة هذا الولي لهم
شيئًا، بل انقلبوا على أعقابهم خاسرين، وخسروا استقلالهم وما كانوا معتبرين.
فيا أيها الناس تأملوا وتدبروا: إذا تركت الأمة أن تعد لأعدائها ما تستطيع من
قوة، كما أمر الله تعالى وكما تقتضي طبيعة الاجتماع، واتكلت في حياتها السياسية
والاجتماعية على الأموات، ألا تكون جديرةً بالموت دون الحياة؟ بلى، وهذه هي
حالنا في هذه القرون الأخيرة، ولكن الله تعالى وعد بأن يظهر هذا الدين، وأن لا
يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، ولذلك سخر لنا من
المجددين من يعلمنا كيف نحفظ شرف الإسلام، ونكون أعزاءَ بين الأنام.
ظهر بين المسلمين أقوام تعلموا العلوم الأوربية وعرفوا أحوال العالم، فرأوا
أن جميع الأمم تقوى والمسلمين يضعفون، ودول النصرانية والوثنية تترقى وتعز،
ودول الإسلام تتدلى وتذل، وبحثوا في سبب ذلك فرأوا أن المسلمين مؤلفون من كل
جنس، ومتبوئون لكل أرض، فلا يمكن أن يكون سبب ضعفهم في كل قطر عدم
استعداد جنسهم، ولا شيء يرجع إلى طبيعة أرضهم، ولم يروا سببًا مشتركًا بينهم
لا يشاركهم فيه غيرهم، إلا تقاليد دينهم، فقالوا - كما قال بعض أساتذتهم من
الإفرنج -: إن دين المسلمين هو سبب انحطاطهم ولا مطمع لهم في الارتقاء إلا
بتركه والأخذ بما عليه أوربا! ! وعلى هذا الرأي الفاسد كثير من نابتة الترك
والهنود والمصريين والتونسيين.
فهذا صنف واقف على طرف مقابل للطرف الذي عليه السواد الأعظم الذي
يمقت العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية التي عليها مدار العمران، والصنفان
يتجاذبان سائر المسلمين، ذاك يدعوهم إلى دنيا بغير دين، وذاك يمسكهم ليبقوا على
ما هم عليه، وما هم بباقين.
بين هذين قامت طائفة معتدلة وقفت موقف الوسط بين الفريقين، فالتفتت إلى
هؤلاء الذين يريدون أن يبقى المسلمون على ما هم عليه حرصًا على دينهم، وقالت
لهم: إن نيتكم صالحة ولكنكم تنكبتم الطريق لتعليم الدين وحفظه، حتى صار بين
أمتكم وبين هذه الكتب الكلامية والفقهية مراحل كثيرة، فلا هم يطلبونها ولا أنتم
قادرون على حملهم على تعلمها والأخذ بما فيها، فيجب أن تبحثوا معنا عن طريق
آخر لتعليم الدين بسهولة تليق بفطرة الناس في أفرادهم وجمعياتهم، كما أخطأتم في
ظنكم أن العلوم التي تبنى عليها الأعمال تنافي الدين، فنفرتم المسلمين عما به قوام
أمتهم ودولتهم.
والتفتت إلى أولئك الذين يريدون الدنيا بترك الدين، فقالت لهم: إن قصدكم
إلى تقوية الأمة والدولة حسن ولكنكم تبنون من جهة وتهدمون من جهة، فيقلّ نفعكم
فيما تبنون لعدم الثقة بكم، ويعظم ضرركم بما تهدمون من أساس التقوى والفضيلة
مع التقاليد والبدع القبيحة.
هذه الطائفة هي التي تدعو إلى حقيقة الإسلام الذي يجمع لأهله بين مصالح
الدنيا والآخرة ومطالب الروح والجسد. وأول من دعا إلى ذلك في بلادنا العربية،
السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى. طَرَقَ سمْعَ كثير منكم اسمُ هذا الرجل
الذي هز الآفاق هزًّا، ولكن يوجد فيكم من لا يعرف شيئًا من أنبائه الصحيحة،
لكثرة خوض أهل الأهواء فيها، وقد كان مخاطبكم ممن استقرأ أخباره، وتتبع آثاره،
وجمع كثيرًا مما كتبه، وقد علمت من ذلك أنه دعا إلى حقيقة الإسلام وإحياء
القرآن في قلوب الناس، ودعوتهم به إلى ما يحييهم، ويجعلهم أمة عزيزة، ذات
دولة أو دول قوية، ولكنه قد أنفق أكثر أيام عمره في السياسة، لما رأى أن الملوك
يقاومون هذه الدعوة، لأن البلاد التي تحكم بالاستبداد، لا مقام فيها للإصلاح
والاستقلال.
