للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


آراء ساسة فرنسا
في سياستها الإسلامية
وإمكان الاتفاق على ما هو خير منها لها وللإنسانية

لقد آن للعالم الإسلامي أن يعلم ما تكيده له دول الاستعمار في دينه ودنياه،
وأن يبذل ما يستطيع من حول وقوة للدفاع عن نفسه من حيث هو أمة واحدة كما
قال الله تعالى، وكل شعب من شعوبه وكل فرد من أفراده كعضو لجسد واحد كما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقله تنظيم الدعاية والمقاطعة العامة
الاقتصادية، وأكبره الثورة العامة المدنية فالدموية (وقد جمعت بينهما الهند) وآن لهذه
الدول أن تعلم أن هذه الشعوب قد تنبهت أو هبَّت من رقادها وشعرت بآلامها، فلم تعد
تطيق ما كانت تسام به من إرهاق واستذلال، فضلاً عما تحاوله هذه الدول من الزيادة
عليه، وأن تعلم مع هذا أنه يوجد في عقلاء المسلمين من يود الاهتداء بالبحث معها
إلى الاتفاق على معاملة مشتركة تكون خيرًا للإنسانية في ترقيها وتوقيها أسباب
الحروب الساحقة الماحقة، وحلاًّ للإشكال يكون جامعًا بين
الممكن من مصلحة المستعمَرين ومصلحتها.
وبهذا القصد نشرنا ما نشرنا في مسألة المغرب الإسلامي وما تفعله فرنسة فيه
لتعلم هي وكل من يقرّوه أننا لا نبغي به التشهير بسياستها تشفيًا منها وتحريضًا
على عداوتها ومقاطعة المسلمين لها، إلا بعد اليأس من إنصافها، وقد سبق لي
السعي لمثل هذا الجمع بين المصلحتين في معاملتها للسوريين في حديث طويل
ألقيته إلى مسيو روبير دوكيه في بيروت (إذ قابلني بالنيابة عن الجنرال غورو في
أوائل مارس سنة ١٩٢٠) فقال - بعد المناقشة الطويلة فيه -: إنه رأي يمكن
تنفيذه وليس بخيال، ولكن يجب درسه وتمحيصه والاتفاق على طريقة تنفيذه بين
الفريقين. ثم حاولت مثل هذا السعي في (جنيف) مع مندوب فرنسة في عصبة
الأمم المتحدة موسيو هانوتو الشهير فلم يتح لي ذلك، وقد فصلت هذا وذاك في
المنار كما يعلم القراء.
ولكن أحرار فرنسة الذين لا يهمهم إلا مصلحتها العامة قلما ينظرون في أمثال
هذه الآراء الحرة؛ فإن تقاليد وزارة الخارجية الفرنسية السياسية الدينية (الأكليركية)
والعسكرية أرسخ من تقاليد العجائز في تقاليدهن الدينية والمنزلية، وقد خرجت
بها عن حد المعقول والمعتاد عند الحكماء والعقلاء الذين يتحرون الاستفادة مما يُنتقد
عليهم. فإن هؤلاء السياسيين إذا رأوا انتقادًا موجهًا إلى دولتهم يدفعونه بغير تأمل
ويعذرون أنفسهم أو يعتذرون عنها بأنه كلام عدو، وقد يكون كلام صديق أو
ناصح لمصلحة له في النصيحة، وقد قال الشاعر العربي الحكيم في ذم الأعداء:
عداتي لهم فضل علىّ ومنّة ... فلا أذهبَ الرحمنُ عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
ولكن رجال السياسة الاستعمارية في فرنسة لا يحبون اجتناب زلاتهم، وإن
عرفوها من أنفسهم وأصدقائهم، وإنما ينكرون ويتأولون كما فعلوا في مسألة البربر.
