للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شكيب أرسلان


كوارث سورية في سنوات الحرب
من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي
مشاهدات ومجاهدات شاهد عيان هو الأمير شكيب أرسلان

(٦)
ثم لا ينبغي أن ننسى أن لجبل لبنان علةً ثانيةً زادته وبالاً على وبال، وهي
ولوع أهله بتربية التوت، وترفيههم هذه الشجرة ما استطاعوا إليه سبيلاً، وهم
معذورون في ذلك؛ لأن الجبل بضيق أراضيه ووعورتها لا يُلام أهله في اعتمادهم
على التوت الذي منه الحرير، وهذا القليل منه يغني عن الكثير من غيره، ولكن
حال الحرب ليست كحال السلم، فلما نشبت الحرب العامة نسوا أن البحر سيصبح
مسدودًا في وجههم، وأن البر من الداخل ستقل فيه المزروعات بسبب ذهاب الشبان
كلهم إلى العسكرية، وأخذ الجيش للبقر والجِمال، وربما لم ينتظروا أن يكون أمد
الحرب سنوات متعددة، بل ظنوه بضعة أشهر، فلم يعملوا شيئًا من الحيطة لأنفسهم،
وبقوا يعاملون التوت كالأول، وكما لو لم تكن حرب، ويأبون أن يزرعوا ببر
شجره قمحًا أو شعيرًا؛ لئلا يلحق من ذلك ضعف بالشجر، وكذلك بين شجر
الزيتون وغيره من الأشجار، وظنوا في أنفسهم أن الدولة لا بد أن تميرهم من
حوران والشام وحلب وغيرها. وكانوا يقولون: إن السلطان بلاده واسعة؛ فلا
يعجز أن يبعث إلينا بحاجتنا من الحبوب، وفاتهم أن أكثر بلاد السلطان بعيدة عنهم،
وأنه لا يربطها بهم سوى خط حديدي واحد، لا يقدر أن يقوم بنقل مئات الألوف
من العساكر مع مدافعها وأثقالها، وبشحن جميع لوازم الأهالي، وأن رجال
العسكرية في الحرب لا يقدمون شغلاً على شغل الحرب، غفلوا عن هذه الأمور،
وتوهَّموا أحوال الحرب كأحوال السلم، فقتلهم الجهل، وعندي ألوف من الشهود من
أهل الجبل أنني من أول الحرب، حتى من قبل خوض الدولة غمراتها، كنت
أطوف على اللبنانيين وأعظهم وأبصرهم العواقب قائلاً لهم: ازرعوا جميع
أراضيكم، ولا تعفوا، ولا على ما يتخلل منها التوت أو الزيتون، فإن الأهم يتقدم
على المهم، وإني أخشى بشدة ترفيهكم لأشجاركم أن تموتوا جوعًا، والشجر ليس
بأغلى من البشر، فلم يستبينوا النصح إلا ثالث سنة، عندما مستهم اللأْواء،
ورأوا أنفسهم هالكين إن لم يفعلوا، ولكن كان الضعف يومئذٍ قد استولى على كل
شيء، ونضبت أكثر موارد الإنفاق فلم يبقَ من قوة لزرع جميع تلك الأراضي التي
لو زرعوها من أول سنة مع ما ينالها من الري الوافي لجاءت بغلال تحجب عين
الشمس، ولكانت قوة لهم للسنين الشديدة التي جاءت فيما بعد، فأنت ترى أن
الجهل بأحوال الحروب وبعواقبها، والاعتقاد بكوْن الدولة تقدر على كل شيء -
كانا من أسباب هذه المصيبة الكبرى، وكيف تقدر الدولة أن تطعمهم كفايتهم، وقد
عجزت في الآخر عن إطعام جيشها، وكان الجوع من أفعل الأسباب في فشل الدولة
بالحرب، ولقد علم القاصي والداني كيف كانت الألوف تفرُّ من الجيش العثماني في
