للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


علاوة للمقالة

كتبت هذه المقالة في سلخ ذي الحجة سنة ١٣٢٩ في إدارة المؤيد؛ إذ كلفت
ثمة أن أكتب مقالة افتتاحية لعدد المؤيد الذي يطبع في ذلك اليوم، ويصدر في
صبيحة المحرَّم افتتاح سنة ١٣٣٠ أو ليلتها، كتبتها على عجل ومرتبو حروف
المؤيد يأخذون مني كل ورقة قبل أن يجف حبرها ويستعجلونني بما بعدها، فلم
يسمح ضيق الوقت واستعجال العمل بشرح مسألة إحياء التاريخ الهجري الشمسي
والتوسع فيها، لهذا رأيت أن أجعل لها هذه العلاوة الآن، وأن أطبعها على حدتها
وفي المنار.
من اختبر أحوال المسلمين في هذا العصر يرى في أخلاقهم وأحوالهم تناقضًا
عجيبًا إذ يراهم من أشد خلق الله غيرة على دينهم وحرصًا على جامعتهم الإسلامية،
ومن أشد خلق الله تهاونًا وإهمالاً في أمر دينهم، وعدم المبالاة والاكثرات بما يحفظ
جامعتهم ويقوي رابطتهم، وإذا بحث في اختلاف الوجوه بين هذه الأمور المتناقضة
يرى شواهد كثيرة تدل على أن ما ذكرنا من حرص السواد الأعظم وغيرتهم
محصورة في حب استبقاء الموجود، وأما تهاونهم وإهمالهم وعدم مبالاتهم فلا
تنحصر في تركهم السعي لاسترداد ما فقدوا من علم وعمل، ونور وهدى، ومجد
تليد، وسيادة قديمة، بل تتناول مع هذا ضعف الهمة في طلب المجد الطريف،
وعدم العناية في البناء والتجديد.
ولو كان هذا التفصيل الذي يدل عليه الاختبار، ويثبته التمحيص والاعتبار،
عامًّا شاملاً لجميع المعروفين من أهل الرأي والعمل من المسلمين (على قلتهم)
لكان دليلاً على أن المسلمين يموتون موتًا طبيعيًّا، وأن أعداءهم لا يحتاجون إلى
أدنى سعي في الإجهاز عليهم، ومبادرة ما يخشونه من يقظتهم وانتباههم؛ لأن
أخص صفات الأحياء الذين يزدادون حياة وقوة هو أن يطلبوا ما يمد حياتهم وينميها،
وأخص صفات الموجودات المشرفة على الموت والفناء أن تنحل وتنقص يومًا
بعد يوم فتتألم لما ينقص منها، ولا تطمع في زيادة تمد حياتها ولا تطلبها.
نرى بعض الشعوب تحيا بعد موت لتجدد ما كان اندرس من مقوماتها
ومشخصاتها، كاليونان والأرمن على تفرقهم، والقبط على قلتهم، ونرى المسلمين
على كثرتهم، واتصال أقطارهم، قد صاروا طُعمة لكل آكل، ونهبة لكل طامع،
وأكثرهم راضون بسوء ما هم فيه، ومنهم من يطلب تغييره بالانسلاخ من ماضيه،
والاندغام في شعب غريب لا يرتضيه، وهؤلاء هم الذين يسمون أنفسهم المجددين،
وطلاب المجد والحضارة، ومكوني الوطنية، وخالقي الشعور بالحياة المدنية،
والحق أنهم شر من الراضين بما وصلنا إليه من الضعف والخمول؛ لأن هؤلاء
الخاملين قد رضوا بهذه الحالة التي لا نجد لها تفسيرًا إلا أنها مما يسمونه (الموت
صبرًا) وأما المقلدون الذين رضوا بانحلال رابطتهم الملية، وعفاء مقوماتهم
ومشخصاتهم الموروثة، وانتحال جنسية لغوية أو وطنية جديدة، لا اضطلاع لهم
بها، وليسوا إلا مقلدين في انتحالها، فإنما رضوا أن يبخعوا أنفسهم، وينحروا
أمتهم، ويجعلوها غذاء لأعدائهم.
هنالك حزب ثالث وسط بين ذينك الحزبين، وهم حزب الله المفلحون إن شاء
الله، الذين يطلبون المجد الطريف، ليكون متحدًا بالمجد التليد، الذين يريدون
الحياة بمقوماتهم ومشخصاتهم الخاصة بهم، لا بانتحال ما هو من ذلك لغيرهم،
الذين يريدون صقل جوهرهم لتظهر خواصه ومزاياه في أكمل ما يمكن أن يكون
عليه، لا تحويله ولا تمويهه بما ليس منه.
إن ما يُرى من ظواهر الحياة على حزب الجمود إنما هو الذماء الباقي لهم من
الحياة القديمة، وإن ما يرى من أعراض الحياة على حزب التقليد إنما هو صناعي
مستعار من الأمم الغريبة، والذماء لا يلبث أن يزول، والمستعار مهما طال زمنه
مردود، وأما حزب الوسط فهم شهداء على الفريقين، ولكنهم لا يزالون غرباء في
ديارهم، والرجاء كما قلنا متعلق بهم أو محصور فيهم، وهم المخاطَبون بإقناع أهل
الإخلاص بإحياء ما اندرس من السنن: وسن ما يعد من النافع الحسن، عملاً بقول
النبي صلى الله عليه وسلم (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من
عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء) وقد سن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه - ووافقه المسلمون كافة - سنة التأريخ بالهجرة في الحساب القمري،
ثم اشتدت الحاجة إلى إحياء التأريخ بها في الحساب الشمسي، فما لنا لا نستعمل
كِلا التاريخين، وقد هدانا الله تعالى في كتابه ونظام خليقته إلى الحسابين {الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: ٥) .
إننا نرى أهل الملل كافة والنصارى منهم خاصة يحافظون على تواريخهم
الملية، ولا يكادون يستعملون معها غيرها، حتى إننا نراهم ينقلون الشيء عن
غيرهم كالمسلمين ويكون فيه تاريخ بعض الوقائع والحوادث فيحولونه في أثناء
النقل إلى تاريخهم حتى لا يفكر قراء ما يكتبونه أو يقولونه - ولو نقلاً - في غير
ما هو لهم.
بل نرى الملايين من الروم الأرثوذكس لا يتركون ما اعتادوا من الغلط في
تاريخ الميلاد الذي يعبرون عنه بالحساب الشرقي، ونرى القبط يقدمون تاريخهم
الخاص بهم الذي يسمونه تاريخ الشهداء على تاريخ الميلاد العام بين أهل ملتهم،
ولو تركوا تاريخ الشهداء إلى تاريخ المسيح الذي يقولون: إنه رب الشهداء وإلههم
لم يكونوا قد تركوا شيئًا من شئونهم الملية إلى ما ليس منها. فما بالنا نحن المسلمين
نرغب عن تاريخنا الذي هو أجدر جميع التواريخ بالتعميم إلى تواريخ الأغيار من
الروم والإفرنج والقبط وغيرهم؟ إن ديننا يهدينا إلى أن نكون أئمة متبوعين، فلماذا
ذللنا حتى رضينا أن نكون مقلدين تابعين، ونحن نرى الذين جعلناهم أئمة لنا
يسخرون منا ويدعوننا متعصبين.
إلا أن من الذل والخسف الذي سنته الحكومة المصرية ما نراه في كثير من
أوراقها الرسمية وأعداد البيوت والمركبات وغير ذلك من تشريف الكلم والأرقام
الإفرنجية على مثلها العربي، فإما أن تجعل ما يكتب بالإفرنجي هو الأعلى وإما أن
تجعله هو الأيمن، ومن طَمَسَ التفرنج نور بصيرته، أو طبع الذل على قلبه، فعدّ
هذا مما لا يبالى به، ولا يُؤبه له، يقال له إذًا: كيف اهتم به سادتك الإفرنج
ونفذوه في بلادك؟ وأنَّى ينفع القول، ومن هان عليه الذل في الأمر الصغير، لا
يأبى حمله في الأمر الكبير، وقد قلت في المقصورة.
من ساسه الظلم بسوط بأسه ... هان عليه الذل من حيث أتى

