تكفير المقلدين له ورأيه في الردة والكفر الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى، والإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إلى ذلك سبيلاً. هكذا فسّرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن صدق عليه هذا التفسير كان مؤمنًا مسلمًا لا يخرجه من الإسلام إلا تكذيبه لشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الدين عالمًا أنه جاء به غير متأوّل فيه، وما عدا ذلك من مخالفة أحكام الدين بالقول أو الفعل أو الاعتقاد يعد خطأً، وسببه الغالب الجهل ومن الجهل ما يعذر صاحبه فيه كجهل الدقائق والأمور الخفية ومنها ما لا يعذر فيه إلا إذا كان قريب العهد بالإسلام كتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق والقول على الله بغير علم، والحساب على الله تعالى. وقد مضت سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضي الله عنهم بتحامي تكفير أحد ممن يُظْهِر الإسلام ويصلي إلى القبلة وإن ظهرت عليه آيات النفاق، وكانوا يعذرون من أخطأ في شيء من أمر دينه ويتلطفون في تعليمه وما زال أمر المسلمين على هذه السنة حتى ظهر فيها الابتداع وصار لأهله فرق وشيع يدعون إليها ويناضلون دونها، فكان منهم أن كفروا من يخالفونهم فيما انفردوا به، وإن كان المخالفون هم السواد الأعظم الذين نقلوا الدين بالقول والعمل وحافظوا عليه قبل ظهور تلك البدعة. وقد كان من أمر أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه أن قاتل الخوارج المبتدعين وصلى على قتلاهم ولم يكفرهم ببدعتهم، فكان مما امتاز به أهل السنة والجماعة على أهل البدعة والفرقة أن أهل السنة لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة، لأنهم يجمعون الكلمة ويتقون التفرق في الدين لشدة نهي كتاب الله عنه ووعيده لمن يقترفه، ولم تكن السنة مذهبًا ولا مذاهب لبعض المسلمين فيتعصبون لها على غير أهلها، بل كان كبار العلماء كأئمة الفقه الأربعة وشيوخهم من السلف يعذرون كل من خالفهم في اجتهادهم ويصلون معه كما كان يفعل الصحابة - رضي الله عنهم -. ثم حدثت المذاهب في الجماعة المنسوبة إلى السنة فكانوا شيعًا كل شيعة تنتمي إلى إمام من العلماء الذين كانوا على السنة وتتعصب لما نقل عنه وعن أتباعه وكل من انتسب إليه ثم تدرجوا من التعصب لما سموه مذهبهم، ثم إلى التضليل، ثم إلى التكفير لهم وللعلماء والمستقلين إذا خالفوا مذهبهم وهم مع هذا يعترفون بأنهم مقلدون وليس من شأن المقلد أن يبحث في تخطئة أحد؛ لأنه تابع لغيره ولا علم له في نفسه وقد حدث من جراء هذه العصبات فتن كثيرة سودت بها صحائف التاريخ. إن ظهور فتنة التكفير التي أحدثها أهل البدعة في المنتسبين إلى السنة جعل مصابها عامًّا في المسلمين حتى كانت السبب في وقوف حكمة العلم دون بلوغ غايته المرجوة فيهم بل في رجوعه القهقرى؛ لأن الاشتغال به صار محصورًا في تفهم كل جيل بعض كتب الأجيال التي قبله دون أن يكون له حكم مستقل في المسائل ومن لا يكون له حكم لا يكون له علم وهذا هو معنى ما نقل من إجماع سلفنا على أن المقلد لا يسمى عالمًا وعلى إطلاق أهل القرون الأولى لفظ العالم بمعنى المجتهد، ولفظ الجاهل على المقلد وإن قتل الكتب بحثًا وفهمًا، وكيف لا يرجع العلم القهقرى إذا كان من أنعم الله عليهم بالقرائح الذكية والأذهان اللوذعية لا يستطيعون أن يشكروا الله عليها باستعمالها في استنباط مسائل