فلسطين من قلة القوت، وكيف كانوا فيه يقتاتون الحشائش، ويموتون ألوفًا من
سوء التغذية، وكيف كان الولاة بأنفسهم يذهبون إلى جبل الدروز بأيديهم الذهب
الرنَّان الأصفر، يعرضونه على أهله؛ ليأخذوا بدله ما يميرون به العسكر، وكثيرًا
ما كانوا يخفقون في سعيهم، وبقيت الأقوات مدة مديدة ترد على جيش فلسطين من
قونيه من قلب الأناضول، وذلك لخُلُوّ سورية ثم حلب ثم أطنه نفسها مما يكفي
الجيش والأهالي معًا، فالذي يقصد (التجويع) لا بد أن يكون هو شبعان لا جائعًا،
وإلا فلا يكون قصد التجويع، بل يكون أُصيب هو بالجوع، وعجز عن الميرة،
ومَن عجز عن كفاية نفسه فهو عن كفاية غيره أعجز، وربما قيل ما دامت
الأناضول فيها أرزاق، فلماذا بخلت بها الدولة على أهل سورية، والجواب لم يكن
في الأناضول أرزاق تفيض عن حاجة أهلها، بل اشتد الغلاء في كثير من ديار
الأناضول، ووقعت المجاعة في القسم الشرقي منه، ومات مئات ألوف من أهله
جوعًا، وكثير من السوريين الذين كانوا منفيين في الأناضول، ولا سيما في جهات
سيواس وطوقات يشهدون بذلك، فإن قلنا: إن الأتراك أماتوا نصارى لبنان تجويعًا
لمحبتهم فرنسا، فقد مات ألوف مؤلفة من مسلمي سورية من الجوع، أو من
الأمراض الناشئة من فقد الغذاء والدواء (وأكثر الموت الذي وقع في لبنان هو
أيضًا بالأمراض الناشئة عن ذلك، ومات بعض بالجوع رأسًا) ، فهل قتلت الدولة
هؤلاء المسلمين أيضًا لحبهم لفرنسا؟ ، وإن رد بأنها تعمدت قتل هؤلاء لكونهم
عربًا، فهل تتعمد قتل أتراك الأناضول ومهاجري أرضروم ووان وبتليس ... إلخ
وهم أتراك وأكراد وجميع ارتكانها هو عليهم؟ وهل كان هؤلاء الأتراك والأكراد
إلى تلك الدرجة ذائبين في حب فرنسا، حتى قتلتهم الدولة؟ ! وإذا كانت
الموصل - التي هي من أخصب بلاد الله وأوفرها زرعًا وأدرّها ضرعًا - بلغ من
شدتها أثناء الحرب أن أكل الناس فيها لحوم البشر! ، فهل يعجب الإنسان من أن
تمس المجاعة أهل جبل لبنان، الذي أكثره صخور صمَّاء، وأتربة جرداء؟ !
كنا في الآستانة سنة ١٩١٧ و ١٩١٨، وكان كثير من الفقراء فيها يموتون
جوعًا، وهي عاصمة الملك، وكان الأغنياء يوزَّع عليهم الخبز الأسود المجهول
الماهية بمقادير قليلة! ، ولولا فتح ألمانيا وحلفائها بلادَ رومانيا الغنية بالحنطة
والذرة، وجلب الأتراك منها ما نفَّس قليلاً من خناق الآستانة - لم يكن أحد يعلم ماذا
كانت تئول إليه حالة الإعاشة في نفس العاصمة.
مع هذا كله يوجد كثيرون ممن يقرؤون كلامي هذا سيتميَّزون من الغيظ
لاجتهادي في إثبات كون المجاعة في سورية حصلت من حالة الحرب الطبيعية
وبتواليها بضع سنين، وبالحصر البحري المحكم، وأن مثلها وأشد منها قد أصاب
بلادًا أخرى من ممالك الدولة العثمانية ومن غير الممالك العثمانية، مثل: مكدونية
والصرب أو بولونية وروسية، ولولا كثرة الخطوط الحديدية لقلنا النمسا وألمانيا..