بالله عليكم كيف يرضى الحاكم المستبد بالدعوة إلى هداية القرآن الذي يجعل
أمر المسلمين شورى بينهم، وإنما استبداده عبارة عن جعل أمرهم بيده وحده،
وجعلهم عبيدًا خاضعين له؟ كيف يرضى بأن يكون شأنه في سياستهم كشأن النبي
صلى الله عليه وسلم إذ كان لا يبرم أمرًا من الأمور العامة إلا بعد الشورى، حتى
إنه كان يعمل برأي الجمهور وإن خالف رأيه ورأي بعض كبراء أصحابه، كما فعل
يوم أُحُد؟ ! ! (وذكرنا ملخص الخبر فيها في الخطبة) ألا إن أولئك المستبدين
يحاولون أن تكون رتبتهم فوق رتبة النبي عليه الصلاة والسلام وهم لا يصلحون أن
يكونوا خَدَمَة له، بل يحاولون أن يكونوا آلهة تعبد، يستخفون الأمة ويستعبدونها
بالفعل، وإن وجدوا مجال القول ذا سَعَة صرحوا بما يودعه الاستبداد في نفوسهم،
كما فعل الذي قال: (أنا ربكم الأعلى) .
لذلك أقول لكم عن خبرة وبصيرة: إن الذي دعا السيد جمال الدين إلى
الاشتغال بالسياسة هو اعتقاده أن الدعوة لا تكون إلا حيث تكون الحرية وحكومة
الشورى، ولهذا قام في مصر بتأسيس حزب له نفخ فيه روح حب الحكم الذاتي أو
النيابي، وكان من أعضاء حزبه توفيق باشا ولي العهد للإمارة المصرية يومئذ، وقد
عاهده على أن يجعل لمصر - إذ يصير الأمر إليه - مجلسًا نيابيًّا ويحول الحكومة
بذلك من النوع الاستبدادي المطلق إلى النوع الشوري المقيد، ولكنه لم يكد يستقر
على كرسي الأمر حتى نَفَى السيد جمال الدين من مصر حبًّا في الاستبداد، وتلذذًا
بالاستعباد. ولكن السيد لم يمل ولم ييأس، بل صبر ينتهز الفرص، فجذبته الأيام
إلى بلاد الفرس، فاستأنف فيها العمل لإنشاء حكومة الشورى فنفاه الشاه من البلاد،
ولقي من البلاء في ذلك ما لم يلقه إلا قليل من العباد، ثم قذفت به المقادير إلى
الأستانة، فأحسن السلطان إليه، حتى طمع فيه، ولكنه ما عتم أن يئس منه، حتى
مات هناك غير راض ولا مَرْضِيّ عنه، هكذا قضى حياته في التطويف في البلاد
ولم يتخذ له زوجة ولا جنح إلى شيء من حظوظ الدنيا.
كان للسيد مريدون كثيرون يَرِدُونَ ينبوع معارفه، ولكن لم يصدر أحد منهم
ريان من مشربه، ويثبت على مذهبه، إلا الشيخ محمد عبده، فقد كان هذا الإمام
الجليل تربى تربية دينية صحيحة إلا ما كان من غلوه في العبادة، فقد مكث زمنًا
طويلاً لا يكلم أحدًا، وزمنًا أطول من ذلك الزمن لا ينظر إلا إلى الأرض ولا يهتم
بغير إصلاح نفسه، إلا ما كان من درس يقرؤه لإخوانه المجاورين في الأزهر، ثم
رجع إلى الاعتدال، ولكن لم يفارقه الخشوع ورقة القلب. ولقد دخلت عليه مرة
بيته فرأيته يطالع في السيرة النبوية ودموعه تجري على لحيته، خشوعًا واعتبارًا
بما لقيه - صلى الله عليه وسلم - من الأذى في سبيل ربه، وكان في كل سنة أو
أكثر يعتريه تنبه عصبي من إطالة الفكر في سوء حال المسلمين، حتى همّ في ليلة
من ليالي رمضان أن يطيع هذا الوجدان فينزل إلى جوار الأزبكية حيثُ مجامعُ اللهو
وينادي: أيها المسلمون , ماذا رأيتم في دينكم من العيب حتى تركتموه؟ أخبروني
لعلّي أبين لكم خطأكم. وأرسل إلي مرة يخبرني بأن مرضًا ألم به فمنعه النزول من
عين شمس إلى القاهرة، فجئته فإذا هو في حجرة النوم وإذا بين يديه ثلاثة كتب
مفتوحة ينظر فيها، فقلت له ما هذه الكتب وما هذا المرض؟ فقال هذه كتب من
أصول الفقه أشغل نفسي بمباحثها وعباراتها المعقدة عن القرآن، فقد أطلت الفكر فيه
وفي أحوال المسلمين فحصل لي التنبه العصبي الذي تعرف حتى أثر في ظاهر
جلدي، فإذا أنا وضعت إصبعي على جبهتي أتألم.