العلوم إما خوفًا من تكفير أناس إياهم إذا هم جاؤوهم بغير ما وقف جهلهم عنده، وإما لاعتقادهم أن ذلك من العبث؛ لأنه لا ينتفع به أحد، وإن هم استعملوا عقولهم والحال ما ذكر فإنها لا تأخذ حظها من الاستقلال، ولا تبلغ الغاية في حلبة السباق، ومن تصباه جمال العلم فجعله عاشقًا مستهترًا، لا يجد له من غرامه مهربًا، تمتع به في خلواته، وحجب محاسنه عن أصدقائه وعداته، فإن اضطر إلى الكلام، لاذ بالكنايات والإشارات والألغاز أصبو إلى الشرق إن كانت منازلها ... في جانب الغرب خوف القيل والقال أقول في الخد خال حين أنعتها ... خوف الوشاة وما في الخد من خال فمتى تستنير عقول عامة المسلمين بمبادئ العلوم التاريخية فتعلم أن أصحاب العمائم من المقلدين الجاهلين، قد اتخذوها عسكرًا لمحاربة العلم والدين بتضليلهم وتكفيرهم للعلماء المستقلين المصحلين، وأنهم بذلك مخالفون لهدي السنة التي كان عليها الأئمة الذين يدعون اتباعهم والانتساب إليهم؛ لأن أولئك الأئمة متفقون على عدم تكفير أحد يشهد بوحدانية الله تعالى وبصدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به عن ربه عز وجل وإن خالف في مباحثه ما هو المشهور عنهم، بل وإن خالف النصوص متأولاً لا جاحدًا، وقد صرح بعض فقهائهم بناءً على ذلك الأصل المجمع عيه عند السلف (عدم تكفير أحد من المسلمين) بأنه إذا وجد منه قول قوي بكفر أحد وقول واحد ضعيف بإيمانه فيجب أن يفتى بهذا القول ويحكم بإيمانه. بعد هذا التمهيد أقول: إن أبا حامد الغزالي رحمه الله تعالى كان من أصحاب تلك اللوذعية والفطانة التي لا يرضى من أوتيها بكفر نعمتها وعدم استعمالها، وإن بدعة التكفير كانت قد انتقلت في زمنه من المبتدعين إلى المنتسبين إلى السنة، وإنه جبن في أول عهده بالاستقلال في العلم عن إظهار ما خالف فيه اجتهاده ما عليه جمهور أهل عصره ثم أظهر بعض ذلك في الإحياء مع المداراة، ونوع من المجاراة، ثم قوي دينه وكمل يقينه فصرح في بعض كتبه المختصرة (كالقسطاس المستقيم) بما لم يصرح بمثله في الإحياء الذي ذم فيه التقليد في مواضع كثيرة، وجرى فيه على تقليد الشافعي في أكثر الأحكام أو جميعها. هاج ذلك منه أصحاب العمائم، وسكنة الأثواب العباعب، وعجزوا عن مناظرته فجردوا عليه سلاح الجهل والابتداع، ورموه بالكفر والإلحاد، كما يفعل أقتالهم وأضرابهم، إلى الآن، فلم يعبأ بجهلهم، ولم يرجع إلى باطلهم، ولا سكت عن إنارة الأذهان، بما وصل إليه من العلم والعرفان، وهكذا كان المصلحون وهكذا يكونون، إلى أن تستنير العامة فتميز بين الأدعياء الجاهلين، فيعود للأمة الإسلامية مجدها، وتطلع بعد الأفول شمس سعدها، والعاقبة للمتقين، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: ٨٨) . فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة كتاب وجيز كتبه في هذه المسألة أبو حامد رحمه الله تعالى جوابًا لمن بلغه تكفير بعض المتعصبين إياه، قال في أوله بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله وآله وأصحابه ما نصه: (أما بعد، فإني رأيتك أيها الأخ المشفق، والصديق المتعصب، موغر الصدر منقسم الفكر، لما قرع سمعك من طعن طائفة من الحسدة على بعض كتبنا المصنفة في أسرار معاملات الدين، وزعمهم أن فيها ما يخالف مذهب الأصحاب المتقدمين، وأن العدول عن مذهب الأشعري، ولو في قيد شبر كفر، ومباينته ولو في شيء نزر ضلال وخسر، فهوّن أيها الأخ المشفق المتعصب