إلخ، ويقولون: لماذا أحاول أن أنفي كون الأتراك جوَّعوا أهل لبنان عمدًا
وتصميمًا لمجرد حبهم لفرنسا، ولكون أكثرهم نصارى، فهذه الإشاعة يحبون أن
تبقى سارية ماشية رائجة، وهذا الحجاب يودون لو يبقى دائمًا - على حقيقة الحال-
مسدولاً كُرهًا بالدولة السابقة في سورية، وتحببًا وتقربًا إلى الدول المحتلة.
والجواب أن الحق يجب أن يعلو ولا يُعلَى، وإذا كانوا هم يبغضون الأتراك
فليبغضوهم ما شاءوا، ولكن ليحبوا الحق الذي لا يجوز أن يُجحد بغضًا بزيد، ولا
حبًّا بعمرو. والأتراك لهم سيئات كثيرة، وجمال باشا أتى أعمالاً ذكرناها،
وقبَّحناها، ولكن ذنب التجويع هذا هم أبرياء منه، فإن كان لبعض الناس أغراض
سياسية في ديمومة هذه الإشاعة إما تزلُّفًا إلى الحلفاء، وإما تمهيدًا للعُذر من النفور
من كل حكومة إسلامية ... بدعواهم كون الحكومة العثمانية قتلت بالجوع ألوفًا من
مسيحيي لبنان ... فهذه الأغراض السياسية ليست عندنا، لا بل يجب علينا أن
نبينها، ونشرحها، وننبه إلى خطرها، وما يترتب عليها من مضار التفرقة بين
الأمتين اللتين يجب أن تكونا متحدتين إن أرادتا عمران هذا الوطن، فقد طالعت
مرة مجلة (مراسلات الشرق) - المحررة بالفرنسوية التي ينشرها بباريز هذا
المسمى بالسمنة - فوجدت من جملة تُرَّهاتها أن باخرة مشحونة أرزاقًا جاءت إلى
سورية أثناء الحرب، فأفرغت مشحونها، ووزعه جمال باشا على المسلمين،
وحرم النصارى! ... فالذي تبلغ به قحة الافتراء وهوس التفرقة بين المسلمين
والنصارى - أن يزعم كوْن الباخرة التي وردت من أميركا بأرزاق لأهل السواحل،
ووقفها الإنكليز في الإسكندرية، ولم يسمحوا بوصولها إلى بيروت قد وصلت،
وأفرغت، واستفاد منها المسلمون دون المسيحيين، لا عجب أن يكون هو
وأضرابه مروِّجين لحديث (التجويع) المقصود، ولا غرو أن نكون نحن ممن
يتوخى فضيحة تلك الأضاليل، حتى يزول أثرها السيئ من الأذهان.