قد ابتُلي مسلمو الجزائر فتونس فمراكش بالدولة الفرنسية، فكانت سيرتها
فيهم أشد استبدادًا واستعبادًا وظلمًا من استعمار إنجلترة وهولندة أضعافًا مضاعفة وقد
وجد من عقلاء الشعب الفرنسي ومن عقلاء المسلمين من حاولوا إقناع هذه الدولة
بإنصاف هؤلاء المسلمين، ولا يزال يوجد في المسلمين من يحب هذا ويريده إن
كانت هذه الدولة تقدر قدره وتريده.
ولكن، متى تريد وبين يدي أُولي الأمر في عاصمتها عدة مصنفات جديدة قد
عني مصنفوها بإقناعها فيها بأنه لا يمكن خضوع مسلمي إفريقية بالإخلاص لها إلا
إذا ارتدوا عن الإسلام وصاروا نصارى أو ملاحدة، وبأن ردهم عنه ممكن.
فبعضهم يختار فيه إكراههم على النصرانية بالقوة القاهرة كما فعلت إسبانية في
الأندلس، وبعضهم يختار إكراههم على تربية أولادهم وتعليمهم في المدارس
التبشيرية والإلحادية ما يحول بينهم وبين الإسلام ولغته. وسياسة كبارهم بالشدة
والقهر، وإفساد أمرائهم وزعمائهم بالاصطناع والتمكين من الشهوات المفسدة
للأخلاق، والاستعانة بهم على كل ما يريدون من الاستيلاء على ثروة الأمة
وتحويلها عن شريعتها وآدابها.. إلخ.
إن كتاب (الإسلام في المستملكات الفرنسية) الذي ألفه الضابط موسيو
(جول سيكار) أحد الموظفين الفرنسيين في مراكش - يعد معتدلاً بين تلك الكتب التي
تغري فرنسة بإخراج مسلمي إفريقية من دينهم، ولما انتقدناه في مجلد العام الماضي
تعجب قراء المنار من كنود هذه الدولة التي سفك مغاربة المسلمين دماء مئات
الألوف منهم في الدفاع عنها ثم يجدونها تعدهم أعداءً غير مخلصين لها في الباطن،
وتحاول إهلاكهم في الآخرة بالكفر والإلحاد، كما أهلكتهم في الدنيا بالفقر والإذلال،
فكيف لو قرأ هؤلاء تلك الكتب التي تحضها على حرمانهم من كل علم نافع
وإكراههم على ترك دينهم بالقوة كما فعلت إسبانية بسلفهم من مسلمي الأندلس؟
عثرت صحيفة الفتح أخيرًا على نسخة من كتاب (السياسة الصريحة)
للضابط الفرنسي الكابتن أدينو وقد ترجم وطبع بالعربية سنة ١٣٤٧ هـ، فلم تلبث
حكومة الاستعمار أن جمعت نسخه ومنعت نشره؛ لأنه صرح فيه بسياستها السرية
لاعتقاده أنه أنفع لها من الرياء الذي تحاول إخفاءها به، وهو لا بد أن يشف أو
يتمزق فتظهر الحقيقة في وقت غير ملائم.
وقد نشرت الفتح الغراء منه جملاً نختار منها الآن ما نصه:
(أنترك المغرب على ما هو عليه من طول سباته الذي تتوارد عليه جميع
الحوادث السياسية أم لا؟ بلى، ولكن لا نعطيهم من العلم والمعارف إلا ما يكون
لهم كافيًا ليرضوا بمقامنا إلى جانبهم إلى الأبد. هذا والأجدر بفرنسا أن تحترم
مبادئ قوانينها بالمغرب، وذلك أننا كثيرًا ما نقول إننا ما جئنا المغرب إلا لنمدن
أهله ونسعى في ترقيته بدون فتور ولا انقطاع حسب الدرجة التي يكون قابلاً لها
وتوافق فكرة المسلمين. وما نسعى فيه من تكثير عدد المسلمين بمعالجة أمراضهم
أمر يضيِّق لنا الفضاء الرحب المعد هنا لفرنسة.
لا؛ لا نسعى في هذا الأمر أبدًا، وإذا فعلنا وبالغْنا في تعليمهم فإنما نحن
جالبون على أنفسنا خطرًا عظيمًا يقف بوجه مهمتنا هنا.