على نفسك، لا تضيق به صدرك، وفل من غر بك قليلاً، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} (المزمل: ١٠) واستحقر من لا يحسد ولا يقذف، واستصغر من بالكفر والضلال لا يعرف، فأي داع أكمل وأعقل من سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم وقد قالوا: إنه مجنون من المجانين، وأي كلام أجل وأصدق من كلام رب العالمين، وقد قالوا: إنه أساطير الأولين، وإياك أن تشتغل بخصامهم، وتطمع في إفحامهم، فتطمع في غير مطمع، وتصوت في غير مسمع، أما سمعت ما قيل: كل العداوات قد ترجى مودتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد ولو كان فيه مطمع لأحد من الناس، لما تلي على أجلهم رتبة آيات الياس، أوما سمعت قوله تعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ} (الأنعام: ٣٥) وقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} (الحجر: ١٤-١٥) وقوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} (الأنعام: ٧) وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (الأنعام: ١١١) اهـ. أقول: يريد أبو حامد رحمه الله تعالى أن مثل هؤلاء الشيوخ الحاسدين المتعجبين على تقليدهم للأشعري كمثل أولئك المشركين لا في الشرك والكفر بل في الحسد والتعصب، وجعل همهم كله في إهانة من حسدوه وإظهار أنه على باطل، وعدم توجيه أذهانهم إلى فقه ما هو عليه والنظر في دليله، لتوجيهها إلى مكابرته أو تأويله، وهكذا يفعل أشباههم في الحسد والتعصب اليوم، ندعوهم إلى الكتاب والسنة، ونطالبهم بالآية والحجة، فيأبون إلا النبز بالألقاب، والهجر والسباب، ثم ذكر أبو حامد أن هؤلاء لم يبق فيهم استعداد لمعرفة الحق في الإيمان والكفر وعلل ذلك بقوله: (وأنَّى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم، ومعبودهم سلاطينهم، وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم، وشريعتهم رعونتهم، وإرادتهم جاههم وشهواتهم، وعبادتهم خدمتهم أغنياءهم، وذكرهم وساوسهم، وكنزهم سواسهم، وفكرهم استنباط الحيل لما تقتضيه حشمتهم، فهؤلاء من أين تتميز لهم ظلمة الكفر من ضياء الإيمان؟) ثم ذكر أن جل بضاعتهم في العلم البحث في النجاسة، وما أشبه ذلك مما لا يجلو بصيرة، ولا يطهر سريرة. زلزال المقلدين وشأنهم بعد تلك الفاتحة ذكر أبو حامد فضلاً في حال المقلدين موجهًا الكلام إلى مخاطبه قال: (فصل) فأما أنت إذا أردت أن تنتزع هذه الحسكة من صدرك، وصدر من هو في حالك، ممن لا تحركه غواية الحسود، ولا تقيده عماية التقليد، بل تعطشه إلى الاستبصار لحزازة أشكال، أثارها فكر وهيجها نظر، فخاطب نفسك وصاحبك، وطالبه بحد الكفر؛ فإن زعم أن حد الكفر ما يخالف مذهب الأشعري أو مذهب المعتزلي أومذهب الحنبلي أوغيرهم فاعلم أنه غر بليد، قد قيده التقليد، فهو أعمى، من العميان، فلا تضيع بإصلاحه الزمان، وناهيك حجة في إفحامه، مقابلة دعواه، بدعوى خصومه؛ إذ لا يجد بين نفسه وبين سائر المقلدين المخالفين له فرقًا وفصلاً، ولعل صاحبه يميل من بين سائر المذاهب إلى الأشعري، ويزعم أن مخالفته في كل ورد وصدر كفر من الكفر الجلي، فاسأله من أين ثبت له أن الحق وقف عليه؟ حتى قضى بكفر الباقلاني إذا خالفه في صفة البقاء لله تعالى، وزعم أنه ليس هو وصفًا لله تعالى زائدًا على الذات؟ ولم صار الباقلاني أولى بالكفر بمخالفته الأشعري من الأشعري بمخالفته الباقلاني؟ ولم صار الحق وقفًا على أحدهما دون الثاني، أكان ذلك لأجل السبق في الزمان؟ فقد سبق الأشعري غيره من المعتزلة فليكن الحق للسابق عليه، أم لأجل التفاوت في الفضل والعلم؟ فأي ميزان ومكيال قدَّرَ درجات الفضل حتى لاح له أن لا أفضل في الوجود من متبوعه ومقلده؟ فإن رخص للباقلاني في مخالفته فلم حجر على غيره؟ وما الفرق بين الباقلاني والكرابيسي والقلانسي وغيرهم؟ وما مدرك التخصيص بهذه الرخصة؟ وإن زعم أن خلاف الباقلاني يرجع إلى لفظ لا تحقيق وراءه كما تعسف بتكلفه بعض المتعصبين زاعمًا أنهما جميعًا متوافقان على دوام الوجود، والخلاف في أن ذلك يرجع إلى الذات أو إلى وصف زائد عليه خلاف قريب لا يوجب التشديد؛ فما باله يشدد القول على المعتزلي في نفيه الصفات، وهو معترف بأن الله تعالى عالم محيط بجميع المعلومات، قادر على جميع الممكنات، وإنما يخالف الأشعري في أنه عالم وقادر بالذات أو بصفة زائدة فما الفرق بين الخلافين؟ وأي مطلب أَجَل وأخطر من صفات الحق سبحانه وتعالى في النظر في نفيه وإثباتها؟ فإن قال: إنما أكفر المعتزلي؛ لأنه يزعم أن الذات الواحدة تصدر منها فائدة العلم والقدرة والحياة وهذه صفات مختلفة بالحد والحقيقة، والحقائق المختلفة تستحيل أن توصف بالاتحاد أو تقوم مقامها الذات الواحدة فما باله لا يستبعد من الأشعري قوله: إن الكلام صفة زائدة قائمة بذات الله تعالى، ومع كونه واحد هو توراة وإنجيل وزبور وقرآن وهو أمر ونهي وخبر واستخبار، وهذه حقائق مختلفة وكيف لا وحد الخبر ما يتطرق إليه التصديق والتكذيب ولا يتطرق ذلك إلى الأمر والنهي؟ فكيف تكون حقيقة واحدة يتطرق إليها التصديق والتكذيب ولا يتطرق، فيجتمع النفي والإثبات على شيء واحد فإن تخبط في جواب هذا أو عجز عن كشف الغطاء فيه فاعلم أنه ليس من أهل النظر وإنما هو مقلد، وشرط المقلد أن يسكت ويسكت عنه لأنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج ولو كان أهلاً له كان مستتبعًا تابعًا وإمامًا لا مأمومًا، فإن خاض المقلد في المحاجة فذلك منه فضول، المشتغل به صار كضارب في حديد بارد، وطالب لصلاح الفاسد، وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟! ولعلك إن أنصفت علمت أن مَنْ جعل الحق وقفًا على واحد من النظار بعينه فهو إلى الكفر والتناقض أقرب، أما الكفر؛ فلأنه نزله منزلة النبي المعصوم من الزلل الذي لا يثبت الإيمان إلا بموافقته، ولا يلزم الكفر إلا بمخالفته، وأما التناقض فهو أن كل واحد من النظار يوجب النظر، وأن لا ترى في ذلك إلا ما رأيت وكل ما رأيته حجة، وأي فرق بين من يقول قلدني: في مجرد مذهبي وبين من يقول: قلدني في مذهبي ودليلي جميعا وهل هذا إلا التناقض؟) اهـ. أقول: أيعتبر بهذا من يجلون في هذا العصر أبا حامد ويعبرون عنه بالإمام وحجة الإسلام فيكفون عن الطعن في العلماء المستقلين الذين يدعون الأمة إلى البصيرة في دينها والاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أم يحملهم الحسد على الإصرار على الطعن فيهم وتنفير العامة منهم لذلك اللقب الممقوت عندهم (الاجتهاد) ويوهمونها أن دعاة الكتاب والسنة يمنعونها من اتباع الأئمة، الصواب الذي يمنعها من ذلك أولئك المقلدون الجاهلون الذين لم يتبعوا الأئمة في الاهتداء بالكتاب والسنة ولا قرؤوا كتبهم وإنما يريدون أن تكون العامة وراءهم متبعة لهم والمستقلون لا يدعون أحدًا إلى اتباعهم وتقليدهم في شيء قط، وإنما يدعونهم إلى الرجوع إلى