إنه سيظهر لك - أيها القارئ مما سيأتي بالدليل القاطع والبرهان الساطع -
أنه لو شاء الحلفاء لأوصلوا الإعانات إلى سواحل سورية، كما أوصلوها إلى ممالك
أخرى عضَّها الجوع بنابه أثناء الحرب، ولوَقوا من الموت أولئك الألوف الذين
ماتوا من مسلمين ونصارى، إن الحلفاء - مع كونهم في حال حرب مع ألمانيا -
أمكنهم أن يتفقوا معها على إعاشة بلجيكا، وتعينت لذلك لجنة مؤلَّفة من متحايدين
أسبانيين وهولنديين، كانت تأتي بالحبوب والأرزاق من أميركا، وتوزعها على
المعوزين في بلجيكا، وعلى كل مَن ينقصه شيء، فلم يمنع وجودهم محاربين
للألمان من أن يتفقوا معهم على إغاثة أمة، أشفقوا أن يمسها الجوع، ولقد ثبت أنهم
أرسلوا إلى البولونيين بإمدادات وافرة وإلى الصربيين وإلى غيرهم، فلو كانوا
يحبون أهل لبنان - كما يدَّعون - لاتفقوا مع الدولة العثمانية وقتئذ، وأغاثوهم ولو
بسداد من عوز، ولأنقذوا تلك الخلائق من الموت، أو لسمحوا على الأقل بتسريب
الإعانة التي أرسلتها أميركا لأجل سورية، والإعانة التي كان البابا ينوي إرسالها
إلى المسيحيين وهم كانوا الحائلين من دونها، أفتكون هذه هي الحقيقة، وتكون
التبعة العظمى في عدم دفع هذه المجاعة عليهم، ونأتي نحن لأغراض في الأنفس،
فنبرِّئهم من جناية هم أنفسهم أدرى بأنهم كانوا فاعليها لأسباب حربية وسياسية قامت
في نفوسهم، ونقول لهم: كلا، إنما أجاعنا الأتراك وأنتم أولاء أحييتمونا، ولكثرة
ما نردد أمامهم هذه الكلمة يبلغ بهم الأمر أن يظنوا كونهم صاروا أحق بالبلاد من
أهلها، وأن يصارحونا بقولهم: لولانا لكنتم جميعًا هلكتم جوعًا، كما رددوا ذلك
مرارًا، وآخر مرة أعلنها الجنرال غورو على مائدة غبطة البطريرك الماروني في
الديمان بدون محاباة.
هذا، ولقد آن لنا أن نستشهد على أسباب هذه المجاعة بكلامِ عظيمٍ، هو
بطريرك الطائفة المارونية من تقرير أرسل به إلى جمال باشا سنة ١٩١٦، وبعث
هذا بصورته مع صور الكتب التي وردته من سائر البطاركة إلى الفاتيكان؛ ليطلع
حضرة البابا عليها، فالبطريرك الحويك يطري الدولة العثمانية إطراءً عظيمًا في
مراحمها ومكارمها، وشخص جمال باشا في إدارته، ويدافع عن أعماله، ويبرِّرها،
ثم يقول ما تعريبه: (لأن أصل التقرير باللغة الفرنساوية) بالحرف.
شهادة بطرك الموارنة للترك وجمال باشا:
(أما ما يوجهونه من التهم بشأن وسائل الضغط والتضييق التي بزعمهم قد
استعملتها الحكومة بحق السوريين ولا سيما الموارنة اللبنانيين كالإجاعة والنفي -
فإننا نجد من العبث الاجتهاد في إبطالها، وإنما نأسف من كوْن هذه الأراجيف
المصطنعة هي عمل بعض ذوي المآرِب؛ ولذلك نعلن عدم موافقتنا لهم، وننتدب
من تلقاء أنفسنا وبكل حرية للدفاع عن الحقيقة المقدسة والعدالة السامية.
إنه كما حصل في جميع الممالك المحاربة قد وقعت عندنا أيضًا نوازل هامة
ومصائب بطبيعة الحال، وذلك مثل الجراد الذي أكل مواسم البلاد، والحصر
البحري، وحجز دول الائتلاف ما يرد باسم السوريين من الحوالات من أميركا،
وغلاء الأسعار، وقلة مواد الرزق الوطنية، وتعذّر إصدار محصول الحرير، فهذه
المحن جاءت كلها دفعة واحدة، وبدون اختيار الحكومة العثمانية، ووضعت البلاد
في مركز ضَنْك، ولكن لحسن الحظ قد تمهدت جميع هذه العقبات بعناية الدولة
الأبوية ومآتيها الخيرية، ولا سيما بالمساعي المتواصلة والتدابير المؤثرة التي كان
يأتيها حضرة صاحب الدولة أحمد جمال باشا قائدنا الشهير ناظر البحرية، وقائد
قواد الفيلق الرابع، الذي كَرَمُ سجيته منقوشٌ على صفحات القلوب، وصدى أعماله
الخيرية (سيرن) مدة أعصر طويلة من أعلى جبل لبنان الشهير، نعم إنه بحق
يعد أهل سورية - ولا سيما المسيحيون منهم - وجود دولته في بلادهم إحسانًا
عظيمًا، ونعمة من الله.
