(٣٥) من هيلانة إلى أراسم في ٢٠ يونية سنة ١٨٥ كان (أميل) عليلاً وكنت مشفقة عليه في بداية مرضه من الحمى الحصبية؛ ولكنه لم يصب بالحصبة، والسبب في عدم إخبارك بذلك هو أن الدكتور كان قد تعهد بأن يكاشفك بسير المرض، ثم إنه لما لم يجد فيه أدنى خطر عليه رأى من العبث أن يوقظ ما نام من همومك، ويحرك ما سكن من دواعي قلقك، ولقد عجلت إليه العافية، فلم يمض عليه خمسة عشر يومًا حتى رُد له لباس الصحة وثابت إليه أوابد القوى، وأما أنا فكان شأني غير ذلك؛ لأن ما قاسيته من التعب في ليالي سقمه التي لازمت فيها السهاد وما كان يساورني فيها من الحزن والإشفاق - قد تزعزعت له صحتي، ووهت به عافيتي، وللطب الإنكليزي في مثل حالتي هذه دواء لابد أن يكون هو سيد الأدوية على ما أرى، وسندي في هذا الرأي ما أراه من ثقة الأطباء به في وصفه لمرضاهم، ومن إذعان هؤلاء له طيبة به نفوسهم وهذا الدواء هو تغيير الهواء. نعم إن الهواء الذي نستنشقه في مرازيون جيد غير أن أخص ما يعول عليه أطباء الإنكليز في إيصائهم المرضى بتغيير الهواء لتجديد قواهم، إنما هو الانتقال من مكان إلى آخر، والنظر في مجالي الكون ومشاهده وتغيير ما التزموه من عاداتهم، وإني والحق أقول قد أعجبت بهذا الرأي بعض الإعجاب لأني أعلم أن ضواحينا التي يتوارد عليها السياح كثيرًا غاصة بضروب المحاسن الحقيقية، ولهذا السبب لم أعارض في هذا الرأي، بل أذعنت له إذعان المريض المطيع الذي يجل أحكام العلم ويكبرها. لم تكلفنا معدات السفر كبير عمل ولا مزيد عناية؛ فإن السيدة وارنجتون بفضل خبرتها بطرق البلاد وجهاتها قد تكفلت بأن تُشْرِعَ لنا طريق السير، وسقط قوبيدون على مركبة عتيقة من المركبات المكشوف مقدمها مرت عليها أيام كانت فيها أسعد حالاً بأصحابها، وعلى فرس مُذْك (كبير السن) لا يزال فيه على كآبة منظره من القوة ما يقدره على احتمال مشاق الصعود والهبوط في أنجاد هذه الجهة وأغوارها الكثيرة، فاستأجرناهما بأجرة قليلة، وفي صبيحة يوم ظعننا استوى الزنجي البار على كرسي المركبة استواء السائق المختال المعجب بنفسه. كان وجه (أميل) وقد زال شحوبه وعاد إليه لونه يتلألأ فرحًا، ويزهر بشرًا وطلاقة؛ لأنه لا شيء يلذ للأطفال كتوقع الحوادث؛ ولكنا لم نصادف في طريقنا شيئًا منها نقص عليك حكايته فلم نلاق سلَبَة ولا حوشًا ولا أسارى مقيدين في مغارات الصخور، مع أننا قد جبنا أرضين مقفرة تحدها سواحل قحلة مهجورة معرضة لجميع ما يطرأ من ضروب هياج البحر وطغيانه. لم يكن خروجي إلى التنزه لمحض التداوي بتغيير الهواء، بل كنت أرمي إلى غرض آخر أيضًا، وهو أن ينفعل (أميل) بما يشاهده من المناظر الخلوية وصورها المدهشة، فتنتعش لها في نفسه آثار حية، فإنه يقال أن أول شيء بعث في نفس بايرون [١] تباشير ولعه ولهجه بالشعر؛ إنما هو منظر ما يوجد في هضاب إيقوسيا من البحيرات وقمم الجبال، ولست اعتقد أن (أميل) سيكون بايرون عصره، بل لا أجد شيئًا من الحق في التطلع إلى ذلك؛ ولكني أتكدر وأحزن أن رأيته من حيث هو إنسان لا يتأثر بما هو مسطور في صفحات الكون