إذا أردنا أن نحيا فعلينا أن نهتم بكل ما نحفظ به مقوماتنا ومشخصاتنا الملية
الموروثة، وأن نقتبس كل ما نراه نافعًا من حضارة هذا العصر، بهذه النية وهذا
القصد، وأن نهتم بالصغير والكبير من ذلك على السواء، وأن نجتهد لنكون رءوسًا
لا أذنابًا، وأئمة لا أتباعًا، وما دمنا لا نستغني عن التاريخ الشمسي في معاملتنا
المالية ونحوها، فلا مندوحة لنا عن جعله هجريًّا كالتاريخ القمري في المعاملات
الدينية.
إذ أردنا أن نسنَّ هذه السنة فالطريق قد أشرع، والحساب قد وضع، فقد
صنف أحمد مختار باشا الغازي كتابًا فيه سماه (إصلاح التقويم) وطبع بالعربية
والتركية سنة ١٣٠٧ تكلم فيه عن تواريخ الأمم والشعوب المشهورة وبيَّن وجه
الحاجة إلى العمل بالتاريخ الهجري الشمسي وضع له جدولاً مطولاً بيَّن فيه السنين
الشمسية الهجرية مع المقارنة بينها وبين السنين القمرية والسنين الشمسية الميلادية
من ابتداء السنة الشمسية الهجرية الأولى إلى سنة ١٥٩١ التي توافق آخر سنة
١٦٣٩ القمرية وسنة ٢٢١٢ الميلادية، وقد استحسن أن تسمى الشهور بما هو نص
في الدلالة على المسمى في تحديد الفصول، فالسنة الهجرية الشمسية تبتدئ من أول
الخريف فتسمى شهورها هكذا: الخريف الأول، الخريف الثاني، الخريف الثالث
الشتاء الأول الشتاء الثاني الشتاء الثالث ... إلخ.
وسمَّى الربيع بهارا وهو لفظ تركي - وذكر وجهًا ثانيًا نذكر بقية الشهور به
وهو: أول الربيع، أوسط الربيع، آخر الربيع، أول الصيف، آخر الصيف،
أوسط الصيف. ويمكن أن يقال: الربيع الأدنى، الربيع الأوسط، الربيع الأقصى
وهكذا، ولعل هذا هو الأولى، وأي التعبيرات اختير فكل من سمع اسم الشهر يفهم
معناه من لفظه.
وأخبرني أحمد مختار باشا الغازي في القسطنطينية أنه كتب تقريرًا يطلب فيه
من مجلس الأمة العثمانية العمل بهذا التاريخ وجعله رسميًّا للدولة. ولكن ما دامت
الغلبة في المجلس للمتفرنجين المعروفين، فلا تُرجى إجابة هذا الطلب، إلا أن
تطالب الأمة به من كل ولاية.
وإذا سبق مسلمو مصر إلى استعمال هذا التاريخ والدعوة إليه، فالمرجو أن
يعم انتشاره في أقرب وقت، والله الموفق.