وأما الأسطورة التي معناها أن الموت جوعًا قد فشا في الشعب اللبناني بسبب
الحصر المقصود الذي تجريه الحكومة، فهذا افتراء فظيع، ولقد بينا أسباب ذلك،
كذلك لم تحشد جنود في الجبل لأجل التضييق على أحد من الأهالي، بل بالعكس قد
كان هذا الجند المرابط لأجل الدفاع عن البلاد - ذا فائدة عظيمة في توطيد الأمن
العام، الذي لم يوجد قط في لبنان قبل الحرب كما وُجد الآن، وكانت سيرة هذا
الجند - التي هي مثال الأدب - فوق مدح كل مادح؛ مما اقتضى عرفان الجميل.
كذلك يعزون إلى الحكومة كوْنها تصرفت بشدة بحق أشخاص اتُّهِموا بالخيانة
وقد ثبتت جريمتهم، وتوضَّحت بوثائق رسمية، والذي لا بد من الاعتراف به هو
أن مثل هذه التدابير الشديدة التي لا مناص منها في هذه الأحوال - هي مما يجريه
جميع الممالك المتمدنة (هنا مَثَل لاتيني مذكور بنصه ومعناه:) إن أسمى عدالة
هي سلامة الوطن.
كذلك نرد صريحًا هذه الإشاعة الغريبة، وهي أننا قد أُشْخِصْنا بذاتنا إلى
الديوان الحربي في حلب، نحن الذين لا نزال موضوع الكرامة العظيمة والبر من
قِبَل حكومتنا العزيزة وممثلها قائدنا العظيم.
وبالنهاية بجميع قوة عواطفنا ومن صميم فؤادنا نعلن أنه ليس لنا إلا أمنية
واحدة ودعاء واحد، وهي أن القادر على كل شيء يحرس السلطنة السنية،
ويقودها من نصر إلى نصر إلى الظفر النهائي، ونضم إلى هذا الدعاء التأكيد
باسمنا وباسم جميع الموارنة بالتخصيص - أنه إن كانت فرنسا يومًا من الأيام أو
عدوة أخرى أية كانت تجسر أن تتعرض لهذه البلاد من أجزاء سلطنتنا، فلتعلم أننا
بأجمعنا مستعدون للقتال في صفوف حكومتنا العزيزة، ولبذل جميع مجاهيدنا،
ولتحمل كل مناداة طوعًا واختيارًا، ولنسفك دماءنا إن مست الحاجة إلى آخر نقطة) .
... ... ... ... ... إلياس بطرس الحويك البطريرك الماروني
وربما قيل إن هذا التقرير فيه استطراد إلى غير مسألة المجاعة، فما معنى
نشره كله، والجواب أننا لم ننشره كله لطوله، بل نشرنا القسم الأخير منه لما فيه
من جلاء الشبهات، ولكوْن الكلام آخِذًا بعضه برقاب بعض، فلا يحسن اقتضابه،
وإن شاء القراء ننشره من أوله إلى آخره بالحرف؛ لأنه وثيقة تاريخية عظيمة
القيمة، كما أننا بعد شهادة البطريرك الماروني هذه - ننشر الآن تقرير غبطة
بطريرك الروم الأرثوذكس المتقدم إلى جمال باشا أيضًا مع كتاب خاص، وهذا
نص الكتاب معرَّبًا بالحرف:
كتاب بطرك الأرثوذكس لجمال باشا:
يا صاحب الدولة إننا باسمنا وباسم الشعب الأرثوذكسي في سورية وفلسطين
نتشرف بأن نرفع إلى معارف معاليكم ما يأتي:
لقد أثَّرت بنا جدًّا العبارات الجارحة التي دارت بحق حكومتنا السنية في
البرلمان الفرنساوي، ورددتْها الصحافة الفرنسية، والتي صداها يجرح كرامتنا
نحن العثمانيين الصادقين؛ فلذلك جِئنا بالوثائق الملحقة محتجِّين علنًا على هذه
الأكاذيب الوقحة مفنِّدين هذه المزاعم الباطلة.