من جيد الشعر وبديعه. قد وهمت فيما علقته على هذا السفر القصير من الأمل الكثير في تنبيه القوى الحاسة في (أميل) وها أنذا اعترف لك بخطأي صاغرة، إذ قد تبين لي أني تعجلت في هذا الأمل فإني رأيته لا يشوقه إلا النظر إلى الجزئيات واستطلاع وقائع الخلوات، وهو من حداثة السن بحيث يصعب عليه إدراك الأشياء في جملتها ومجموعها. أرى أن الطريقة المثلى في تنبيه الأطفال، وبث روح الملاحظة في نفوسهم أن لا تطلب منهم الملاحظة ولا يحملون عليها، وقد سرت على هذه الطريقة في سياستي (لأميل) فلم أشذ عنها إلا مرة واحدة، ذلك أننا كنا في رأس ليزارد [٢] وما أكثر عجائبه، وإن أردت تخيلها فمثل لنفسك صخورًا هائلة على جميع الأشكال بعضها قائم وبعضها ساقط، وشيء منها متصل وآخر منفصل يهيج بينها البحر ويصطخب، ومنها ما غمره البحر فطوَّق جيده بقلادة من الزبد، ولم يبد منه سوى رأس مخروطي أملس مصقول، لا تفتأ الأمواج تغسله، ثم تصور أن بصرك يتتبع من بعيد خط السواحل فيرى ما يتخللها من نقطة إلى أخرى من الصدوع العظيمة والوهاد والمغارات المظلمة، فإذا وقف الإنسان وسط هذه المشاهد الكبرى كانت حيرته في اختيار المكان الذي يشرف منه عليها، وقفت أنا و (أميل) تجاه (كينانس كوف) وهو أحد الخُلج التي يُرى فيها البحر أجمل ما يكون وسط الأطلال وقطع الصخور، وأخذت بيده ثم قلت له انظر إلى هذه المكان نظرًا بليغًا وانقشه في حافظتك فلعلك لن ترى هذا المنظر بعد اليوم. كأني بك تقول هل القوة الذاكرة مما يأتمر بأمرنا فنأمرها بالحفظ والذكر؟ فأجيبك بأن لي بعض الحق أن أعتقد هذا إذا رجعت إلى ما دلتني عليه تجربتي، ذلك أني أيام كنت فيما يقارب سن (أميل) سافر والداي إلى مقاطعة أوفرني [٣] وأخذاني معهما، وفي يوم من أيام إقامتنا هناك صعدنا على إحدى شعاف الجبل المسمي مُنْدُور، وهناك نشدني الله والدي جاهرًا بصوته أن لا أنسى ما كنت أشاهده في تلك الساعة ما دمت حية، ولا أراك إلا سائلي عن نتيجة هذا الإقسام فاعلم أن جميع ما كان ينبسط أمام ناظري في ذلك الوقت من المشاهد المحدقة بي وهي مشاهد الجبال والربى والوديان لا يزال مرسومًا في لوح ذاكرتي، ومن هذا تعرف السبب الذي حملني على اتباع هذه الطريقة مع (أميل) نعم إن والدي قد أوصاني بعد هذه المرة بحفظ منظر آخر لا أذكره الآن، فلم يجد ذلك شيئًا في الحفظ، وأنا أستنتج من ذلك أنه إذا تيسر في وقت ما أن يكون للمربي شيء من السلطان على حافظة الأطفال؛ فإن هذا السلطان من الأمور التي لا ينبغي الإفراط في استعمالها. إذا وُكِّل (أميل) لنفسه كان دهشه بالأشياء التي يراها أكثر من إعجابه بها، وهذا مما يحملني على اعتقاد أنه لابد في رؤية الأمور على حقيقتها كمال الرؤية من شيء من الخيال، خذ لذلك مثلاً وهو أن الطفل لا يعرف من البحر سوء دائرة الأفق التي يحويها بصره، وهي دائرة ضيقة بالنسبة للواقع؛ فإن حجاب المسافات يحول بينه وبين ما وراءها من بقية البحر، فإذا كان الشاعر يفنى عن شهوده وترتفع نفسه إذا وقف أمام مشهد المياه الجليل، فذلك لأنه ينظر بفكره إلى ما وراء