الإسلام تهديد لفرنسة وخطر عظيم على نفسها؛ لأنه لو انحاز المسلمون عن
جانب فرنسا لكان في ذلك الضرر الكبير على قوتنا.
أليس من الواجب علينا إذن أن نقلل من درجة قوتهم وديانتهم الزاهرة التي
تود صعودًا وانتشارًا؟ وإنا ليشتد خوفنا من اجتماع طوائفهم المختلفة يومًا ما على
كلمة واحدة واتفاقهم عليها.
إلى الغافلين الذين لا يحتاطون لهذه الحالة أقدم كلمتي، وهي أن لا يسعوا في
تحديد شوكة (إرهاف حربة) يصابون بها يومًا ما، ولا خشية لنا في ذلك لأنني ما
عثرت قط في التواريخ على أن فرنسة حاربت إنجلترا لتمنعها من هدم
مستعمراتها [١] وإلا فإني أرغب من أولئك العادلين الذين يودون تقديس عادات الأمة
وحياتها أن لا يقوموا بمحاربة من لم يرضَ بسلطتنا عليه؛ لأن وجودنا بأرض
المغرب هو معلوم لقصد فائدتنا الشخصية من أرضه، وإذا كانت الفائدة هي التي
تقود زمام أمة فكل شيء لديها مباح والحرب أكبر دليل عليه.
وما هي أيضًا حاجتنا بأرض المغرب إذا كنا نسعى لأمر ليس هو بالهين، في
جلب عاقبة ليست بمحمودة النتيجة، أو عملنا لمنافع أمة لا تكون لنا مخلصة الود،
أو لمجرد نفع غيرنا من الأمم. وبعبارة أخرى أقول: إنه لا فائدة لنا فيما نتحمله
في هذا القطر بإضاعة أموالنا وصرفها.
قال لي أحد الضباط في يوم من الأيام: إن تعجب من بقاء بلاد الجزائر
تحت سلطتنا فذلك لسبب انقراض جيل من أجيالها [٢] وصدقًا قال.
وإني لآتي هنا بمقال الأب فوكول تأييدًا للفكر، قال:
لا يكون لكم المغرب ملكًا ما دام فيه المسلمون!
أقول هذا ويقيني بأنني ولو كنت عالمًا بأن المسلمين سيطلعون على مقالي هذا
ما غيرت من لهجته! [٣]
ماذا يطلب منا المسلمون؟ إنهم لا يطلبون منا إلا أن نخبرهم بكل صدق
وحقيقة ليتخذوا احتياطاتهم. وأنا كذلك لا أحب تلك السياسة المموّهة الخادعة
الكذابة التي لا تريد أن تُغضب أحدًا من الناس بحديثها العذب اللين اللهجة مع جميع
الناس، وعند النتيجة يوم يكشف عن حقيقة سرها لا تحترم أحدًا.
خلاف هذه الفكرة أبغي، أود أن نعامل المسلمين بالسياسة الصريحة اللهجة
فنصرح لهم: هل بودنا أن ندعهم سائرين على إثرنا عفوًا من أنفسهم؟ أم
سنرغمهم عليه قوة منا؟ لا نواري عنهم بأن سياستنا غير مرتبطة في شيء مع
حالة الإسلام.
لماذا نقاسم المسلمين الجزائريين حقوقنا؟ ونحمي المغاربة حماية، على
حين نقف مع الأمة التركية قرنًا تجاه قرن وهم منتمون إلى دين واحد؟ [٤] .
إذا تولت أمة مقاليد أمة ثانية - ولو ضعيفة - فإنه لابد من وقوع امتزاج
واندماج فيما بين الفريقين. وفرنسا هنا بالمغرب لا يمكن أن تندمج في الإسلام كما
أن الإسلام لا يقبل منها شيئًا خارجًا عن تقاليده، ولكن غاية الرجاء عندنا أن يكون
المسلمون فيما بعد مظللين بجنسيتها كما عليه البروتستانتيون والإسرائيليون اليوم،
وبهذا يمكن لهم أن يعيشوا معنا جنبًا لجنب [٥] .