اشتغل الأستاذ الإمام بالسياسة زمنًا مع السيد ثم وجد في أواخر عمره حرية في
مصر فترك السياسة واشتغل بالإصلاح الديني والاجتماعي، واشتهر أمره بذلك حتى
عرفه الأقارب والأجانب. أليس من العجب أن يوجد في كُتَّاب فرنسا من يشهد بأن
طريقة الأستاذ الإمام هي الطريقة المثلى لإصلاح حال المسلمين، ويوجد في
المسلمين أنفسهم من يقول بضرر تعاليمه عن جهل وغباوة، أو تقليد للمرجفين عن
بغي وحسد.
نشرت جريدة الأهرام منذ شهرين مقالة مترجمة عن جريدة الطان الفرنسية
الشهيرة جاء فيها: إن المسلمين في تونس ثلاث طبقات (الأولى الجامدة) وهي
التي تحرص على بقاء المسلمين على ما هم عليه، وتنفر من العلوم العصرية
والمدنية الغربية وأهلها هم الأكثرون.
(الثانية المارقة) وهي التي تنكر الدين ولا ترى أن تقف عند حدوده في
شيء، وأهلها هم الأقلون، وهم يخفون مذهبهم هذا لضعفهم، ولا يرجى منهم خير
لأمتهم.
(الثالثة المعتدلة) وهي التي تعمل لترقية المسلمين في العلوم والمدنية مع
المحافظة على دين الإسلام، وهي التي يُرْجَى منها الخير للبلاد التونسية، وأهلها
يتبعون التعاليم التي كان يلقيها في مصر الشيخ محمد عبده، والتي تنشرها بينهم
مجلة المنار. وقد كتب أكثر من واحد من الإفرنج مثل هذا عن مسلمي مصر، وهو
ما كتبه لورد كرومر في تقاريره وتاريخه لمصر.
فهذه طريقتنا أيها الإخوان في الإصلاح. نريد أن نجمع لأمتنا بين مصالح
الدنيا والآخرة، وقد عرف هذا كُتَّاب الإفرنج واعترفوا بفائدته فلا ينبغي للمسلمين
أنفسهم أن يجهلوه!
نحن في حاجة عظيمة إلى العلوم والفنون والصناعات العصرية التي تقوى بها
أمتنا وتعتز بها دولتنا. ولا يكون الخير في ذلك تامًّا إلا إذا أقمنا معه أصول ديننا،
وهي القرآن الحكيم والسنة السنية التي جرى عليها سلفنا الصالح، ولا تنافي بين
الأمرين، فنحن إذا لم نجمع بين مصالح الدنيا وهداية الدين لا تقوم لنا قائمة. فهذه
الطريقة الإصلاحية التي دعانا إليها حكيما الإسلام السيد جمال الدين والشيخ محمد
عبده هي التي يدعو إليها المنار ويناضل عنها، وهو مستعد - بمعونة الله تعالى -
للتوفيق بين العلوم الحقيقية وأصول المدنية الصحيحة، وبين الكتاب والسنة، ومَنْ
اشتبه عليه شيء في ذلك فليكتب إليه به، يفصله له تفصيلاً.
قد انتشرت دعوتنا هذه في جميع الأقطار، حتى أن جماعة من علماء الترك
أنشأوا مجلة إسلامية في الآستانة سمّوها (صراط مستقيم) فكتبوا إلي يطلبون
مجلدات المنار كلها ليستعينوا بها على خدمتهم هذه، فهم على علم بطريقتنا في
الإصلاح على كون المنار كان ممنوعًا عنهم، وقلما يصل إلى الأستانة جزء منه،
فندعو جميع علماء المسلمين هنا وفي كل مكان إلى هذه الطريقة، بل ندعو إليها كل
مسلم {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: ٢) ، وينبغي لكل مسلم أن يكون
له حظ من إصلاح حال أمته في دِينها ودُنياها، فمنهم من يدعو ومنهم من يستجيب
للداعي ومنهم من يساعده بحاله، ومنهم من يساعده بماله، والسلام على من اتبع
الهدى، ورجح العقل على الهوى، اهـ ما كتبه ذلك الأديب من الخطبة مع تصحيح
وتوضيح وزيادة فاتته.
(استدراك) بعد النزول عن المنبر تذكرت ما كنت عازمًا عليه من التنويه
بصديقنا عبد الرحمن أفندي الكواكبي، فذكرت فضله بمساعدة الإصلاح الديني
والاجتماعي بكتابه (سجل جمعية أم القرى) والإصلاح السياسي بكتابه (طبائع
الاستبداد) رحمه الله تعالى وأحسن جزاءه.
((يتبع بمقال تالٍ))