الأصل. (حد الكفر وتعريفه) قال أبو حامد: (فصل) لعلك تشتهي أن تعرف حد الكفر بعد أن تتناقض عليك حدود أصناف المقلدين، فاعلم أن شرح ذلك طويل ومدركه غامض، ولكني أعطيك علامة صحيحة فتطردها وتعكسها لتتخذها مطمح نظرك وترعوي بسببها عن تكفير الفرق وتطويل اللسان في أهل الإسلام وإن اختلفت طرقهم ما داموا متمسكين بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صادقين بها غير مناقضين لها فأقول: (الكفر هو: تكذيب الرسول عليه السلام في شيء مما جاء به. والإيمان تصديقه في جميع ما جاء به - إلى أن قال في إجمال التفريع على هذه التعريف - فكل كافر مكذب للرسول وكل مكذب فهو كافر فهذه هي العلامة المطردة المنعكسة. (فصل) اعلم أن الذي ذكرناه مع ظهوره تحته غور بل تحته كل الغور؛ لأن كل فرقة تكفر مخالفها وتنسبه إلى تكذيب الرسول عليه السلام، فالحنبلي يكفر الأشعري زاعمًا أنه كذب الرسول في إثبات الفوق لله تعالى وفي الاستواء على العرش، والأشعري يكفره زاعمًا أنه شبّه وكذب الرسول في جواز رؤية الله تعالى وفي إثبات العلم والقدرة والصفات له، والمعتزلي يكفر الأشعري زاعمًا أن إثبات الصفات تكفير للقدماء وتكذيب الرسل في التوحيد. ولا ينجيك من هذه الورطة إلا أن تعرف حد التكذيب والتصديق وحقيقتهما فيه فينكشف لك غلوُّ هذه الفرق وإسرافها في تكفير بعضها بعضًا. فأقول: التصديق إنما يتطرق إلى الخبر بل إلى المخبر وحقيقته الاعتراف بوجوه ما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن وجوده إلا أن للوجود خمس مراتب ولأجل الغفلة نسبت كل فرقة مخالفها إلى التكذيب؛ فإن الوجود: ذاتي، وحسي، وخيالي وعقلي، وشبهي. فمن اعترف بوجود ما أخبر الرسول عليه السلام عن وجوده بوجه من هذه الوجوه الخمسة فليس بمكذب على الإطلاق فلنشرح هذه الأصناف الخمسة، ولنذكر أمثالها في التأويلات: أما الوجود الذاتي: فهو الوجود الحقيقي الثابت خارج الحس والعقل ولكن يأخذ الحس والعقل عنه صورة فيسمى أخذه إدراكًا، وهذا كوجود السماوات والأرض والحيوان والنبات وهو ظاهر بل المعروف الذي لا يعرف الأكثرون للوجود معنًى سواه. وأما الوجود الحسي فهو ما يتمثل في القوة الباصرة من العين مما لا وجود له خارج العين فيكون موجودًا في الحس ويختص به الحاس ولا يشاركه غيره، وذلك كما يشاهده النائم بل كما يشاهده المريض المتيقظ؛ إذ قد تتمثل له صورة ولا وجود لها خارج حسه حتى يشاهدها كما يشاهد سائر الموجودات الخارجة عن حسه بل قد تتمثل للأنبياء والأولياء في اليقظة والصحة صور جميلة محاكية لجواهر الملائكة وينتهي إليهم الوحي والإلهام بواسطتها فيتلقون من أمر الغيب في اليقظة ما يتلقاه غيرهم في النوم؛ وذلك لشدة صفاء باطنهم كما قال تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِياًّ} (مريم: ١٧) وكما أنه عليه السلام رأى جبريل كثيرًا، ولكن ما رآه في صورته إلا مرتين، وكان يراه في صور مختلفة يتمثل بها، وكما يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وقد قال: (من رآني في النوم فقد رآني حقًّا فإن الشيطان لا يتمثل بي) ولا تكون رؤيته بمعنى انتقاله من روضة المدينة إلى موضع النائم بل هي على سبيل وجوده في حس النائم فقط، وسبب ذلك وسره طويل، وقد شرحناه في بعض الكتب، فإن كنت لا تصدق به فصدق عينك فإنك تأخذ قبسًا من نار كأنه نقطة، ثم تحركه بسرعة حركة مستقيمة فتراه خطًّا من نار، وتحركه حركة مستديرة