الأفق من امتداد المحيط؛ فإنه متى انفك ساعة من ربقة عجز المشاعر الظاهرة تتسع في خياله حدود العالم المشهود، فيضيف إلى هذه البقعة المائية المضطربة التي لا يرى منها إلا جزءًا حقيرًا مهما كانت دقة بصره صورة عدم التناهي والجلال، وكلاهما من مدركات العقل لا دخل للحس فيهما، وبالجملة فإنه يرى الجلال والعظم في ماهية البحر ومعناه الذهني لا في صورته المرئية. إن خلو نفس (أميل) من ملكة التفكير التي لا بد أن تظهر فيه بتقدمه في السن يكشف له سر عدم اكتراثه بما يراه من مناظر الكون، بل تقليده غيره في الإعجاب بها كما يبين لي من انبعاث شوقه إلى بعض جزئيات ما كانت تخطر ببالي مطلقًا، ولهجه بها لهجًا شديدًا ذلك أن معظم الصخور التي يتكون منها رأسًا ليزارد ولندس إند (طرف أرض) وضع لكل صخرة منها اسم خاص بها، كأنه يخاطب الخيال ويوقظه فيريك الدليل الخريت منها صور العمود وعرين الأسد والمطبخ والمنافيخ والمقلاة والفرس ورأس الدكتور جونسن ووجه الدكتور مسنتاكن وغيرها فمن هذه الأسماء ما ينطبق ولا شك على مناسبات خرافية تختلف درجة قربها أو بعدها من الحقيقة، غير أن منها أيضًا ما هو مبني على وجود وجوه شبه ظاهرة للعيان بين مسمياته الأصلية وبين تلك الصخور التي وضع لها، ومن المحتمل أن تكون هذه الألعاب الكونية والصور الاتفاقية والحجارة التي تمثل هيئة الإنسان أو شكل شيء من الأشياء مع عدم نحتها بالمنحات هي التي بعثت في نفوس الأولين فكرة صناعة التماثيل، ومهما كان أصل هذه الصناعة؛ فإن هذا الفن الفطري الاضطراري الذي نقشته على الصوان يد الخالق القادر هو من الغرائب غير المألوفة التي هاجت شوق (أميل) إلى معرفتها؛ فإنه كان يجتهد من نفسه في إدارك ما بين قطع الصخر وبين بعض الأشياء المعروفة له تمام المعرفة من وجوه الشبه التي لم تغرب أيضًا - كما تدل عليه أسماء تلك القطع - عن فكر صيادي السواحل السذج البسلاء. من عهد أن رأيت جميع النموذجات الأصلية لفن العمارة ظاهرة في المغارات وسلاسل الصخور لم يسعني إلا الارتياب في أن هذا الفن من مخترعات الإنسان، ذلك لأنك تجد فيها أصل النافذة القوسية والقباب بما يقوِّمها من الارتفاع والانحناء والدعائم الثقيلة والعمود الرفيع المخطط والشبابيك الطويلة المقبوة والعماد وغيرها من الأشكال الكثيرة، فليس على الخيال إلا أن يتوجه إلى هذه الكتل الصخرية المتراكمة حتى يميز النظر من بينها مُثُلاً لمعابد عتيقة وصفوفًا من تماثيل صخرية ذات وجوه ناقصة وزخرفًا رمزيًا ووحوشًا خرافية لو فصلت من الصخر لكانت شخوصًا مستقلة. إني على كوني لست من العلماء، ولا من الأثريين كان بودي أن أعلم (أميل) في هذه الفرصة الجميلة بأن ألقي في ذهنه معنى للآثار السلتية [٤] التي لا تخلو منها بعض جهات كورنواي وأكثرها شيوعًا هو كما تعلم الدوائر القسيسية [٥] والأحجار الطويلة القائمة في الأرض على قواعدها كالمسلات والرؤوس الصوانية الطبيعية التي صارت بعد عمل صناعي قليل هي الحصون الأولي للبلاد، تحميها من لصوص البحر، ولقد كان أشد هذه الآثار استمالة لي مدرَّج