وهكذا فلأجل شرف الأمة العثمانية وبمقتضى الحرارة الوطنية المقدسة جئنا
نرجو من دولتكم - أنتم حامي سورية وفلسطين وأعظم المحسنين عليهما - أن
تأذنوا بنشر هذه الوثائق لأجل نُصرة الحقيقة.
وفي جميع الأحوال نبتهل إلى الله القادر على كل شيء بأن يحفظ شخص
دولتكم، ويرفعكم من مجد إلى مجد لأجل سعادة وطننا العزيز.
... ... ... ... ... ... دمشق: الرابع عشر من أكتوبر ... ... ...
... ... ... ... ... ... السنة الألف والتسعمائة والسادسة عشرة
... ... ... ... ... ... ... ... غريغوريوس الرابع
... ... ... ... ... ... ... بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
أما التقرير التابع للكتاب فهو ما يأتي معربًا بالحرف:
(إلى دولة أحمد جمال باشا ناظر البحرية وقائد الفيلق الرابع)
في هذا اليوم لا يجهل أحد ما قيل في البرلمان الفرنساوي، وما رددته
الصحف الفرنسية بشأن المسيحيين عمومًا في سورية وفلسطين.
زعموا أن لفرنسا نفوذًا سائدًا في هذه البلاد الجميلة التاريخية، التي هي جزء
من السلطنة العثمانية، وادَّعوا أن الحكومة العثمانية تستعمل وسائل القهر والتضييق
على المسيحيين في هذه الديار قاصدة ملاشاتهم بطرق متنوِّعة كالتجويع والنفي ...
إلخ.
فنحن على ثقة بأن فرنسا تحاول أن تقف عنا موقف دفاع لا فائدة له من أجل
غرض في نفسها، وإننا نحن معاشر العثمانيين العائشين منذ قرون عديدة في هذه
السلطنة أدرى بأمورنا، وأوْلى بالدفاع عن حقوقنا.
نسأل الله أن لا يجعل مصيرنا أبدًا مرهونًا إلى رأفتهم.
فباسمنا نحن بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية في سورية، وفي كل المشرق
التي هي أقدم كنيسة في الشرق نحتج بكل قوتنا على ما قيل بغير حق عن
حكومتنا العثمانية العادلة.
لا يلزمنا أن نبحث في التاريخ، وأن نسأل الأعصر الماضية لأجل إبطال هذا
الحق التاريخي التي تدعيه فرنسا؛ فنصارى سورية لم يزالوا هم قَرَابين أولئك
الذين يزعمون أنهم حَمَلتهم.
أَيْ فرنسا، هل تقدرين أن تقولي لنا عما إذا كانت حرية الأديان محترمة
تحت ظل شرائعك كما هي محترمة عندنا؟ ، وهل الكنيسة والأكليروس متمتعان
في أرضك بالحماية التي تحوطنا بها نحن الأكليروس والشعب المسيحي حكومتنا
السنية؟ .
نحن إذًا مفتخرون بأن نعلن على الملأ أنه في ظل مكارم حكومتنا العثمانية
السلطانية وعنايتها الأبوية لا مسيحيو سورية وفلسطين فقط، بل الأكليروس
المنسوب إلى فرنسا الحرة نفسها يتمتعون في ظل هذه العناية بما هم محرومون منه
في بلادهم!