فتراه دائرة من نار والدائرة والخط مشاهدان وهما موجودان في حسك لا في الخارج عن حسك؛ لأن الموجود في الخارج هي نقطة في كل حال وإنما تصير خطًّا في أوقات متعاقبة فلا يكون الخط موجودًا في حالة واحدة وهو ثابت في مشاهدتك في حالة واحدة. وأما الوجود الخيالي فهو صورة هذه المحسوسات إذا غابت عن حسك، فإنك تقدر على أن تخترع في خيالك صورة فيل وفرس وإن كنت مغمضًا عينيك حتى كأنك تشاهده وهو موجود بكمال صورته في دماغك لا في الخارج. وأما الوجود العقلي فهو أن يكون للشيء روح وحقيقة ومعنًى فيتلقى العقل مجرد معناه دون أن يثبت صورته في عقل أو حس أو خارج كاليد مثلاً؛ فإن صورتها محسوسة ومتخيلة ولها معنى هو حقيقتها وهي القدرة على البطش، والقدرة على البطش هي اليد العقلية، وللقلم صورة ولكن حقيقته ما تنقش به العلوم وهذا يتلقاه العقل من غير أن يكون مقرونًا بصورة قصب وخشب وغير ذلك من الصور الخيالية والحسية. وأما الوجود الشبهي فهو أن لا يكون نفس الشيء موجودًا لا بصورته ولا بحقيقته لا في الخارج ولا في الحس ولا في الخيال ولا في العقل ولكن يكون الموجود شيئًا آخر يشبهه في خاصة من خواصه وصفة من صفاته وستفهم هذا إذا ذكرت لك مثاله في التأويلات فهذه مراتب وجود الأشياء. (فصل) اسمع الآن أمثلة هذه الدرجات في التأويلات، أما الوجود الذاتي فلا يحتاج إلى مثال وهو الذي يجري على الظاهر ولا يتأول وهو الوجود المطلق الحقيقي، وذلك كإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن العرش والكرسي والسموات السبع فإنه يجري على ظاهره ولا يتأول؛ إذ هذه أجسام موجودة في أنفسها أدركت بالحس والخيال أو لم تدرك. وأما الوجود الحسي فأمثلته في التأويلات كثيرة، واقنع منها بمثالين: أحدهما: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار) فإن من قام عنده البرهان على أن الموت عرض أو عدم عرض، وأن قلب العرض جسمًا مستحيل غير مقدور ينزل الخبر على أن أهل القيامة يشاهدون ذلك ويعتقدون أنه الموت، ويكون ذلك موجودًا في حسهم لا في الخارج ويكون سببًا لحصول اليقين باليأس من الموت بعد ذلك؛ إذ المذبوح ميؤوس منه ومن لم يقم عنده هذا البرهان فعساه يعتقد أن نفس الموت ينقلب كبشًا في ذاته ويذبح. المثال الثاني: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرضت عليَّ الجنة في عرض هذا الحائط) فمن قام عنده البرهان على أن الأجسام لا تتداخل وأن الصغير لا يسع الكبير حمل ذلك على أن نفس الجنة لم تنقل إلى الحائط، لكن تمثل للحس صورتها في الحائط حتى كأنه يشاهدها ولا يمتنع أن يشاهد مثال شيء كبير في جرم صغير كما نشاهد السماء في مرآة صغيرة ويكون ذلك إبصارًا مفارقًا مجرد تخيل صورة الجنة؛ إذ تدرك التفرقة بين أن ترى صورة السماء في المرآة وبين أن تغمض عينيك فتدرك صورة السماء في المرآة على سبيل التخيل. وأما الوجود الخيالي فمثاله قوله صلى الله عليه وسلم: (كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه عباءتان قَطَوْنيَّتان يلبي وتجيبه الجبال، والله تعالى يقول: لبيك يا يونس) ، والظاهر أن هذا إنباء عن تمثيل الصورة في خياله؛ إذ كان وجود هذه الحالة في خياله سابقًا على وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد انعدم ذلك فلم يكن موجودًا في الحالة ولا يبعد أن يقال أيضًا تمثل هذا في حسه حتى صار يشاهده كما يشاهد النائم الصور ولكن قوله: (كأني