بيدين في رأس ليزارد. ومما يحمل على الظن بأن يد الإنسان هي التي نحتت هذا المدرج في الصخر ما يشاهد في بعض أرجائه من آثار أعمال تلك اليد الفطرية التي محا نصفها كرور العصور، وما نبت من الأعشاب الدقيقة على سطح الصخور، ومن الأقوال المروية في شأن ذلك المدرج أن الدوائر العظيمة الناتئة في سمك الحجر كانت فيما غبر من الزمن صفوف درجات، وأن السلت قد انتهزوا حينئذ فرصة وجود منحنى خطته يد الفطرة، ووهدة يزيد البحر في قاعها فجعلوها مسرحًا لأبصار النظار وعملوا لجمعهم حولها، إذا صحت هذه الرواية فليت شعري ماذا كان المنظر الذي كان يحشر الناس له في هذا المكان؟ إن كان ذلك هو الكون وعظمه؛ فإنه مشهد جدير بإثارة وجدان الإعجاب والإكبار خصوصًا في هذه البقعة؛ ولكني أرجح أن ذلك الاجتماع كان لقضاء بعض المناسك الدينية لوجود جملة من الصخور السوداء ناهدة على سطح الأمواج تجاه المدرج، يقال أن القسيسين كانوا يتخذونها مذابح للقرابين وتلك شعائر أقل ما فيها العظم والجلال. يوجد أيضًا في هذه الناحية حجارة عمودية يتألف من تناسقها دوائر متناسبة الأجزاء تسمى بالكروملك، يكتنفها نبات الخلنج الأدكن المحزن، فيورث رائيها الغم والخوف؛ ولكن أنى (لأميل) أن يكون له كبير اشتغال بمثل هذه الآثار القديمة، وهي خلو من أثر صناعة النقش ومجهولة التاريخ وكيف يرجي منه الاهتمام بها؟ على أني أرى أن نفسه قد انفعلت بآثار كامنة فيها لما شاهدناه ستظهر فيه يومًا من الأيام، وإني أستند في هذا الأمر على أمر صبياني جدًّا، غير أن كل شيء في عالم الطفولة هو أكبر مما يظن به ودونك قصة هذا الأمر: كان يوم ١١ يونية عيد ميلاد (أميل) فأراد أن يشهر هذا اليوم العظيم بمأدبة خفيفة موافاة لما تقضي به عادة أهل البلد الذي نسكنه، وفوق ذلك فإنه في هذا العيد قد عمد إلى اختراع افتحره افتحارًا، فقد أخذ بثوبي وسار بي إلى بستان، فرأيت فيه وأنا في غاية الدهش كومًا من الأحجار المتوسطة في الحجم مرتبة ومرصوفًا بعضها فوق بعض بنوع من الحذق والصناعة، وعددتها فوجتها سبعة، فعلمت من ذلك أنه قد استفاد من مدرسة قدماء السلت؛ فإنه لما فهم من الآثار التي زرناها على طول الساحل أنها أقيمت تذكارًا لحادثة من الحوادث، طبَّق ما رآه على نفسه، فأصبح كما ترى وله أن يقول ما قاله هوراس [٦] من قبله وهو (قد رفعت لنفسي أثرًا) . على أني أسائل نفسي لماذا يسمى سن (أميل) بسن التمييز والتعقل؟ فليت شعري أي شيء يتعقله الطفل في السابعة من عمره؟ لا أراه يتصور الجزئيات فإنه لم يعمر من الزمن ما يكفيه لتصورها، ولا يدرك الكليات فإنه يجب لإدراك هذه أن يكون العقل قد وصل إلى حد معلوم من الرشد، وإني إذا حكمت بمقتضى ما أدتني إليه تجربتي واختباري أقول إن (أميل) لا يزال أكثر انبعاثًا إلى العلم بالأشياء منه إلى الحكم عليها، فالذي يهمه ويشغله إنما هو كيفيات الموجودات الظاهرة، وبعض دلائل الفكر وأماراته، وسأبين لك مرادي بمثل آخذه من ضروب تسلينا فانتظره في المكتوب الآتي اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))