أنا لا أتصور كيف يمكن لفرنسا مع المغرب أن يعيشا معًا، وكل منهما على
ملازمة أحواله وعوائده القديمة الممتازة وأفكاره المتباينة. وقد تدوم هذه الحالة إذا
أيدتها القوة، والقوة أمر لابد من اضمحلاله، وستحتاج فرنسة يومًا ما إلى جنود
للمدافعة عنها فماذا يكون عملها يومئذ؟ لماذا لا نحتاط لهذه الأسباب منذ اليوم؟
لكن بقي علينا أن نقول: هل في إمكاننا أن نستولي على قلوب المسلمين
ونجلبها لجانبنا؟ . اهـ.
(المنار)
نشكر لهذا الكاتب صدقه وصراحته اللتين يقل مثلهما في قومه، وهو لم يُجِب
عن سؤاله الأخير؛ لأن الاستفهام فيه إنكاري لا حقيقي، يريد أنه لا سبيل إلى ذلك.
ونحن نقول: إن هذا في الإمكان إذا كانت فرنسة تترك غرور الضباط وإغواء
الأب فوكول وأمثاله من الآباء في سياستها الصليبية، كما تركته في إدارتها
وسياستها الداخلية، وتتبع سياسة الحق والعدل والإنسانية، أو ما جعلته شعارها رياءً
وخداعًا وهو (العدل والمساواة والحرية) ، بأن تترك لهم حريتهم الدينية والأدبية
والاجتماعية، وتساعدهم على عمران البلاد بترقية الزراعة والصناعة والتجارة
بنظام يكفل لها الربح العظيم والثروة الواسعة، وتعقد معهم محالفة عسكرية توجب
عليهم إمدادها بالجند والمال إذا هي اصطلت نار حرب لم تكن فيها معتدية كما
يوجبه عهد عصبة الأمم، والمسلمون أشد أهل الملل وفاءً وصدقًا، وإذا كانوا قد
استبسلوا في دفاعهم عنها في الحرب الأخيرة على شدة إساءتها إليهم في دينهم
ودنياهم فكيف يكون شأنهم معها إذا هي أحسنت إليهم إحسانًا حقيقيًّا لا يرتابون
فيه؟ ! وأما الذين يضربون لها المثل بخروج الهنديين والمصريين على إنجلترة
مع إحسانها في معاملتهم فهم خادعون؛ فإن إنجلترة لم تكن محسنة لهؤلاء بل مسيئة،
وقصارى الأمر أن إساءتها إليهم دون إساءة فرنسة لمسلمي إفريقية، وأما الإحسان
الحقيقي فلا يكفره المسلم وهو يؤمن بقول الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ
الإِحْسَانُ} (الرحمن: ٦٠) .
ثم نذكِّره بأن أهل أمريكة قد أخرجوا الإنجليز من بلادهم بالقوة الحربية وهم
متحدون معهم في اللغة والدين والمذهب وكذا في الجنس الغالب.
إن هذا الضابط يهدد مسلمي المغرب بقوة دولته العسكرية القاهرة التي لا
يعقل في العالم غيرها، ولكن الأمم إذا عرفت نفسها وشعرت بوحدتها تعذرت
سياستها وإدارتها بالقوة العسكرية، وما القوة إلا تهاويل وأراجيف من الوهم تزول
بأول ثورة (تبدأ) بها الأمة على المقاومة كما وقع في بلاد كثيرة وظهرت بوادره
في المغرب الأقصى وكذلك إخضاع المستعمرين للشعوب بالتماثيل الآلية التي
ينصبونها لها باسم سلطان أو ملك أو أمير أو باي أو رئيس، ومن يستخدمونه بأسمائها
من وزير ومدير ومفتٍ وغير ذلك، قد آن لزمنه أن يولي مشيَّعًا باللعن
ولرجاله أن يُنبذوا مَوسومين بالخيانة.