أنظر) يشعر بأنه لم يكن حقيقة النظر بل كالنظر والغرض التفهيم بالمثال لا عين هذه الصورة. وعلى الجملة فكل ما يتمثل في محل الخيال فيتصور أن يتمثل في محل الإبصار فيكون ذلك مشاهدة وقَلَّ ما يتميز بالبرهان استحالة المشاهدة فيما يتصور فيه التخيل. وأما الوجود العقلي فأمثلته كثيرة فاقنع منها بمثالين: أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم: (آخر من يخرج من النار يعطى من الجنة عشرة أمثال هذه الدنيا) فإن ظاهر هذا يشير إلى أنه عشرة أمثالها بالطول والعرض والمساحة وهو التفاوت الحسي والخيالي ثم قد يتعجب فيقول إن الجنة في السماء كما دلت عليه ظواهر الأخبار فكيف تتسع السماء لعشرة أمثال الدنيا والسماء أيضا من الدنيا؟! وقد يقطع المتأول هذا العجب فيقول: المراد به تفاوت عقلي لا حسي ولا خيالي كما يقول مثلاً هذه الجوهرة أضعاف الفرس؛ أي: في روح المالية. ومعناها المدرك عقلاً دون مساحتها المدركة بالحس والتخيل. المثال الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى خمر طينة آدم بيده أربعين صباحًا) فقد أثبت لله تعالى يدًا، ومن قام عنده البرهان على استحالة يد لله تعالى هي جارحة محسوسة أو متخيلة فإنه يثبت لله سبحانه يدًا روحانية عقلية - أعني أنه يثبت معنى اليد وحقيقتها وروحها دون صورتها - إن روح اليد ومعناها ما به يبطش ويفعل ويعطي ويمنع، والله تعالى يعطي ويمنع بواسطة ملائكته كما قال عليه السلام: (أول ما خلق الله العقل فقال: بك أعطي وبك أمنع) ولا يمكن أن يكون المراد بذلك العقل عرضًا كما يعتقده المتكلمون؛ إذ لا يمكن أن يكون العرض أول مخلوق بل يكون عبارة عن ذات ملك من الملائكة يسمى عقلاً من حيث يعقل الأشياء بحوهره وذاته من غير حاجة إلى تعلم وربما يسمى قلما باعتبار أنه تنقش به حقائق العلوم في ألواح قلوب الأنبياء والأولياء وسائر الملائكة وحيًا وإلهامًا فإنه قد ورد في حديث آخر أن: (أول ما خلق الله تعالى القلم) فإن لم يرجع ذلك إلى العقل تناقض الحديثان ويجوز أن يكون لشيء واحد أسماء كثيرة باعتبارات مختلفة فيسمى عقلاً باعتبار ذاته، ولكن باعتبار نسبته إلى الله تعالى في كونه واسطة بينه وبين الخلق، وقلمًا باعتبار إضافته إلى ما يصدر منه من نقش العلوم بالإلهام والوحي، كما يسمى جبريل روحًا باعتبار ذاته وأمينًا باعتبار ما أودع من الأسرار و (ذا مُرَّة) باعتبار قدرته، و (شديد القوى) باعتبار كمال قوته و (مكينا عند ذي العرش) باعتبار قرب منزلته، ومطاعًا باعتبار كونه متبوعًا في حق بعض الملائكة. وهذا القائل يكون قد أثبت قلمًا ويدًا عقليًّا لا حسيًّا وخياليًّا وكذلك من ذهب إلى أن اليد عبارة عن صفة لله تعالى، إما القدرة أو غيرها كما اختلف فيه المتكلمون. وأما الوجود الشبهي فمثاله: الغضب والشوق والفرح والصبر وغير ذلك مما ورد في حق الله تعالى، فإن الغضب مثلاً حقيقته أنه غليان دم القلب لإرادة التشفي وهذا لا ينفك عن نقصان وألم، فمن قام عنده البرهان على استحالة ثبوت نفس الغضب لله تعالى ثبوتًا ذاتيًّا وحسيًّا وخياليًّا وعقليًّا نزله على ثبوت صفة أخرى يصدر منها ما يصدر من الغضب كإرادة العقاب، والإرادة لا تناسب الغضب في حقيقة ذاته ولكن في صفة من الصفات تقارنها وأثر من الآثار يصد عنها وهو الإيلام. فهذه درجات التأويلات. (فصل) اعلم أن كل من نزل قولاً من أقوال صاحب الشرع على درجة من هذه الدرجات فهو من المصدقين، وإنما