وبناءً على ما تقدم كان لنا الحق أن نرى فرنسا تدفعنا إلى تجديد شكرنا لدولتنا
العلية، بدلاً من أن نعزو إليها تهمًا باطلة، ونضيف إلى ذلك القول بأن مسيحيي
سورية وفلسطين هم من عناية حكومتهم الأبوية في غِنًى عن كل عضد آخر.
أيصح أن يكون لنا ضلع إلى حكومة أجنبية عندما نكون عارفين يقينًا أن
دولتنا هي أعدل وأفضل من الحكومة التي نريد أن نختارها؟ ، إذًا يكون ذلك منا
فداء السعادة.
ونسأل - من صميم القلب - الإله القادر على كل شيء أن يحرس إلى الأبد
حكومتنا المحبوبة، وأن يوفقها إلى تحقيق جميع مقاصدها الشريفة.
وأما الحالة الحاضرة - وما أوجدته من الأزمات - فنعترف بأن مثل هذه
الأزمات هي من شأن آونة كهذه، على أنها تلطَّفت كثيرًا بعناية حكومتنا، وليس
من حكومة يحق لها أن تفتخر بالاعتناء بمثل ذلك برعاياها.
وبوصولنا إلى هذه النقطة لا يسعنا أن نضرب صفحًا عن ذكر علة سعادتنا
والمحسن العظيم على النصرانية في هذه البلاد صاحب الدولة أحمد جمال باشا ناظر
البحرية وقائد الفيلق الرابع، الذي صورته السامية تبقى مرسومة أبدًا في قلوب
المسيحيين، ومآثره مكتوبة بأحرف من ذهب في تاريخ بلادنا) .
غريغوريوس الرابع بطريرك إنطاكية وسائر المشرق.
وهناك تقرير ثالث مصحوب بكتاب أيضًا إلى أحمد جمال باشا من (نيافة)
المطران ديمتريوس القاضي قائم المقام البطريركي للروم الكاثوليك، لا حاجة إلى
تعريبه ونشره؛ لأنه طويل وأشبه بأخوَيْه السابقيْن، ويزيد بكونه لا يعرف
للكاثوليك الشرقيين علاقة لا بفرنسا، ولا بدولة أخرى أجنبية، بل بالبابا فقط.
وهذه العلاقة مع الكرسي البابوي هي دينية محضة، وربما قيل إن تقارير البطاركة
هذه لا عبرة بها؛ لأنها استُكتِبت تحت الضغط والإكراه في زمان كان السيف فيه
ينطف دمًا!
والجواب أن أمثال هؤلاء الرؤساء المبجلين يُجَلُّونَ عن أن يكتبوا خلاف
اعتقادهم، ولم نسمع قط يومئذ أن أحدًا أجبرهم على هذه الكتابة، أو أنذرهم بشرّ
إن تأبَّوْا أن يعطوا هذه الشهادات، وكانت كرامتهم دائمًا محفوظة أيام الحرب
وتوقيرهم تامًّا.
ومرة تكلم أمامي أنا جمال باشا مع بطريرك الأرثوذكس في أن يحرر شيئًا في
جريدة الشرق، فلم يجاوبه البطريرك أصلاً، وكنت أراه معه في غاية المتانة،
فرجل كهذا لا يصرح بهذه الشهادة الطويلة العريضة إن خالفت وجدانه، وقصارى
ما في الأمر أن يكون جمال باشا أرسل إليهم بأنه في مجلس البرلمان الفرنساوي
قيل كذا وكذا - فماذا يقولون هم؟ ! ثم إن قيل إن هذه الكتابة من غبطة البطاركة
وقعت يومئذ بالإكراه والإجبار - وهو ما لم يقع - فلماذا لا يقال إن إنكار بطريركي
الأرثوذكس والموارنة للمؤتمر السوري الفلسطيني المنعقد في جنيف - هو واقع
أيضًا تحت مثل هذا الضغط من الجنرال غورو، ولماذا تتبجح بذلك فرنسا وأذنابها،
ويعدونه حجة علينا؟ !
((يتبع بمقال تالٍ))