التكذيب أن ينفي جميع هذه المعاني ويزعم أن ما قاله لا معنى له وإنما هو كذب محض وغرضه فيما قاله التلبيس أو مصلحة الدنيا وذلك هو الكفر المحض والزندقة. ولا يلزم كفر المؤولين ماداموا يلازمون قانون التأويل كما سنشير إليه. وكيف يلزم الكفر بالتأويل وما من فريق من أهل الإسلام إلا وهو مضطر إليه فأبعد الناس عن التأويل أحمد بن حنبل رحمة الله عليه. وأبعد التأويلات عن الحقيقة وأغربها أن تجعل الكلام مجازًا أو استعارة هو الوجود العقلي والوجود الشبهي، والحنبلي مضطر إليه وقائل به فقد سمعت الثقاة من أئمة الحنابلة ببغداد يقولون: إن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى صرح بتأويل ثلاثة أحاديث فقط: أحدها قوله صلى الله عليه وسلم: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض) والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن) والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: (إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمين) فانظر الآن كيف أوَّل هذا حيث قام البرهان عنده على استحالة ظاهره؛ فيقول اليمين تقبل في العادة تقربًا إلى صاحبها، والحجر الأسود يُقَبَّل أيضًا تقربًا إلى الله تعالى فهو مثل اليمين لا في ذاته ولا في صفات ذاته ولكن في عارض من عوارضه؛ فسمي لذلك يمينًا. وهذا الوجود هو الذي سميناه الوجود الشبهي وهو أبعد وجوه التأويل. فانظر كيف اضطر إليه أبعد الناس عن التأويل وكذلك كما استحال عنده وجود الأصبعين لله تعالى حسًّا؛ إذ من فتش عن صدره لم يشاهد فيه أصبعين فتأوله على روح الأصبعين، وهي الأصبع العقلية الروحانية، أعني أن روح الأصبع ما به يتيسر تقليب الأشياء، وقلب الإنسان بين لمة الملك ولمة الشيطان وبهما يقلب الله تعالى القلوب فكنى بالأصبعين عنهما، وإنما اقتصر أحمد بن حنبل رضي الله عنه على تأويل هذه الأحاديث الثلاثة لأنه لم تظهر عنده الاستحالة إلا في هذا القدر؛ لأنه لم يكن ممعنًا في النظر العقلي، ولو أمعن لظهر له ذلك في الاختصاص بجهة فوق وغيره مما لم يتأوله. والأشعري والمعتزلي لزيادة بحثهما تجاوزا إلى تأويل ظواهر كثيرة، وأقرب الناس إلى الحنابلة في أمور الآخرة الأشعرية وفقهم الله فإنهم قرروا فيها أكثر الظواهر إلا يسيرًا، والمعتزلة أشد منهم توغلاً في التأويلات، وهم مع هذا - أعني الأشعرية - يضطرون أيضًا إلى تأويل أمور كما ذكرناه من قوله: إنه يؤتى بالموت في صورة كبش أملح وكما ورد من وزن الأعمال بالميزان فإن الأشعري أَوَّلَ وزن الأعمال فقال: توزن صحائف الأعمال ويخلق الله فيها أوزانًا بقدر درجات الأعمال، وهذا رد إلى الوجود الشبهي البعيد فإن الصحائف أجسام كتبت فيها رقوم تدل بالاصطلاح على أعمال هي أعراض فليس الموزون إذًا العمل، بل محل نقش يدل بالاصطلاح على العمل، والمعتزلي تأول نفس الميزان وجعله كناية عن سبب به ينكشف لكل واحد مقدار عمله وهو أبعد عن التعسف في التأويل بوزن الصحائف. وليس الغرض تصحيح أحد التأولين بل أن تعلم أن كل فريق وإن بالغ في ملازمة الظواهر فهو مضطر إلى التأويل إلا أن يجاوز الحد في الغباوة والتجاهل فيقول: الحجر الأسود يمين تحقيقيًّا، والموت وإن كان عرضًا فيستحيل فينتقل كبشًا بطريق الانقلاب، والأعمال وإن كانت أعراضًا وقد عدمت فتنتقل إلى الميزان ويكون فيها أعراض هي الثقل. ومن ينتهي إلى هذا الحد من الجهل فقد انخلع من ربقة العقل) اهـ.